أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 17th September,2000العدد:10216الطبعةالاولـيالأحد 19 ,جمادى الثانية 1421

الثقافية

موسوعة طويت في اللحد والكفن
أحمد بن زيد الدعجاني *
لقاء العلماء شرف، والاتصال بالأدباء حظوة، والتزود من فيض شيوخ اللغة والأدب والتاريخ مجد عظيم.
وبالمقياس يكون رحيل أحد هؤلاء فجيعة كبرى، وفقد أحد أقطاب العلم خسارة عظمى، وتوقف قلم عن التاريخ تعثر في المسيرة، هذا ما حدث اليوم ونحن نفجع بموت الشيخ والعلامة والمؤرخ والأديب حمد الجاسر.
التقيت به لأول مرة، في احدى ردهات فنادق العاصمة الأردنية,, اذ كان حاضرا لمؤتمر تاريخي,, كنت في معية الأستاذ محمد الناصر العبدالله، أحد رجالات سفارة خادم الحرمين الشريفين هناك ومن خيرة أبناء الوطن علما وخلقا وولاء صادقا.
التقيت بالفقيد العظيم,, واذا به يحدثني عن أسرتي حين ذكرتها له,, وكأنه واحد منها,, وعرف تخصصي بالجامعة,, محاورا لي بلطف في القول، وطيب في الحوار,, وكانت نصيحته لي أن أعكف على تاريخ بلادي, وأن أصبر على مشقة البحث والتنقيب في أحداثه، فعلم التاريخ يحتاج الصبر والتحمل.
كما كان للشيخ حمد دمث الخلق,, ورقيق المشاعر,, اذا أرادك عبر الهاتف لا يترك الرنين سوى لحظة ويقطعه مخافة أن يزعجك بصوته أو يوقظك بهاتفه ويعد فترة من الزمن كنت أتردد في أوقات متباعدة على داره العامرة فأجد في مجلسه كوكبة من العلماء، ومن حوله الخيرة من الأدباء وكل طلاب العلم من المعلمين والشباب.
كان يرحمه الله دائرة معارف مفتوحة العين على كل شيء,, تسأله عن تاريخ هذا الوطن,, وكأنه جاهز للرد والتوضيح,, ولم لا,, وهو الذي شارك الملك المؤسس منذ الأيام الأولى للتأسيس.
وكان هو أحد ثلاثة معلمين لأول مدرسة ابتدائية أسست في البلاد.
لا يكل يوما عن القراءة، ولا يتوقف ساعة عن الكتابة,, ولا يتأخر أبدا في تحقيق أمنية,.
ذهبت اليه منذ فترة لأنال منه شرف كتابة ما يعرفه عن الملك خالد رحمه الله لكتابي الذي سوف يصدر قريبا عن جلالته ورغم متاعبه ومشاغله استقبلني كعادته باشا,, مبتهجا وقد حظيت بما أريد، وهو الذي كتب قبل ذلك تقريظا مشهودا له به عن كتابي الذي أرخت فيه للشيخ محمد البواردي.
لماذا أذهب اليه هو؟ انه سجل التاريخ، والمورد الثر لكل حياة وأيام هذا الوطن الكبير.
يعرف كل حجر وكل مدر فيه,, يحكي لك عن كل أسرة وكل رجل من بنية,, فكأنه ينتسب الى كل القبائل ويعيش مع جميع رجالات الوطن.
لقد كان رحمه الله موسوعة علمية ومرجعا لي ولكل أمثالي من طلاب المعرفة، وراغب الحقيقة, فقد كنت أكتب لفضيلته حين يعن لي أمر من أمور التاريخ فاذا برده الشافي يأتيني شاملا وافيا,, محيطا بما أريد وكل ما يتصل بما أريد من علم ومعرفة.
لقد عاش حياته محبا للغة العربية، متفانيا في التاريخ والتأريخ,, تحمل الكثير من وعثاء السفر ومشقة التنقل بين البلدان والمكتبات بحثا عن المعرفة، واستزادة من العلم.
انه التاريخ في رجل، واللغة في شخص, وهو الشعر والأدب والبلاغة في ذات واحدة.
كاتساع علمه، ووفرة معارفه,, وتعدد موارد ثقافته كان كريم الشيم عظيم السمات,, سمته يحمل كل التواضع، وتصرفه مع الجميع ينبىء عن جم الفضل، وكريم الخلق.
معالي الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير المعارف تربطه بالشيخ الفقيد يرحمه الله روابط الحب والعلاقة الوثيقة ومع هذا فقد كان يرحمه الله يتعمد أن يكتب لي عند شفاعته لمن يثق بحاجته تحرجا من معالي الوزير الذي يفزع كعادته لرجاءات الشيخ,, وقد رغب مرة رحمه الله في زيادة اشتراك وزارة المعارف في مجلة العرب الرائدة,, وكتب رسالة رقيقة الكلمات كرقة طبعه، لطيفة العبارات كلطيف حديثه دائما بادئا بعرض السرور قال: هل يسرك أن,,, وعرضتها كما هي على أنظار معالي الوزير فسره ما فيها من قول يأخذ بالقلوب، ويملك العقول,, وكانت موافقة معاليه لما طلب الشيخ الجليل يرحمه الله .
لقد تكبد في سبيل العلم كل الجهد، بل انه فقد أعز ما في الدنيا,, اذ فقد أعز أبنائه في أحداث لبنان حين كان يقيم هناك في رحلته العلمية البحثية لقد كانت له في لبنان أيام بارزة تؤكد ان طلب العلم ليس سهل المقصد، وانما هو دائما محفوف بالمخاطر.
ذكر لي رحمه الله موقفا للملك خالد بعد عودته من لبنان ومقابلة جلالته يقول الشيخ عنه: لما قامت الحرب في بيروت لبنان كنت مقيما هناك فمكثت في بيتي أكثر من أربعين يوما وأنا محبوس في البيت، والرصاص والقنابل تمر فوق البيت وبقربه، فأنزل أنا وأصحاب العمارة الى القبو في الاسفل حذرا من أن يصيبنا الأذى، تأثرت صحتي في تلك الأيام ثم كتب الله لي النجاة وخرجت، وعدت الى الرياض، وكان عليّ أن أذهب للسلام على الملك خالد ولما سلمت عليه قال لي: أنت مريض، قلت له: أنا لست مريضا, قال: أنت مريض، ويجب أن تذهب الآن سريعا للمعالجة، تعال يا محمد النويصر هيىء لفلان وسائل السفر الى كليفلاند، المستشفى الذي كنت تعالجت فيه، وفعلا تم ذلك,, وبقيت في ذلك المستشفى أشكو من مرض في القلب والنظر وغيره,, وشفاني الله سبحانه وتعالى .
وحين أقول انه رحمه الله دائرة معارف، لست معطيا له الا حقه وحين يوصف بأنه موسوعة تاريخية علمية، فما ذلك الا صدق في وصفه لقد عاش حياة زاخرة بالتجارب في كل ميدان، والعمل المخلص في كل مكان، لقد عمل في التعليم، وعمل في القضاء,, وكان مديرا للتعليم في نجد، ووكيلا للكليات والمعاهد العلمية ثم لكليتي الشريعة واللغة.
وقد أعطى كل هذه المعاهد والكليات من خبرته وعلمه ما يبقى شاهدا على انه كان موردا ثرا للعلم واللغة والأدب.
لقد أنشأ رحمه الله أول مجلة في الرياض اذ كانت مجلة اليمامة هي لب عقله، وخط قلمه.
لم يكن رحمه الله عالما محدود العلم، ولا محدود المكانة فقد ذاعت شهرته في كل أنحاء العالم,, حتى أنه اختير عضوا بمجمع اللغة العربية في مصر, وعضوا في رابطة الأدب الحديث بالقاهرة,, وعضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية في دمشق، وفي العراق والمجمع العلمي الهندي.
وما تركه من ثروة علمية، وما أهداه للعلم من ذخائر تاريخية وجغرافية وأدبية انما هي من جهد الشيخ الذي قضى حياته للعلم، ونذر وقته وصحته للمعرفة.
ان زهاء خمسة وعشرين مؤلفا ومحققا تقوم اليوم فزعة حزينة على وفاة العقل الذي دبجها، والقلم الذي خط حروفها,, والشيخ العلامة الذي نشرها وألفها.
وماذا بعد وفاة العلماء الا انتزاع العلم, فالله سبحانه وتعالى لا ينتزع العلم من الأرض وانما ينتزعه بموت العلماء.
لقد تملكت الشيخ حمد الجاسر رحمه الله معاني الآية الكريمة في قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء فكان شديد التقوى شديد الورع خوفا من الله,, ومن هنا اتسمت كل أعماله بقصد واحد هو رضا الله تعالى,, وخلصت كل مؤلفاته لخدمة العلم في سبيل الله وحده,, وبهذا علت مكانته، ورسخت في كل القلوب محبته.
لم يكن مع تنوع معارفه، وتفوق عبقريته، وفيضان علمه الا متواضعا يطلب المزيد,, ويقول دائما:
وقل رب زدني علما ، ويلهج دائما ويردد حين يقول له أحد انك عالم,, يبادر ويقول: وماأوتيتم من العلم إلا قليلا .
ان الموسوعة التي دفنت في اللحد والكفن لتترك فراغا في حياتنا العلمية والتاريخية,, يشعر به الجميع.
هكذا رحل علم من الأعلام,, وهكذا مضى طود من الأطواد وطويت صفحة من صفحات الفكر، ونضب بموته معين فياض للغة والعلم والأدب,
رحم الله الشيخ حمد الجاسر,, وأسكنه رحيب جناته.
* السكرتير الخاص لوزير المعارف عضو اتحاد المؤرخين العرب .

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved