أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 14th September,2000العدد:10213الطبعةالاولـيالخميس 16 ,جمادى الثانية 1421

الثقافية

القاص خالد اليوسف بين إليك بعض أنحائي وبين حضورات الحركة السردية 1 -2
غالية خوجة
ان متابع المشهد الثقافي السعودي، يتبين كيف أن فنّ القَص إضافة الى الإبداعات الأخرى بدأ يقدم نفسه بهيئة جديدة، فيها من الحداثة ما يجعل القصة إبداعا، لا حكاية,,
ولم ينزح السرد العربي عن حكائيته إلا عندما أدرك أن الحفاظ على اللغة التوصيلية، المباشرة، والتقريرية، والتفسيرية، والرصدية، والوصفية، والتسجيلية هي الخنجر الذي يولد مع النص، لا ليقتله فقط، بل ليمحو حتى دماه عن الحضور منذ لحظة الولادة, لذلك نزح السرد عن تقاليده، ومألوفيتها، وعن اجترار ما سبق وقيل, وهذا النزوح لم يأت من فراغ، لأنه انبنى على كيفية استخدام الموروث الأسطوري والملحمي والسريالي والديني في نسيج الحدثية المعاصرة,, اضافة الى عملية مثاقفة النص السردي بالرموز وبالفلسفة وبعلم النفس وبالشعرية,.
لذلك فإن الفن (شعر/ رواية/ قصة/,,) لم يعد مقتصرا على دوره الاجتماعي والنفسي، بل صار يسعى الى تجاوز ذلك نحو جمالياته التي من خلالها يتسامى نحو (دوره الفني),, أي أن الدور الفني للفن هو المعيار الأهم في ابداعية نص ما,, وليكون نص ما عملا ابداعيا متمايزا، فليس لنا الا ان نكتشف كيفية مقولة ولا مقولة,, فهذه الكيفية في النهاية هي المحور الأسّي لجوهر العملية الإبداعية.
من ذلك نستنتج أنه كلما كانت الكيفية تعتمد الرمز وتُجسده وتُدخل عناصرها الأخرى ب(اللاثبات)، كلما كانت العملية السردية أنضج وأعمق لأنها تدفعنا الى قراءة نصوص اللامكتوب من النص, وكلما كانت الكيفية مسطّحة، وموازية بين ألفاظها ودوالها، كلما كانت العملية السردية تسجيلية وباهتة الايقاع، وفاقدة ل(الكيف) الذي سيكون مع مبناه تلك الحركة الابداعية.
والقارىء لسردياتنا العربية يتبين أنها موزعة على ثلاثة مستويات: المستوى التوصيلي المباشر الذي لا قرابة بينه وبين الإبداع ولا حتى من الدرجة الأخيرة، المستوى الإبداعي الراغب بانجاز الا مألوفية المرتكزة على تثقيف اللحظة المكتوبة, والمستوى المتأرجح بين المستويين السابقين، فلا هو توصيلي ولا هو إبداعي, وهذا المستوى هو الغالب على سردياتنا الراهنة التي ما زالت في أغلبها معتمدة عى تشبيك المألوف باللامألوف لا على المزاوجة بينهما والابتداء من اللامألوفية الى آخر احتمال للمعنى.
* * *
سنناقش في هذه القراءة مجموعة (إليك بعض أنحائي) للقاص خالد اليوسف المتضمنة لثماني قصص (ذاكرة الليل/ ليل لنا,, وللمدينة نهاراتها/ قلبها,, يثير الأسئلة/ الوراق,, وخاتمة الصباحات/ إليكِ بعض انحائي/ الشقوق/ فرحٌ آخر/ الشحوب).
حاولت نصوص المجموعة أن تجمع عدة وجوه للواقعين الذاتي والموضوعي وأن تنثرها في ذات الآن,, وهذه العملية كوّنت متنا كتابيا يشف منه حس انساني مفعم بالهجس الوطني والقومي وبمشاعر الذوات الأخرى المشكلة لمجتمع النصوص.
ولو لم تتداخل تلك الحواس المتكونة من الذاتموضوعي مع البنية النفسية للشخوص والقصص، لاندرجت المجموعة في السرد العادي، ولم ترتفع ببنياتها نحو السردية المشهدية التي تكثف فيها الزمكان الحكائي ليكون المدار الاستدلالي الذي انقسمت ميكانيزماته الى لحظة ارتدادية نبشت الذاكرة من (الآن) الى الماضي، والى لحظة احالية أحال فيها الزمن أبعاده على أبعاده، والى لحظة الحالة التي تناغمت فيها حركات السرد مع الوصف مع الابتناء العمقي للنص,.
(1) لحظة السرد الارتدادية:
يشكل الزمن الذاكرتي (فجوة التوتر) في قصتي (ذاكرة الليل) و(الشقوق), وهذه الفجوة هي الخلفية المركزية التي انتسجت بين استرجاعاتها عناصر القص من شخصيات ومنطقة محيطة وحوار مونولوغي وديالوغي وأحداث، لتكون في النهاية دراما تتصارع في مسافتها الذاكرة بين حاضرها وماضيها, يتجه محور الصراع في قصة (ذاكرة الليل) الى قضايا الوطن مرموزا إليها ب(لبنان) بينما في قصة (الشقوق) فان المحور الدرامي كان بين المعاصرة والذاكرة مرموزا اليها ب(القربة) التي استُبدلت ب(الزير الفخاري).
لنلاحظ أولا كيف يترابط العنوانان بطبقات زمنية تسترجع احداها الأخرى، لنكون أمام متواليات لحظوية تلتقي دوائرها في (الذاكرة) وتفترع الى (عتمة) بما في ذلك من تلاوين للأبعاد الغائرة من وقت وعمق وتداعيات نفسية جسدتها شخصية (زوجة العسكري) التي ارتكزت على ليلين: (1) الليل الموضوعي، كزمن طبيعي امتدت منه التداعيات, (2) الليل الجواني الذي عكس عبر فلاشباكيته زمنية القصة, أما الشخصية التي جسدت تلك التلاوين في قصة (الشقوق) المضمرة لأبعاد الاعتمام ودلالاتها الزمنية والنفسية والتراثية، فكانت ناتج انصهار (الأب والابن والقربة) في ذاكرة النص المتشكلة من (شقوق) لم تُصب (القربة) وحدها، بل امتدت الى طريقة الحياة التي لم تعد متلائمة إلا مع (الزير الفخاري) الذي وصل متأخرا الى بيت (الأم) وذلك بعد الحاح طويل,, رغم ان مناطق أخرى كانت أكثر تلاؤما مع التكنولوجيا العصرية (الثلاجة) بسبب وجود الكهرباء, من خلال (الشقوق) يطرح القاص صراع الحياة بتطورها وبرغبة المحافظة على الاعتياد الموروث المرموز له ب(القربة) كما يطرح رؤيته بضرورة الأخذ بالحديث المتناسب مع المعاش دون التخلي عن التراث البيئي الماضوي.
تبرز من هذه الآثار حركة الحضور الزمني بأسلوب سردي بسيط في قصة (الشقوق) بينما تظهر بأسلوب أعمق في قصة (ذاكرة الليل) كونها انبنت على ادخال وحدات مساعدة وظفها خالد اليوسف ضمن النسيج المسرود وفق زاوية (الرؤية من خلف Vision par derriere) التي شكلت مفتاح البداية القصصية ونهايتها ضمن لوحة الليلين المتضمنة للوحة العناصر الأخرى (الأطفال/ الذاكرة/ الصورة ومحتويات المنزل الموظفة كحوافز تأليفية عكست دواخل الشخصية على آنها وماضيها وركّبتها في مقصدية الذات القاصة (مشاركة العرب في أمن لبنان).
تبدأ حدثية النص بلوحة الليل الموضوعي القابض على ايقاعات الليل الجواني بطريقة غير مباشرة (ليلها يتمتع بمذاق آخر، ولظلمته اشراق في داخلها، للسكون اطمئنان يرفعها درجات عليا، وللفزع والخوف اللذين يهزان الناس زيادة إيمان بالقضاء والقدر, لم تُبق ضوءا واحدا من الأضواء الخارجية للمنزل بعد النداء الأخير إلا وأطفأته امتثالا للأوامر), عبر امتزاج ايقاعات العتمتين مع الاشراق الداخلي، ثم مع الانذار واطفاء الأنوار تتدرج تفاعلات العناصر وهي تضيء لنا العالم المحيط بالشخصية بين وحدتها وطفلها الصغير الذي تهزه وهي تغني له وبين انتصاف الليل المنطلق داخل جمل مختزنة تضم تآويل الذاكرة والقلق والرعب والخوف والشرود (انتصف الليل، والنوم أصيب بالشرود ولم يعد له وجود في الغرفة الأنيقة), ويظل الراوي يسرد الداخل والخارج بحركة وصفية مؤلفة من تفاصيل الملامح كالعينين اللتين لا تنطبقان على نوم، وتظلان متجولتين بين الصور المعلقة على جدران الغرفة, الصور والجدران وجزئيات المكان شكلت الحوافز الواقعية في القصة التي اعتمدت على احداها (الصورة الكبيرة) لتجمع عناصر النص فيها ولتكون المساحة التحريضية للفلاشباك ولايقاعات الليل باحتماليه: الطبيعي والذاتي: (تتمعن في الصورة الكبيرة, تتأمل تفاصيلها,, تنهض، تقف جوارها,, تمر بأصابعها على شخوصها, تحاول نزعها,, تطلق خيوطها,, تحملها بين يديها، تحدق كثيرا في حبيبها وهو يتوسط ولديها، تتطاير كلماته اليها,, : لا تقلقي كثيرا علي, لن أتأخر في مهمتي, أيام قلائل وأعود إليكم, المهم انتبهي لنفسك وللاولاد,, أرجوك اتصلي بأخيك كي تذهبوا خلال هذه الأيام عند أهلك), انبنت هذه المشهدية على سلوكيات الشخصية المحمولة على أفعال مضارعة متلاحقة جمعت المحفز (الصورة) مع البُعد النفسي للزوجة مع كلمات الذات الأخرى المتطايرة من الصورة كذاكرة ثانية لذاكرة الشخصية المحورية (الزوجة).
ضمن شبكة العلائق السابقة يبزغ الزمن الأول للذاكرة وفي طياته تظهر لغة الذات الأخرى المتمحورة حول الشيم العربية في الدفاع عن وطنها وشرفها وكرامتها وقيمها الواحدة (حينما استيقظت في صباح عرسها والابتسامة المشرقة على ثغرها لتبارك له أجمل صباحاتها فيخرج عليها من الغرفة الأخرى وقد ارتدى ملابسه العسكرية وبيده الأخرى حقيبته، مقبلا اليها بوجه مضطرب وقد تاه الحديث منه، يبحث عن كلمات يبرر الشكل المفاجىء لها,, (,,): أتت أوامر عاجلة، للتوجه مع وفد عسكري للمشاركة العربية في أمن لبنان, وقد رشحت ضمن هؤلاء ولن يطول الغياب).
ويستمر ايقاع الغياب في حضوره من الذاكرة متوزعا بين الصورة والمونولوغ الذي يقطعه صوت الطفل (ماما، ماما، أين أنت، أنا عطشان؟) وبهذا الديالوغ يبتعد الشرود الى لحظته الحاضرة التي يسرد عبرها الطفل ما رآه في الحلم من خوف ورعب ومجرمين يرتدون (ملابس مرعبة مثل التي تأتي في أفلام التلفزيون), يأخذ الحلم مدلولا كاشفا عن مصير الواقع: فالأم الأرض محاصرة بالمجرمين ونداؤها لا يصل الى زوجها ليطلق سراحها, والطفل الرائي يحمل عصا كبيرة لم ير مثلها من قبل قائلا (بابا عسكري سيقتلكم كلكم) إلا أن الحلم يؤكد اختفاء الأم وبكاء الطفل الرائي ووجود الأب دون أن يستجيب لاصوات استغاثات الحالم وأمه,, ولا تقتصر وظيفة الحلم على كشف حالة الرعب المتبادلة بين الأم والأب والطفل، بل تتحرك لتكون صورة أخرى لقلق الذاكرة والليل والايقاعات الاعتام المنبثقة من المخيلة كتجسيد لراهن مستمر، لا ينتهي بنوم الطفل مع تلاوة أمه لبعض الآيات القرآنية، ولا مع تعليق الصورة على الجدار، ولا مع انبثاث شمس جديدة يظهر بعدها السرد المشهدي كخاتمة مفتوحة على حيزين: حيز السؤال المتعلق بعودة الزوج، وحيز المصير المجهول لشخوص النص.
لولا الاستفادة من (الصورة) و(الحلم) بشكل فني، لكانت القصة واصفة، راصدة, ومن هذين العنصرين الممتزجين مع حركة الحوار بثنائيته: المنولوغية والديالوغية استطاع المتن الحكائي أن يكون مبنى حكائيا لعب فيه المجال الزمني والنفسي دورا رئيسا أبرز مقصدية القاص ومشاعره الوطنية, لكن هنالك مأخذاً على القصة متعلقاً بضعف ظاهر في بعض الصياغات الجميلة، منها ما سببّته الاستطالة التي أدّت الى ترهّل في ايقاع الحركة الانتقالية للسرد، مثلا: (لم تبق ضوءا واحدا من الأضواء الخارجية للمنزل بعد النداء الأخير الا وأطفأته امتثالا للأوامر),وفي موضع آخر استخدم القاص فعل (فيخرج) الذي لو استبدله ب(خرج) لجاء أنسب: (حينما استيقظت في صباح عرسها والابتسامة المشرقة على ثغرها لتبارك له أجمل صباحاتها (فيخرج) عليها من الغرفة الأخرى وقد ارتدى,,,) ولنقرأ أيضا هاتين الجملتين (كي تذهبوا خلال هذه الأيام (عند أهلك),, (ملابس مرعبة مثل (التي تأتي) في أفلام التلفزيون).

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved