أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 1st September,2000العدد:10200الطبعةالاولـيالجمعة 3 ,جمادى الثانية 1421

شرفات

شخصيات قلقة
إبسن النرويجي (1828 - 1906م)
عاش ممسكاً بمطرقة القسوة
مرسوم على قبر إبسن صورة يد ممسكة بالمطرقة! إنها أبلغ تلخيص لشخصيته، فهو ثائر عنيد ومكافح إلى حد الضراوة,, لدرجة ان من ينظر إليه للوهلة الأولى لا يتصور ان هذا الرجل شاعر مرهف وكاتب شديد الحساسية، إذ يبدو رجلا غليظ الملامح مقطب الجبين، يرتدي معطفاً تقليدياً ويحبس نفسه حتى عن أسرته كي يكتب.
تسير به الحياة وفق نظام دقيق دقة الساعة، ويسعى في غيرة إلى الحصول على الأوسمة والنياشين، ويهتم بحماية حقوقه المادية واستثمار أمواله حتى آخر فلس! فأين هذه الحياة القاسية من روح الشاعر؟!,, ربما يكون مفتاح اللغز في كفاحه المرير طيلة ما يقرب من أربعين عاماً، عاشها إبسن صديقاً للفقر وللغربة والوحدة، يحاول ان يكتسي بقناع من الصلابة، حتى بعدما استقرت به الأحوال ظلت نفس الأفكار تراوده وهو في سن الشيخوخة وتخترقه اختراق الحراب، فبسبب الفشل في مراحله الأول ظل طيلة العمر يعيش من خوف دائم من الفشل.
كان إبسن ابناً لرجل هوى من مكانته المبرزة في بلدته الصغيرة إلى درك الفاقة والعزلة، فأشاح عنه الأقارب الأثرياء، واضطر إبسن للعمل في صيدلية ببلدة ساحلية كي يتقن مهنة الصيدلة عملياً، فأمضى ستة أعوام بائسة، يحتقره أعيان الناحية، ويحتقرهم بدوره ساخراً من تصرفاتهم، ويقضي أوقاته وسط زمرة صاخبة من شباب الأدب الذين لم ينضجوا بعد.
هذه الغربة المبكرة عن بلدته أرضعته قسوة لا ترحم أحداً، فقطع صلته بأسرته باستثناء اخته الصغرى هدفيج، وراح يكافح في يأس كي يعيش من قلمه سواء في بيرجن أو في أوسلو، وكثيراً ما يمضي أيامه على الطوى، وعندما حصل في بيرجن على عمل كمخرج لمسرح اولي بول القومي كان يتقاضى جنيهاً ونصف في الأسبوع، وكان خجله يمنعه من توجيه أية ارشادات للممثلين، إذ يباشر التدريبات دون أن ينبس ببنت شفة، رغم ما يبذله من جهد في تخطيط المناظر وترتيب الأثاث,, وجاءت صدمته كمخرج عندما فشلت مسرحياته فعاش يلعق المرارة والوحدة.
مرة أخرى يشعر ان الحياة تلطمه على وجهه وتعامله بقسوة لا يستحقها ورغم ذلك ظل مُصراً على إيجاد مسرح قومي يتغنى بالنرويج عندما كانت تنعم بالحرية في العصور الوسطى، وحين انتقل إلى مسرح أوسلو حمل معه أيضاً جرثومة الفشل، إذ سرعان ما أغلق المسرح أبوابه ورفض المسؤولون اعطاءه منحة الشعر بجانب ان التيار المحافظ استقبل أول مسرحية يكتبها ويجد فيها نفسه ملهاة الحب عام 1862، بعاصفة من الاستياء والتذمر انطوت، جوانح إبسن في تلك الفترة على خليط من مشاعر الغضب والعار، ليس لفشله على المستوى الشخصي فحسب، بل لأن النرويج الوطن والأم رفضت مشاركة الدنمارك في صد الهجوم البروسي على سلزفيج هولستين برغم ما أبدته من تعاطف، وعبَّر عن هذا الخزي والتخاذل بلغة ساخرة في صديق الشدة وبراند .
صدمة تركت أثراً لا يمحى، ولم يغتفره أبداً للنرويج، فانتابه مرض عصبي وارهاق شديد، مما اضطره رغم نجاح مسرحيته المطالبون بالعرش إلى الرحيل، بمجرد أن حصل على منحة قدرها تسعون جنيهاً وعلى بعض التبرعات من أصدقائه، غادر من وجه الوطن بأكمله تاركاً بيته ومتاعه للدائنين,, منذ تلك اللحظة تبدأ حياة المنفى والرحيل وقسوة الآخر على الغريب,, مر إبسن على برلين ورأى الأهالي يمتطون المدافع في حربهم مع الدنمارك، ثم انتقل إلى روما وعاش عامين في فقر مدقع حتى ان زوجته وابنه لم يكونا يجدان الخبز، وكأنه اغتراب وفي عنقه وزر بني وطنه المتخاذلين، ولعله شعر في قرارة نفسه بالخزي أيضاً لتخلفه عن الاقتداء بأصدقائه الذين تطوعوا في الجيش الدنماركي مبرراً ذلك بأن الفنان يقاتل بأسلحته الخاصة.
تربطه بالوطن علاقة عميقة ومعقدة، وتفوق أية علاقة إنسانية، كان يكره قسوة الوطن عليه بقدر ما كان يصبو للاشادة به أملاً في ان يصبح شاعراً قومياً عظيماً، فلما نبذه قومه حلت القطيعة الروحية والحدة التي تظهر في رسائله، وكأنما الجراح العميقة تتناسب دائماً وقوة المشاعر، فمهما أبدى ضجره من القيود الخانقة في النرويج ومهما ارتحل فإن ذكرى الوطن تطارده ولا ينقطع عن التفكير فيه والتهام الجرائد، حيثما وجدها في محطات مدن أوروبا,, روما,, نابولي,, درسون,, ميونيخ.
سبعة وعشرون عاماً من الحزن والغربة والقسوة واللغات التي لا يعرفها والغرف المفروشة، والحياة تختزل في صومعة للكتابة وليس بداخله سوى لهفة واحدة أن ينال عما يكتبه ميدالية أو مبلغاً مالياً يصبح سلاحاً ضد قسوة الحياة ويحقق له حريته الروحية,, حياة خالية من الدفء والأصدقاء,, يقول إبسن: إن الأصدقاء من الكماليات الباهظة,, وليس في وسع إنسان يستثمر كل رأس ماله في دعوة ورسالة في الحياة أن يحتفظ بهم !.
وزادت طبيعته الخجولة من حساسية ذهنه حتى ليعترف بجبنه من الناحية البدنية، فيذكر عندما ضُبط وهو طالب مفلس يغازل الفتاة ريكا ابنة الثري هولست لم يقو العاشق على مجابهة الأب وفر هارباً,, وظل طيلة عمره يخاف من الكوليرا أو من عضة كلب مسعور، أو أن يلقى مصرعه في حادثة بالطريق,, لذلك امتنع عن الاشتراك في أية رياضة تنطوي على نوع من المجازفة، وشيئاً فشيئاً نفى نفسه بعيداً عن الوطن والأصدقاء وفرض على نفسه حياة مملة وكئيبة تكاد ان تخلو من الأحداث، مبرراً ذلك بأهمية أن ينظر الإنسان عن بعد فالتفاصيل تربكنا,, وعلينا أن نبتعد عما نريد أن نصدر فيه حكمنا .
هكذا تلخصت حياته في غرفة ومكتب ومجموعة من الأوراق ونظام حديدي يسير بالدقيقة, أمده غضبه على النرويج بسوط لاذع ودفعه كفاحه كمؤلف إلى دراسة البشرية المقهورة المغلوبة على أمرها، فكانت بطلته نورا في بيت الدمية أول امرأة تثور قبل ثورات النساء، وينبع تمجيد إبسن للتضحية من استمتاعه الشديد بممارسة الإرادة والهيمنة على تقلبات الظروف إلى درجة العزلة الاختيارية عن الأسرة، وقد كتبت حماته تصف علاقته بزوجته قائلة: إنهما شخصان وحيدان, لا يعيش كل منهما إلا لنفسه فقط .
إن إقبال إبسن على التضحية بكل شيء في سبيل فنه إن هو إلا نقطة الضعف الأخيرة في نفس غاية في النبل,, نفس أصبحت قاسية من كثرة ما عاشته من آلام,, ويعود إبسن إلى النرويج وقد تجاوز الستين من عمره وأصبح أهم كاتب مسرحي في أوروبا، بل أعظم مؤلف مسرحي أنجبته أوروبا بعد شكسبير، ورغم ذلك ظل حتى آخر لحظة عنيداً وحيداً.


الآن صرت من فولاذ,, اتبع النداء
إلى ضياء القمة والوهج

بينما يتخبط الأشقياء من تحت في الحياة
شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved