أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 9th September,2000العدد:10208الطبعةالاولـيالسبت 11 ,جمادى الثانية 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
شياه محظوظات (6)
من أغاني الرعاة للشابِّي
في الرباعية السادسة من هذه القصيدة يقول الشابي:


وامرحي ما شئت في الوديان، أو فوق التلال
واربضي في ظلها الوارف إن خفتِ الكلال
وامضغي الأعشاب، والأفكار في صمت الظلال
واسمعي الريح تغني في شماريخ الجبال

أحس بأن موقع هذه الرباعية تأخر قليلا، إذ كان يجب أن تكون هي الخامسة، وتكون (وإذا جئنا) هي السادسة، وذلك لما فيها من دعوة للانطلاق والمرح في الوديان، وفوق التلال، والاستمتاع بظلالها المديدة الوارفة عند إرادة التخلص من التعب والجهد، ودعوتها أيضا إلى مضع الأعشاب وترديد الأفكار في ركن هادئ من أركان المرعى الجميل، بينما الريح ترسل أصواتها الحلوة بين قمم الجبال والشعاب, هذه بلا شك حريةٌ في الانتقال في المكان والزمان والحركة، والإمساك والتناول، تتفق مع المراعي خارج الغاب، وهي تضاريسُ تكون عادة في السهول والمرتفعات العارية عن أشجار الغاب التي تحدّ عادة من الحركة، وتقيد من حريتها, ونلاحظ أن مشاهد هذه الرباعية تتوالى في تسارع عجيب شبيه بحالة الرباعية الثالثة، فقد ابتدأ الشاعر كل بيت بفعل أمر، يبتدئ إيقاعه بنهاية الذي قبله، وهكذا، مع إعطاء الحرية في البدء بأيها شاءت، لأن العطف بالواو لمطلق الجمع، ولا يدل على ترتيب ولا تعقيب، ونفهم كيف ترتاح الخراف في ظل التلال الوارفة وتمضغ أو تجتر الأعشاب، ولكن الذي لا نعرفه هو كيف تمضغ الأفكار؟ وقبل ذلك لا نعرف ان لها أفكاراً، إن لم يكن هذا ضربا من الإيغال في التشخيص لهذه الشياه، فإنه يستوجب أن نفهم ذلك في الإطار السياسي الذي أشرنا إلى أن القصيدة تحتمله، وتتطابق مواصفاتها معه، وتدل عليه، وفي مقابل الرباعية الثالثة التي يأتي التدبيج فيها في البيت الرابع، ويختفي في الأول والثاني والثالث، يأتي التدبيج هنا (أي في السادسة) في البيت الأول والثاني والثالث، ويختفي في الرابع، وذلك نوع من الإيقاع الخفي في النص، والمتماثل بشكل معكوس، مع ملاحظة أن أفعال الأمر من الثالثة إلى آخر السادسة، كلها ثلاثية، واقعة في أول الأبيات ما عدا واحداً: (وانشقي)، وكلها افعال متعدية ما عدا واحدا أيضا هو (اربضي)، والتعدي حالة أفسح للفعل، وأظهر لأثره، فكأن عملها في مفاعيلها دليل على قوتها وفاعليتها وشدة تأثيرها على فضاءات المفعولية في المرعى, ان الشاعر الشابي يؤمن بفلسفة: (أنا أفعل فأنا إذن موجود)، يريد من أمته العربية وشعبه التونسي أن يفعلوا شيئا ما في معترك الحياة، ليستنقذوا أنفسهم، ويمتلكوا حريتهم، ويظفروا بكل معاني الحياة، كما يود الراعي من شياهه أن تفعل ما تشاء في المرعى، من ثغاء ومراح، وقفز وغناء، واقتطاف للعشب، وسماع لأصداء الحياة، إلى غير ذلك مما ينبغي أن تشترك به في أفراح المراعي.
وفي بقية الرباعيات يتحدث الشاعر عن محتوى الغابات، وما تضمه في أحشائها من نباتات وأزاهير، تتميز بالنضارة والبكارة والطهر، إنه يطمح إلى عالم خال من دنس الثعالب والذئاب، لا خبث فيه ولا خداع، مفروش بالزهر، محوط بالأهازيج، وذلك شأن كل الرومانسيين في دعوتهم إلى حياة الغاب، واعتزال مواخير الحياة:


إن في الغاب أزاهيراً وأعشاباً عذاب
ينشد النحل حواليها أهازيجاً طِراب
لم تدنِّس عطرَهَا الطاهر أنفاسُ الذئاب
لا، ولا طاف بها الثعلبُ في بعض الصحاب

تقوم الرباعية على جملة واحدة اسمية هي إن في الغاب ازاهيراً ، أما ما جاء بعد ذلك فهو تابع للأزاهير على سبيل الوصف، على أن لا ننسى أن محور الكلام ومركزه في هذه الرباعية وما يتلوها من رباعيات هو الغاب، ففيه يجتمع كل شيء عذب حلو، تقوم عليه الحياة العذبة الصافية، أو هو يكملها ويجملها، ويعطي لها نكهة وطعماً في أزاهير وأعشاباً، ونحلاً بعسله وغنائه، وصفاءً ونقاءً، وشذاً وروعةً وسحراً، وهدوءاً وظلالاً، ونسيماً رفيقاً في الرباعية الثامنة ، وغصونا راقصة، مرقصة للأضواء، واخضراراً أبدياً خالداً لا يزول:


وشذاً حلواً، وسحراً، وسلاماً، وظلال
ونسيماً ساحر الخطوة، موفور الدلال
وغصوناً يرقُص النّورُ عليها، والجمال
واخضراراً أبديا، ليس تمحوه الليال

إن الشابي إذن لا ترضيه مظاهر الجمال الزائلة، وأعراضه المتغيرة، بل هو يَنشُد الجمال الأبدي الخالد، الذي يتجدد كل يوم ويتزايد، وتتوق نفسه إلى اللامنتهي الذي تغنى به في أكثر من قصيدة من قصائده الأخرى، فذاك هو الجمال الحق، ولا خير في حياة مهددة بالزوال، وكأنه يلحظ ان ما يصيب الناس من الإحساس بالملل والسآمة إنما مرده إلى هذه الأعمار البشرية الشائخة، المثقلة بالأعباء، المكفهرة بالآلام، المسبوقة بالعدم، والمنتهية إلى عدم، بينما جمال الغاب متصف بالبراءة والطهر، والحلاوة والعذوبة، والانطلاق من القيود والحدود، فهو يعِد نفسه وشعبه وشياهه بمثل حياة الغاب ذي الظل الظليل:


لَن تملِّي ياخرافي في حمى الغاب الظليل
فزمان الغاب طفل، لاعبٌ، عذبٌ، جميل
وزمان الناس شيخ عابس الوجه، ثقيل
تمشى في جلال فوق هاتيك السهول

هذه هي الرباعية الوحيدة في القصيدة التي جانبها التدوير أو التدبيج في جميع أبياتها، فصدورها كاملة الانفصال عروضيا عن أعجازها، ليحقق ذلك الانفصال كل معاني الانفصال بين زمن البشر وزمن الغاب.
د, محمد العيد الخطراوي

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved