أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Wednesday 6th September,2000العدد:10205الطبعةالاولـيالاربعاء 8 ,جمادى الثانية 1421

مقـالات

نحن والتلفزيون
عولمة الحزن وجماعية الخوف
د, علي بن شويل القرني
يجب أن نعتاد ونحن في عصر الاتصال الجماهيري والكوكبية الحديثة على لحظات جديدة من الزمن النوعي، وتوقفات خارقة في ذاكرة الجديد الذي لم نكن لنألفه، والمستحدث الذي يصدم خيالاتنا,, نحن اليوم نعيش عصرا جماهيريا نعيشه كلنا وجميعنا,, شرقنا وغربنا وشمالنا وجنوبنا في كرتنا الأرضية الضيقة التي تقلصت الى مجرد قرية إلكترونية صغيرة,, نحن فعلا في عصر الاتصال الجماهيري الحقيقي الذي يتجسد في قنبلة التلفزيون في النصف الثاني من القرن العشرين، وتداعياته التي افرزت شكليات اليكترونية يمكن وصفها بالنووية الاعلامية المتمثلة في إنترنت القرن الحادي والعشرين,, نعيش اليوم ونتمدد على كل الاحداث في العالم، ونتنفس مشاعر حزن الآخر في فلسطين أو الصين أو البرازيل,, ونستنشق فرح طفل، او سعادة أم، أو انتصار انسان، سواء كان ذلك في شرقنا الأوسط او جنوبية امريكيا، او شماليات اوروبا، او غربية استراليا,, نحن جزء لا يتجزأ من هذا العالم شاؤوا ام ابوا، وهم في المقابل امتداد لهيكلية واقعنا على هذه الأرض، ووجودنا الحاضر في التاريخ الراهن,, احداث العالم كثيرة ومعقدة، وذات تنوع في الادراك والمضمون وتفاقم في الحجم والمساحات واختلافات في الشكل والمقاييس,, فهذه انشطارات في حركة الانسان، وتصدعات في مواقف المؤسسات والدول، وتشكلات في تراتبية المواقف والقيم الفردية,, هذه أحداث عن اصطدام قاطرة، وانقلاب شاحنة، وغرق غواصة، وتحطم طائرة,, هذه يوميات الأخبار العالمية، أو منيو المساء التلفزيوني الذي اعتدنا عليه، أو يجب ان نعتاد عليه في عصر الاتصال الجماهيري الحالي,, ولم يعد امامنا سوى توقع المفاجآت وانتظار تدفق الأحداث وتوالي القفز عبر شاشات التلفزة لملامسة ضحايا الكوارث، وتعزية أمكنة السقوط، أو الشد على ايادي الفائزين في الانتخابات والاولمبياد ومساجلات المواقف والانتفاضات، وأبطال المسلسلات ونجمات الافلام الهليوودية.
نحن نعيش اليوم في خلفية سقوط طائرة الخليج ولن تنفك عن ذاكرتنا أو تهرب من خيالاتنا مشاهد السقوط الآدمي، والموت المفاجئ، ولحظات السكوت الأخير,, وستظل عالقة في خبراتنا المباشرة لحظات البحث عن منثورات الانسان,, هذه وثائق السفر,, وتلك اوراق,, وهناك فوق الماء دمية طفل,, وتحت الماء مقاعد الطائرة,, وفي كل مكان حطامها وامتعة ركابها,, وعلى وجوهنا جميعنا علامات الحسرة,, ومشاهد الحزن الجمعي,, ماذا نقول؟ وماذا نفعل؟ ولكن يظل هذا قدر الله الذي لا مهرب منه، سواء كنا تحت الماء أو فوق السحاب، أو بين أهلينا أو على أسرة نومنا,, لا راد لقضاء الله,, والحمد لله في كل حال,.
وهل عسانا نصاب بهذا الحزن العام، والوجوم الطويل، ولحظات التفكير العميقة، لو كنا نعيش في عصر غير عصر اتصالنا الجماهيري وفي زمن غير بداية القرن الحادي والعشرين,, هل كان بامكاننا ان نعيش لحظة عالمية نتجمد فيها خلف شاشات التلفزة لنستوقف الحدث ونفتت جزئياته، ونلملم متفرقاته، ونستجمع شتاته، لنصل الى معادلة وتفسيرات، صورة واخبار، موقف وآراء,, لم نكن لتتهيأ لنا كل هذه الاحزان جميعها والاخواف بانواعها، ولم نكن لننتفض على الوسيلة، او نخاطر بآرائنا، أو ندس بأنوفنا في شئون الطيران وسلامة العربة الجوية دون أن يوفر لنا جهاز التلفزيون زخما غير مسبوق، وصورا غير متوقعة، واحاسيس غير عادية,, وهو أي التلفزيون فيما يبدو ظاهريا انه جمع متفرقات الشعوب، وشرائح المجتمعات، وامكنة الجغرافيا، ومسافات الأزمان كل ذلك في بث مباشر من مواقع السقوط، وساحات الحرب، ومنتديات الساسة، وشوارع الانتفاضات الشعوبية في كل انحاء العالم,, وكل هذا ادخلنا فيه جهاز التلفزيون، أو أدخلنا في صندوق التلفزيون,, أو اننا كما كنت قد اشرت في بحث سابق لي نعيش في عصرنا الحالي داخل جهاز تلفزيون ضخم جدا يحيط بنا من كل جانب، ويراقبنا على مدار الساعة، ويعلن للعالم مشاهد الحزن الشخصي، ولحظات الفرح الخاص لكل الناس وفي كافة الانحاء,, ويلغي بالتالي خصوصية العزاء او شخصية الاحتفالات وطقوسية الأداء العائلي او حميمية السلوك الاجتماعي,, فلم يعد احمد وعبدالعزيز وعبد الله الذين ماتوا من الخليجية ملكا لأهلهم بل عادوا يرحمهم الله شخصيات دخلت كل البيوت، ولم تعد كل من سارة أو نشوة أو هبة او وفاء بنت ابيها فقط بل انهن اضحين بنات العالم اجمع,, وهكذا استطاع التلفزيون بوضعيته الجديدة ان يخلط الخاص بالعام، والقريب بالبعيد، ويلغي فواصل المسافة وحدود السياسة واوهام السيادات الوطنية التي كانت تمثلها الدولة القطرية في مرحلة ما قبل العولمة.
ونعود للأثر الذي يحدثه دوي الغطاء التلفزيوني للحدث، وما أثره علينا، وهل هو تقدير حقيقي للواقع أم انه مبالغة مثيرة للخيال,, هل العروض والاستشهادات والصور التي تبلغناها من الCNN او تلفزيون البحرين او صحافة ومجلات العالم هي بنفس الحجم الذي نواجهه في مخاطر الطيران؟ هل سلامة طائرات العالم في خطر حقيقي ام التلفزيون قد قام بتضخيم حادثة او عدد من الحوادث التي روع بها الناس واشعرهم ان الطائرة القادمة ستسقط,, وركاب الرحلة التالية سيهوون على الارض,, وبمعنى آخر هل الواقع الذي ينقله التلفزيون هو واقع حقيقي لما هو حاصل ولما نلمسه من خبرات مباشرة للحدث والناس والحياة، ام انه واقع متخيل تلعب فيه كاميرات التلفزة تشويها للمشاهد وتدويرا للاحداث وتحريكا للوقائع؟ اسوق هذا الموقف لأن سقوط احدى طائرات طيران الخليج كادت ترسخ قناعات لدينا ان الكوارث باتت هي العدو العالمي رقم واحد الذي يحصد اعدادا كبيرة من سكان المعمورة,, وتوقفت عند تصدير التلفزيون لهذا الاحساس لدى الناس مما جعلني ابحث في الرقم واستجمع الأعداد واربط ذلك بمتغيرات الزمن، والتقنية، وعلاقات الحصد الأخرى في العالم، وتحديدا المركبة الأرضية,, السيارة ولا سيما ونحن نعيش بداية حملة وطنية شاملة في بلادنا هذه الأيام هدفها سلامة الإنسان وامنه على هذه الأرض المقدسة.
* وأول هذه الحقائق عن الطيران ذاته، فخلال احصائيات حوادث الطيران في العقود الثلاثة الماضية، نلاحظ ان عدد ضحايا عقد السبعينيات وصل الى سبعة عشر ألفاً وستمائة وتسع وستين (17669) ضحية، وعقد الثمانينيات ثلاثة عشر ألفاً وستمائة واربع وخمسين (13654)، بينما عدد الوفيات خلال العقد التسعيني وصل الى اثني عشرا ألفاً وستمائة وثماني (12608) حالات,, ومع الزيادة في أعداد رحلات الطيران، الا ان أعداد الضحايا في تناقص,, وهذه نتيجة مطمئنة في اتجاه سلامة الطيران,.
* شهد العالم أسوأ سنوات متتالية من حوادث الطيران في اعوام 1972، 1973، 1974، اضافة لعام 1985م حيث زاد عدد ضحايا الطائرات عن الفي (2000) فرد في كل عام من هذه الاعوام.
* واذا قارنا ذلك بعام 1999م كان عدد الحوادث عشرين حادثا جويا راح ضحيتها ستمائة وواحد وأربعون (641) أي أقل من الثلث أو الربع لبعض السنوات السابقة، بينما وصل عدد الضحايا عام 2000م مع حادث طائرة الخليج إلى ثمانمائة وخمسة وعشرين (825) فردا.
* وبحسابات اخرى عن صناعة الطائرات، نجد أن أهم ثلاث شركات عالمية في صناعة الطائرات المدنية هي البوينج، ومكدونالد دوجلاس، والايرباص,,، وقطعت طائرات هذه الشركات ارقاما خيالية في اعداد الرحلات,, فمثلا قطعت طائرات الايرباص حوالي سبعة عشر (17) مليون رحلة، وطائرات مكدونالد دوجلاس حوالي اربعة وثمانين (84) مليون رحلة جوية، وطائرات البوينج إلى حوالي مائة وخمسة وسبعين (175) مليون رحلة,,, واذا نظرنا الى هذه الارقام الخيالية من الرحلات ناهيك عن الأميال الجوية التي تقطعها الرحلات نلاحظ ان الطيران يظل هو الوسيلة الأكثر أماناً بمشيئة الله سبحانه وتعالى مقارنة بوسائل نقل اخرى حديثة.
* ولاشك ان السيارة تمثل الأداة الأكثر حصدا للأرواح البشرية في كل المجتمعات,, وعلى سبيل المثال في عام 1998م وصل عدد ضحايا السيارات إلى مليون ومائتي حالة وفاة في العالم، بينما بلغ المصابون حوالي تسعة وثلاثين مليونا,, وفي نفس العام (1998م) بلغت وفيات الحوادث الجوية في العالم الفا وثلاثمائة وخمسة وعشرين (1325) فردا فقط,, مما يشير الى ان نسبة ضحايا الطيران تمثل نسبة واحد الى ألف مقارنة بوفيات الطريق,, أو نسبة واحد الى اربعين ألفاً بحساب اعداد الوفيات والمصابين,, بمعنى ان كل حالة وفاة في الطيران يقابلها أربعون الف حالة وفاة او اصابة من جراء حوادث الطيران.
* والمملكة تحصد حوادث السيارات فيها سنويا حوالي اربعة الاف نسمة وحوالي اربعمائة الف مصاب، اي ما يعادل حمولة حوالي عشرين طائرة سنويا من المتوفين، والفي (2000) طائرة من المصابين.
ويظل سؤالنا عن حجم ومساحة واهتمام التلفزيون بحادث طائرة واحدة وانشغال العالم كله بشأنها بينما توجد في العالم ملايين عديدة من حوادث الطرق، تعادل مائتي الف حادث طيران سنويا,, والعالم من خلال التلفزيون ينشغل بحوادث عشرين طائرة سنويا، بينما يتناسى ما يعادل من الوفيات والاصابات حمولة (200000) مائتي الف طائرة سنويا يسقطون على وسط وجنبات الطرق في العالم,, والأهم في هذه المعادلة ان هذه الكوارث الحقيقية تمر امام التلفزيون في المملكة والعالم دون ادنى اهتمام بخطر هذه الوسيلة اوتقدير حقيقي لحجم الكوارث التي تحدثها,,وهو ربما ما تحاول ان تحققه الحملة الوطنية الشاملة للتوعية المرورية,, وهذا أملنا ان شاء الله.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved