أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 21st October,2000العدد:10250الطبعةالاولـيالسبت 24 ,رجب 1421

مقـالات

أنفاق وآفاق
التصفيق المجاني والشعر
لا شيء يضايقني مثل أولئك الذين تجمعك بهم بعض الظروف، وتجبرك على الدخول معهم في حوار، أو التشابك معهم في نقاش، فتجدهم يتكلمون في كل شيء، ويخوضون في جميع الموضوعات، فاذا أفلسوا في منطقهم لجأوا الى رفع الصوت وكيل الاتهامات، لا خير في نقاشهم، ولا فائدة ترجى من وراء مداخلاتهم، وكلامهم مجاني لا طائل تحته، فهم في كل واد يهيمون، ويهرفون بما لا يعرفون، ويحسبون انهم يحسنون.
وتراهم في مجامعهم يكيلون المديح لهذا بغير حساب، ويمنح بعضهم لبعض الأوسمة والألقاب، وربما توجهوا بالذم لمن لا يوافق أمزجتهم، أو يسير على ما يهوون ويشتهون، ولعل الضجيج الذي يحدثه هؤلاء القوم المجانيون يطغى في كثير من الأحيان على الكلمة المسؤولة، والقول الصادق السديد، ويحجب التقدير الحقيقي عن أهله ومستحقيه، يتم ذلك في الصحافة، والمنابر واللقاءات العلمية والأدبية، حيث يتصدر من لا يستحق التصدير، ويقدم من لا يستأهل التقديم، وتسري تلك المواقف المجانية، من مرتكبيها الى العامة والخاصة، بحيث تقف الشهرة المجانية حائلا بين الحق وأصحابه، ويسود الجهل، ويتصدر الغثاء، فهؤلاء المجانيون لا يعطون أنفسهم فرصة للتأمل، ولا يتركون لغيرهم فرصة، وتعال معي الى منبر من المنابر العامة أو الخاصة في مناسبة أدبية مثلا، ولتكن أمسية شعرية، يدعى اليها الجفلى، ويحضرها الجم الغفير، فيصفق الناس لهذا الشاعر أو ذاك الى حد التقزز، وتبخل أيديهم بالتصفيق لآخرين، فيظن أقوام ان الحسن هنا والقبح هناك، كأن أنامل الجمهور تضع بكل تصفيقة توقيعا بالاحسان وتمضي شهادة بالاجمال، والحق أن غوغائية التصفيق ومجانيته لا تملك أن تقرر مصير الشعر والشعراء.
يصفق بعض الناس بالعدوى، يرى الناس يصفقون فيصفق، وهو كالأطرش في الزفة، لا يدري طحاها من ضحاها، أونعتد بمثل هذا التصفيق؟ ويصفق أقوام للشاعر وشهرته، ومركزه الوظيفي أو مكانته الاجتماعية رغبة في الانسجام مع عامة الناس وأحيانا يصفق خشية أن يتهمه الناس بعدم الفهم فهو يردد مثلا ان عمر ابا ريشة شاعر عظيم، وكذلك غازي القصيبي، مع انه لم يقرأ لأحدهما في يوم من الأيام ولو مقطوعة واحدة، ولكنه رأى الناس يقولون فقال، ليسلكه الناس في زمرة المثقفين والمتابعين، وخلف بن هذال شاعر قبل أن يبدأ قصيدته، واذا كح استعدادا للالقاء، كانت كحته أو نحنحته شعرا بليغا يستأهل التصفيق والصفير، وهكذا، اذن هو يصفق لشخص الشاعر لا للشعر، ويجامل الكبراء أو ينافق لهم، وفي أحسن أحواله هو يحاول أن يدفع عن نفسه تهمة الغباء.
ويأتي التصفيق أحيانا تابعا لموضوع القصيدة لا للشعرية، وبخاصة اذا اقترن ذلك ببعض الحركات المضحكة من قبل الشاعر، ونلمس ذلك عادة في الشعر الفكاهي، أو الاجتماعي كما لو تحدثت القصيدة عن زوج الاثنتين، أو عما يعانيه المعلم من تلاميذه، ومثال ذلك قول الشاعر ابراهيم طوقان:


شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قم للمعلم وفه التبجيلا
اقعد فديتك هل يكون مبجلا
من كان للنشء الصغار خليلا

الى ان يقول في تصحيح الدفاتر:


مائة على مائة إذا هي صححت
وجد العمى نحو العيون سبيلا
وأكاد أبعث سيبويه من البلى
وذويه من أهل القرون الأولى
فاذا حمار بعد ذلك كله
رفع المضاف اليه والمفعولا
يا من يريد الانتحار، وجدته
ان المعلم لا يعيش طويلا

ولا شك في ان هذا الشعر وأمثاله من الحلمنتشيات، فيه كثير من الظرف وخفة الظل، وما يسري على النفس ويبعث على السرور والضحك، ولكنه ليس بالضرورة أن يكون شعريا، الا اذا استطاع صاحبه أن يحوله الى مشهد انساني، ووسعته الروح الشعرية.
ويصفق بعضهم لنفسه، لا للشاعر ولا للشعر، وذلك اذا كان ما يسمعه من شعر، من النوع المباشر ذي المعاني القريبة التي في متناول العامة، فهو حينما يصفق يريد أن يقنع نفسه ومن حوله، انه يفهم الشعر، وانه مثقف يملك الأدوات النقدية والحس الأدبي، وانه يفهم الشعر، ومؤهل للحكم على الشعراء والموازنة بينهم,
ويصفق آخرون للأسماء الواردة في القصيدة لا للشعر ولا للشاعر، لذلك نرى بعض النظامين يلجأون الى حشد مجموعة من الأسماء التي تجبر المستمعين على التصفيق، وتنتزعه منهم انتزاعا، وأعرف في هذا الشأن حادثة بعينها، فقد حضرنا أيام أسرة الوادي المبارك حفلا أقامته دار الأيتام بالمدينة المنورة، واشترك زميلنا الشاعر حسن مصطفى صيرفي بقصيدة من جيد شعره، واشترك معه أخ آخر يتشعبط بأذيال الشعر، أتدرون ما الذي حصل؟ تفوق الشويعر على الشاعر لمجرد انه حشا قصيدته بذكر راعي المدرسة حسني أفندي وبجملة من الأسماء البارزة، وصفق له الناس بحرارة، وباء الشاعر بالصمت المطبق، وأقسم ألا يشترك في مناسبة تضم أنصاف الشعراء.
ونضيف الى ما ذكرنا من المجانيات صوت الشاعر وحسن القائه، فقد ينخدع به الجمهور، ويصفقون للظاهرة الصوتية، حتى اذا ما قرأوا القصيدة مكتوبة، ونظروا فيها بتأن وتأمل، وجدوها كالأسفنجة، سرعان ما يفارقها انتفاشها وتعود الى حجمها الطبيعي، وقد كان يثيرنا صوت المذيع أحمد سعيد من اذاعة صوت العرب ويهزنا معه شرقا وغربا، فاذا ما قرأنا تعليقه في الغد بجريدة الأهرام، وجدناه كلاما عاديا لا جمال فيه، فكذلك يفعل بعض الشعراء الذين رزقهم الله مثل تلك الظاهرة الصوتية، ومن هنا كان بعض الشعراء ينيبون عنهم من هو أفصح منهم لسانا وأجرأ قلبا، وذلك كما كان يفعل ابو تمام في القديم، والشاعران علي الجارم وأحمد شوقي في الحديث, المهم يجب ألا نغتر بما نرى أو نسمع من التصفيق المجاني، فللشعر الحقيقي شواهد أخرى خالدة غير التصفيق.
د, محمد العيد الخطراوي

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved