أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 14th September,2000العدد:10213الطبعةالاولـيالخميس 16 ,جمادى الثانية 1421

الثقافية

روايات في السينما
أحدب نوتردام أو شهوة الربح عبر التبسيط
إبراهيم نصر الله
لم يكن تحويل الروايات الكبيرة الى أفلام سينمائية أمرا سهلاً في أي يوم من الأيام، لا لأن هذه الروايات غير قابلة لذلك، بل لأن لكل رواية تاريخها الخاص في عقل ووجدان كل قارئ لها، فإذا بالرواية نفسها مجموعة روايات في آن، تبعا لنوعية الشخوص الذين يحبونها ويتعاملون مع عوالمها.
من هنا أدرك كتاب مرموقون هذه المعضلة فقالوا قولتهم القاطعة، على غرار ما فعل غابرييل غارسيا ماركيز حين رفض تحويل روايته الكبرى مائة عام من العزلة إلى فيلم سينمائي ينتجه ويمثله الممثل العالمي انتوني كوين, لكن روايات كثيرة انتقلت إلى الشاشة ونجحت في السنوات الأخيرة ولعل أبرزها نهاية هوارد للكاتب أي,ام, فورستر، ورواية العقل والعاطفة لجين أوستن، ثم رواية فورست غمب وقبلها الحياة حسب غارب .
لكن ذلك بقي محفوفاً بالمخاطر، نظراً لما تقوم به السينما من إقصاء لكثير من الأحداث بسبب طول الروايات غالبا وإقصاء لفتنة السرد المتحققة في الأعمال الكبيرة، وإقصاء لفاعلية القارئ وهو يرسم ملامح الشخصيات على هواه.
ولم يكن نجاح فيلم مثل زوربا كافياً لكثير من قراء رواية كازانتزاكي، ليقتنعوا أن الفيلم أجمل من الرواية أو أنه بمستواها, لكن النجاح الفعلي للرواية في السينما اقتصر على روايات صغيرة الحجم نسبياً في أكثر الحالات: مثل رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد، أو رواية ميشيما البحار الذي فقد نعمة البحر أو رواية هوراس ماكوي انهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟ أو رواية فورست غمب التي قدم فيها توم هانكس أعظم أدوار حياته على الإطلاق، حتى الآن.
وثمة شيء آخر، لا نستطيع إقصاءه هنا ونحن نتحدث عن الرواية والسينما يتمثل في القيمة الروحية الكبيرة التي تحملها بعض الروايات الكلاسيكية خاصة، التي تحولت إلى جزء من تراث الإنسانية، ورواية الشاعر والروائي الفرنسي فيكتور هوغو أحدب نوتردام واحدة من هذه الأعمال التي قرئت في العالم أجمع، وشكلت أرضية أولى للرواية، وعززت مكانة هذا الفن في نفوس أجيال متعاقبة منذ أن كتبها عام 1831.
مائة وخمس وستون سنة تفصلنا عن لحظة الكتابة، ولحظة بعث الرواية من جديد وإطلاقها في الفضاء العالمي عبر فيلم والت ديزني الذي يحمل العنوان نفسه احدب نوتردام فإلى أين يمكن أن تفضي هذه التجربة؟ خصوصاً أنها قُدِّمت في السينما والتلفزيون مرات كثيرة، وإذا كان تحويل الرواية عموماً محفوفاً بالمخاطر، فكيف يمكن أن يكون عليه الأمر حين تتحول إحدى الآثار الكلاسيكية إلى فيلم رسوم متحركة؟
لا شك أن المخاطرة مضاعفة هنا، ثم أن حجمها يزداد أكثر المخاطرة ويتحول إلى قفز حقيقي في المجهول حين تُبَسَّط الأحداث وتُختزل ويلوى عنقها في كل مشهد تقريباً، بحيث تكون صالحة للأطفال وإن كنا قرأنا أن الفيلم موجّه لأكثر من فئة عمرية تشمل الكبار أيضاً أو بمعنى آخر فيلم لكل أفراد الأسرة، على عادة ديزني.
ما الذي تبقّى من عمل فيكتور هوغو في هذا الفيلم؟ إنه القليل القليل؟، فالرواية قائمة في الأصل على قدر هائل من البؤس، وما تؤول إليه مصائر الشخوص، وعلى معنى العزلة المرعبة التي يعانيها كوزيمودو في تلك الظلمات الموحشة لأبراج الكنائس الضخمة وأقبيتها, كما أن الواقعية المرعبة في الرواية بلغت درجة، لا يمكن المضي بها إلى الشاشة ليراها الأطفال، دون أن تفقد معناها, وهكذا أيضاً بالنسبة إلى الحقبة التاريخية الغنية بالأحداث التي عبرت عنها الرواية, لقد تم اختزال الرواية وحصرها، أحداثا وشخوصاً، وأقصيت حالة البؤس الشديدة وتحولت الواقعية إلى فانتازيا حيث التماثيل تركض في الممرات وتنفض الحمام عن أكتافها - على مافي هذه الصورة من جمال أخاذ ومبدع -, واستحالت في النهاية إلى عمل مسل، لكنه غير واضح الدلالات في كل أجزائه, إذا ما استثنينا المعنى العميق للصداقة كقيمة فائقة الأهمية، وهذا ما أشار إليه الدكتور روبرت رورتر أحد المختصين في علم نفس الأطفال:الفيلم يتعامل مع موضوع صعب ومعقد، لكن رسالته الأكثر وضوحاً، عن الصداقة والإخلاص كانت شديدة الوضوح,, ورسالة كهذه يمكن أن تمنح الناس الأمل .
إلا أن العنف في الفيلم كبير، وكذلك بعض المشاهد الحسية, والفيلم يذكّر بعقدته هنا بفيلم الجميلة والوحش فالشخصية النسائية أزميرالدا غجرية ساحرة في غاية الجمال وكوزيمودو لا يقل تشوها عن شخصية الوحش بكثير, لكن النهاية السعيدة للأول، حين يتحول الوحش إلى أمير وسيم، لا يصلها الفيلم الجديد، فكوزيمودو الذي وجد له مكانا سينمائياً في العالم الحقيقي، لم يجد له مكاناً في قلب الحسناء أزميرالدا، لأن القبح في الفيلم لا يمكن أن يحتل قلب الحبيبة, القبح هنا لا يغتفر، لذلك فإن أزميرالدا تختار الضابط الوسيم، وسط مباركة جريحة يبديها كوزيمودو وكأنه يدرك أن العالم الذي قبله أخيراً سينمائياً لن يتيح له فرصة أن يسكن في قلب أمراة يحبها، وبهذا ينتهي الفيلم إلى حلول توفيقيّة، لا تنتشل الرواية من بؤسها المادي، إلا وتلقيها في بؤس معنوي أكثر مرارة.
وإذا ما عدنا إلى واحدة من أوراق فيكتور هوغو التي كتبها بين عامي 1830 و1832 للمصادفة!!! أي سنوات كتابته لأحدب نوتردام فإننا نقرأ هذه الصفحة التي ظلت مجهولة كما يقول هنري غيمان مؤلف كتاب هوغو الصادر عام 1970 حيث يكتب صاحب البؤساء واحداب نوتردام والكثير من الأعمال الشعرية والمسرحية والروائية: ويل لمن يحب دون أن يكون محبوباً,, انظر إلى تلك المرأة هي مخلوق ساحر، ناعمة، بيضاء، نقية، هي بهجة المنزل وحبه، لكنها لا تحبك، ولا تكرهك ايضاً,, فكل أفكار الحب التي توجهها أنت إليها تدعها تذهب كما أتت، دون أن تطردها أو تبقيها .
هوغو، الذي يدرك هذا النوع من العذاب الرهيب كما يراه وجد الموت حلاً لشخوص روايته، فدفعهم إليه، لا بقوته فقط، بل بقوة اليأس فيهم أيضاً, لكن منتج فيلم أحدب نوتردام دون هان رأى أن الأمر لا يستقيم مع كل هذه النهايات، وكذلك رأى مخرجا الفيلم كاري تروزدال وكيرك وايز ، حين اختتما فيلمهما بهذه النهاية الماكرة التي تفتح أبواباً لا حصر لها لعذاب كوزمودو وعلى مدى حياته، وتوهم المشاهد بنهاية سعيدة، ليس فيها من السعادة شيء إذا ما تذكرنا أن المأساة هي مأساة الأحدب وأن العزلة الاجتماعية القاسية، استبدلت بعزلة داخلية أشد هولاً، تذكّرنا بصرخة هوغو نفسه التي أشرنا إليها ويل لمن يحب دون أن يكون محبوباً .
ليس هذا، وحسب، بل إن المبالغة في قوة كوزيمودو كانت في غير محلها، فقليل من ضعف البنية الجسدية كان يمكن أن يؤنسنه أكثر, لأن المخرجَين حولاه إلى ما يفوق هرقل فهو يقطع السلاسل التي رُبط بها فتنهار الأعمدة الرخامية الشامخة وكذلك الابراج، ويتحول العالم إلى أنقاض في النهاية، كما لو أن المرء يشاهد فيلم القيامة الآن في ذروة مشهده الأخير حيث الصواريخ والقنابل ونيران الرشاشات والحرائق التي تضيء الليل.
في المشهد الأول من الفيلم يقف كوزيمودو في أحد أبراج الكنيسة، ويشجع عصفوراً صغيراً في العش على الطيران, مشهد حميم ومؤثر، ويفتح المجال واسعاً على ما يمكن أن يراه المشاهد, لكن، حين يخرج كوزيمودو متجاوزا التعليمات إلى الحفل الكبير في ساحة المدينة، تكون التجربة الأقسى في حياته، التجربة الأكثر إيلاماً من العزلة التي تبرر في النهاية ذلك التفسير الذي يقال له الخارج لصوص في العتمة ومكائد، ولا يترك البشر الداخل ويذهبون هناك إلا مجبرين .
لكن كوزيمودو يخرج، ويساعد أزميرالدا، والضابط الشجاع حبيبها الجريح، إلا أنه نفسه، يبقى سجيناً هناك في الداخل داخله، فقد كان بإمكانه أن يجد امرأة تحنو عليه للحظات، لكن لم يكن بامكانه ولا يرسم لنا الفيلم افقاً غير ذلك أن يجد امرأة تحبه.
ولكن، هل يمكن اعتبار هذا الفيلم نهاية المطاف لمثل هذا النوع من الأفلام التي يمكن أن تتكئ على أعمال أدبية عالمية؟ بالتأكيد: لا, فقد سبق وأن تم تلافي الكثير من الثغرات في الفيلم الممتع الجميل الأسد الملك الذي اقتنص فكرته الأساسية من عمل كلاسيكي رفيع هو هاملت لشكسبير، دون أن يطلق على الفيلم اسم المسرحية.
لكن المخاوف الدائمة تبقى وتزداد إذا ما تم تحويل كلاسيكات التراث الإنساني إلى محض مشاريع تكفل الربح السريع لا غير، وتجرد الأعمال الإبداعية من جوهرها وتحيلها إلى نوع آخر من أنواع الاستهلاك المتفشي كالسرطان في حياة البشر في هذا العصر، وبخاصة بعد أن أصبح هوس تحقيق الربح الخيالي هو الطاغي في صناعة السينما الهوليوودية كما يقول المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved