أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 21st October,2000العدد:10250الطبعةالاولـيالسبت 24 ,رجب 1421

مقـالات

المعجم الفلسفي والأدبي لأسطورة سيزيف
هاملت والعبث الوجودي
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
سلفت كليمة كامو عن إدراج هاملت في سياق اللاجدوى الكاموية بقوله: واللعنات الهاملتية,, نجده يتعقب، ويسلط الأضواأ، ويضخم الثورة البشرية ضد ما لا يمكن تغييره,, إلخ (1) ,.
وكامو يجعل القصص والمذكرات طرفي الرداإ الآخَرَين للبث الوجودي عن اللاجدوى تفلسفاً أو بمقالة فنية,, يقول: وهكذا فإن القصص كالمذكرات تمعن في بحث مسألة اللاجدوى,, إنها تُسبغ المنطق على الموت، والتسامي، والحرية المرعبة، ومجد القياصرة,, ويكون كل ذلك بشرياً؛ فكل شيإٍ حسن، وكل شيإٍ مسموح، ولا شيأَ كريه,, هذه هي أحكام لا مجدية!,, ولكن أي خلق مدهش هذا الذي تلوح لنا فيه مخلوقات النار والجليد؟,, هذه مألوفة بالنسبة إلينا؛ فعالم اللا اكتراث (ذلك العالم المنفعل في صميم قلوبهم) لا يلوح لنا غريباً أو هائلاً على الإطلاق,, إننا نرى فيه مشاكلنا ومتاعبنا اليومية (2) .
وفي موضع آخر يُفيض كامو في بيان أن المسرحية مناخ لبث اللاجدوى بتعليقه على عبارة لشكسبير من مسرحيته هاملت,, قال كامو: يقول هاملت: إنها المسرحية، وبها سأقبض على دخيلة الملك (3) ,,, و أقبض هي الكلمة حقاً؛ لأن الدخيلة تتحرك بسرعة، أو تنسحب إلى داخل الذات؛ ويجب القبض عليها وهي طائرة في تلك اللحظة التي لا يمكن الشعور بها إلا بصورة ضعيفة، والتي تنظر فيها الدخيلة إلى نفسها نظرة خاطفة,, والإنسان العادي لا يستمتع بالتباطُإ، وإنما بالعكس يسرع به كل شيإٍ إلى الأمام,, ولكن في الوقت نفسه لا يعجبه شيأٌ مثل نفسه,, خاصة إمكانياته، ومن هنا ينبع اهتمامه بالمسرح,, بالعرض؛ حيث تقدم إليه مصائر عديدة، وحيث يستطيع أن يتقبل الشعر دون أن يتقبل الأسى,, وهنالك على الأقل يمكن إدراك الإنسان اللامفكر وهو يستمر في هروعه إلى هذا الأمل أو ذاك، ويبدأ الإنسان اللامجدي حين ينتهي ذاك,, حين يكف الذهن عن الإعجاب بالمسرحية، ويدخل فيها,, والدخول في كل أشكال الحياة تلك، وتجربتها بكل تنوعها: يسمو إلى منزلة القيام بها جميعاً,, ولست أقول هنا: إن الممثلين بصورة عامة يطيعون ذلك الدافع، وإنهم أناس لا مجدون,, وإنما أقول: إن مصيرهم هو مصير لا مجدٍ قد يفتن ويسحر قلباً واضحاً,, ومن الضروري فهم هذا؛ لكي نفهم مايلي، بدون أن نُخطِأَ في شيإٍ (4) .
ثم يقول عن قصر زمن المسرحية وثراإ التاريخ فيه مُأَيِّداً بذلك امتلاك المسرحية لمناخ اللاجدوى الوجودي ,, يقول: فلماذا يدهشنا أن نرى شهرة خاطفة تُبنى على أشد المخلوقات قصراً في عمرها لدى الممثل,, ثلاث ساعات فقط؛ ليكون فيها أياكو أو السيست أو بيدرو أو غلوستر (وهو في تلك الفترة القصيرة من الزمن يجعلهم يأتون إلى الحياة، ويموتون على خمسين ياردة مربعة من الألواح)؟,, فلم يسبق أن صُوِّرت اللاجدوى بمثل هذه القوة وهذا التفصيل,, فأي إيجاز موحٍ أكثر من هذا يمكننا أن نتصور أفضل من هذه الحياة العجيبة,, تلك المصائر الاستثنائية النهائية التي تتكشف خلال بضع ساعات ضمن النطاق المسرحي؟!,, إن سيجيسموندو لا يعني شيأً خارج المسرح، وبعد ساعتين يراه المرأُ وهو يتعشى في المدينة، وبعد ذلك فلربما كانت الحياة حلماً,, ولكن يأتي آخر بعد سيجيسموندو، ويحل البطل الذي يعاني من الشك محل الرجل المزمجر طلباً للانتقام,, وهكذا بالانتقال الخاطف عبر القرون والأذهان، وبتقليد الإنسان كما يمكن أن يكون وكما هو: يكون للممثل اشتراك أكثر مع ذلك الفرد اللامجدي,, مع المسافر؛ فهو مثله يستنفد شيأً، وينتقل دائماً,, إنه المسافر في الزمن، وهو على أفضله المسافر الذي تتعقبه الأرواح,, وإذا أتيح لأخلاقية العدد أن تجد لها برهاناً على الإطلاق فإن ذلك يكون على ذلك المسرح العجيب، ومن الصعب بيان الدرجة التي يستفيد بها الممثل من الشخصيات، ولكن هذا ليس الأمر المهم,, إنه أمر يتوقف على مدى معرفته للدرجة التي يجد بها شبهاً بينه وبين تلك الأعمار التي لايمكن تعويضها,, وغالباً ما يحدث أنه يحملها معه، وأنها تفيض إلى أبعد من الزمان والمكان اللذين ولدت فيهما,, إنها ترافق الممثل الذي لا يستطيع أن يفصل نفسه بسرعة من الأشياإ التي كانها,, ويحدث له في بعض الأحيان أنه حين يمد يده ليتناول قدحه يستمر في أداإ الحركات التي مد بها هاملت يده إلى القدح ليرفعه إلى شفتيه,, كلا إن المسافة التي تفصله عن المخلوقات التي ترفض الحياة ليست كبيرة؛ بل إنه ليعبِّر جداً في كل يوم عن تلك الحقيقة الموحية القائلة: بأنه ليس هنالك حد فاصل بين ما يريد الإنسان أن يكونه وبين ماهو عليه,, وهو باهتمامه الدائم بالتمثيل الأفضل يوضِّح إلى أي مدى يخلق الظهوُر الكينونةَ؛ لأن ذلك هو فنه: أن يتظاهر بصورة مطلقة، وأن يبرز نفسه بالعمق الممكن في أشكال الحياة التي هي ليست ملكه,, وفي نهاية مجهوده هذا تتضح مهنته: أن يكيِّف نفسه بكل مشاعره؛ ليكون لا شيأَ، أو ليكون متعدداً,, وكلما ازداد ضيق الحدود المخصصة له؛ لخلق شخصيته: ازدادت أهمية موهبته,, سيموت خلال ثلاث ساعات تحت القناع الذي اتخذه لنفسه اليوم,, وخلال تلك الساعات الثلاث عليه أن يجرب ، ويعبِّر عن حياة استثنائية كاملة، ويسمي هذا فقدان الذات؛ لإيجاد ذات أخرى، وهو في تلك الساعات الثلاث يسافر عبر ذلك المدى الكامل الذي يستغرق الإنسان الجالس بين المتفرجين حياة كاملة ليقطعه (5) .
قال أبو عبدالرحمن: بمثل هذا التأويل الفاسد من كامو وهو كاتب مرموق وقع في التضليل جبهة أدبية إبداعية من أساطين ذوي الوعي بالفكر الأدبي الخواجي، وهو الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا؛ فصنَّف هاملت تحت عنوان هاملت بين العبث وضرورة الفعل (6) ,, ولقد تعدد تأويل هاملت,, إلا أن تأويل كامو، ونقيض تأويله وهو العقدة الأوديبية في تحليل فرويد للمسرحية: هما أبعد ما يكونان عن مسرحية هاملت، بل اللعب بالعقول فيهما متعمد.
وهذه الإشارة من كامو وأنا بصدد تحرير معجمه الفلسفي والأدبي أرهقتني كثيراً؛ فاضطررت إلى استيعاب مسرحية هاملت بترجمة خليل مطران، ثم بترجمة جبرا إبراهيم، ثم بترجمة غازي جمال,, ولم أكتف بذلك؛ بل استوعبت أقصى ما أقدر على تمعُّنه مما كتب عن شكسبير ومسرحيته في هذه العجالة؛ فتحتم عليَّ أن أدرس كامل النص بين انطفاإ خليل مطران وألق جبرا إبراهيم، وأن أحقق التحليل والنقد للمسرحية، وأن أحرر أزمة هاملت بين نص مؤلفه المطول وتصرف المخرج بكثرة الحذف أي أزمة هاملت نصاً أدبياً، وتمثيلاً مختزلاً على خشبة المسرح ، وأن أُفَصِّل النقل عن تأثُّرِ شكسبير وتأثيره في هذا النص؛ فأرجو الله أن أنشط لذلك، وأن يعينني لبلوغ كل ذلك مما هو خارج دائرة المعجم الأدبي لأسطورة سيزيف، وأكتفي هاهنا بتمحيص التمذهب المدَّعى بين وجودية كامو والجنس الدنيإ عند فرويد، وذلك بعد الفراغ من مناقشة تأويل كامو,, إن كامو يجعل هاملت قرين جستوف في الاهتمام بالشاذ في دنيا القلب أو دنيا الذهن.
قال أبوعبدالرحمن: ليكن هذا لوصح أن شكسبير أراد ذلك فهو دليل على عكس ما أراد,, أعني أن غير الشاذ لا الشاذ الموافق لدنيا العقل والقلب هو الأكثر؛ لأن الشذوذ يعني القلة!,, وإن أراد كامو بالشذوذ مخالفة القاعدة، وما دامت اللاجدوى تعني عموم السلوك البشري الشاذ عن القاعدة: فذلك مردود بأمرين:
أولهما: جملة الاهتمام بالشاذ ؛ فهذا تفتيش عامل نظافة يدل على أن هناك غير شاذ لم ينل اهتمامه.
وثانيهما: أن هاملت في قدرٍ محصور تخيَّله له شكسبير؛ فليس عنده ما يسوِّغ الاهتمام بالشاذ,, وأما شكسبير نفسه فليس كل عمله هاملت فحسب، فدعوى اهتمام شكسبير بالشاذ العبثي يحتاج إلى براهين يضيق عنها جِلدُ كامو لو سُلخ من عظمه.
وأما أن يكون هاملت شريك جستوف في تضخيم الثورة البشرية ضد ما لا يمكن تغييره، وأنه ينكر على العقل أسبابه، ويتقدم ببعض من التصميم فقط: فلو صحت هذه الدعوى وهي لا تصح لما كانت حجة على أن شكسبير في نصاب جستوف وكامو؛ لأن هاملت ليس هو جميع طرح شكسبير، وليس كل طرح شكسبير على نسق هاملت؛ إذن هاملت جزئية من أعمال شكسبير المتنوعة تبحث ظاهرة وجودية، ولنسمها عبثاً وجودياً أو لا جدوى,, ولكن بلغة شكسبير المؤمن إيمان الربوبية لا بلغة كامو الملحد؛ لأن العبث سلوك بشري يرتد على البشر؛ فيكون السلوك الذي اقترفوه عبثاً ولا جدوى في حقهم، ويبقى الوجود على شموخ العلم والحكمة والعدل والإحسان؛ لأن لا عبثية الوجود الرحيب ليست محجَّمة بعبثية سلوك الإنسان المحدود الذي اصطنع فلسفة تنتج سلوكاً يحيف على فطرته كينونةً، ويحيف على عقله تنظيماً,, والكفر بالله هو المدخل الكبير للضياع؛ حيث يفقد العبثي العلم بأن شرع الله لتنظيم خلق الله، وأن الإنسان ضعيف في الطبيعة الكونية الواسعة إن لم يعتصم بهدايتين من ربه: هداية كونية بمنحه العقل الذي يُحكِم بضم الياإ الحيلة في التعامل مع الكون، وهداية شرعية تُكمل له محدودية عقله المخلوق؛ فيكون نصيبه السعادة لا العبث.
قال أبوعبدالرحمن: وهذا ليس وعظاً مجرداً؛ للتلاعب بالعواطف، ولكنه وعظ فكري تحتِّمه ضرورات العقل؛ لأن تفسير الكون بلا خالق محال عقلي بأي ادعاإٍ كان التفسير؛ ولأن تفسير واحدية القصد، ومظاهر الكمال بغير خالق واحد له الكمال المطلق قدرةً وحكمة وعلماً وهيمنة ,, إلخ: تفسير لا يقبله العقل؛ لأنه لا يتصوره مهما كانت صورة الادعاإ التفسيرية,, وبعد هذا فليس في مسرحية هاملت إنكار لأسباب العقل، وإنما فيه عجز السلوك عن الأخذ بأسباب العقل، أو اصطناعٌ لهذا العجز من أجل تفلسف لعله يأتي له مناسبة في تحليل مسرحية هاملت.
***
الحواشي:
(1) أسطورة سيزيف ص34.
(2) أسطورة سيزيف ص 129.
(3) قال أبو عبدالرحمن: تضمنت مسرحية شكسبير عن بطله هاملت تمثيلية أعدها هاملت أمام الملك تحكي السر الذي باح به أبوه الملك (في هيأة الشبح)، وهو أن الملك قتل أخاه (والد هاملت)؛ فاستولى على الملك، وأخذ حليلة الملك (أم هاملت),, قال هاملت عن هذه التمثيلية داخل تمثيلية: سأجعل هاأُلاإ الممثلين يمثلون شيأً يشبه قتل أبي أمام عمي، وسأرقب حينئذ ملامحه,, دخيلته سأخرقها حتى الحشاشة ,, هكذا جاأ في ترجمة جبرا إبراهيم لهاملت ص99,, وجاأ النص في تعريب خليل مطران كما في مسرحيات وليم شكسبير الكاملة 4/154 : قد هيأت للمثلين الذين ستشهدهم الآن جريمة خيالية من نوع الحادثة التي اغتال بها عمي أبي، ومتى مُثِّلت لأرقبنه وأسبرن غوره .
قال أبوعبدالرحمن: سقط من ترجمة خليل أي عبارة تدل على إضافة جبرا، وهي ,, دخيلته سأخرقها حتى الحشاشة ,, وجبرا متمكن في اللغتين؛ وعلى هذا فنقل كامو لعبارة هاملت بهذا النص: إنها المسرحية (يعني التمثيلية التي يعدها هاملت داخل مسرحية هو بطلها)، وبها سأقبض على دخيلة الملك : إما اقتضاب من كامو (وهو الأحرى)، وإما سوأُ توصيل من المترجم (وهو المرجوح).
(4) أسطورة سيزيف ص 91.
(5) أسطورة سيزيف ص 92 94.
(6) انظر الحرية والطوفان لجبرا ص 158 172/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ الطبعة الثالثة عام 1982م ، وهي مقدمة ترجمته لهاملت ص 2 20.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved