أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 23rd October,2000العدد:10252الطبعةالاولـيالأثنين 26 ,رجب 1421

رحلات

الرحالة بلجريف ,,,في سدير
الجزء الأول
*تقديم وترجمة : د, محمد بن عبدالله آل زلفة
يعد الرحالة ويليام بلجريف (1826 1888) من الرحالة الرواد، بل هو الرائد الذي قام بأول رحلة يقوم بها أجنبي تبدأ من أقصى نقطة في شمال المملكة (منطقة الجوف) (1) ، وتنتهي في أقصى نقطة في الجنوب الشرقي من الجزيرة العربية حيث عمان.
توقف في حائل واستوعب ما توحي به من معطيات فقدم لها ولأوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية وصفا رائعا هو الأول من نوعه من حيث غزارة المعلومة والعمق في الفهم والتحليل (2) , ثم رحل من حائل إلى القصيم حيث توقف في مدينة بريدة عدة أيام قدم عنها وصفا جديرا بالتقدير من قبل المؤرخين ودارسي علم الاجتماع، وكذلك السياسة، وكان توقفه في بريدة عام 1279ه/1861م, وكانت منطقة القصيم تشهد حالة تمرد يقودها حينذاك زعماء عنيزة، وكانت تحت حصار قامت به قوات الحكومة المركزية، بقيادة الأمير محمد بن فيصل بن تركي وقدم وصفا لجوانب من مراحل المناوشات بين قوات المدينة المحاصرة وبين قوات الحكومة المركزية (الرياض)، مدعومة بمحاربي بريدة (3) .
غادر بريدة في طريقه إلى هدفه الرئيسي وهو مدينة الرياض عاصمة الدولة السعودية، العاصمة التي ظلت تمثل مطمح الكثيرين في أوروبا حكومات وطلاب معرفة في التعرف على تفاصيل الحياة بها وما تمثلها من عاصمة لدولة استقطبت انتباه القوى الفاعلة في الساحة الأوروبية، وخاصة فرنسا في عهد إمبراطورها نابليون الثالث الذي كلف بلجريف بمهمة استطلاع الأوضاع في قلب الجزيرة العربية.
ولقد وضع الإمبراطور الفرنسي ثقته في الشخص المناسب الذي يملك مواهب قل أن تتوفر لغيره من رحالة النصف الأول من القرن التاسع عشر, فلقد كان بلجريف يملك ثقافة واسعة، ومعرفة كبيرة بثقافة الشعوب ولغاتها، وتمكنه من معرفة اللغة العربية وذكائه الحاد وصبره الذي لا ينفد وعزيمته التي لا تفل, فكانت حصيلة تلك المهمة هذا العمل الذي نقدم جزءا منه للقارئ في المملكة العربية السعودية أولا، وللقارئ العربي أينما كان, وسواء كان ما أقوم بتقديمه من هذا العمل في شكل أجزاء أو شكل متكامل فإنني أشعر أنه جزء من ضريبة ما أرى أن عنقي مثقل بها لهذا الوطن وان ذلك مسؤولية ملقاة على كاهلي أتحملها أدبيا أمام إخواني وأهلي في كل مكان من بلادي وأرى ان من حقهم أن يعرفوا كل ما كتب عن بلادهم، وألا تظل تلك المعرفة محصورة على من مكنته ظروفه من الاطلاع على ما كتب عن بلادنا في لغات أخرى لا يتقنها إلا من منحه الوطن فرصة لتعلمها.
اتخذ بلجريف طريق الرياض الذي يمر عبر سدير، ولم يكن هو الذي اختار الطريف، ولكن الظروف لعبت الدور الأكبر في ذلك.
ولعل هذا ما وافق هوى الرحالة الذي كان همه أن يمر على أكثر المناطق الآهلة بالسكان والعامرة بالمدن والحواضر، وهذا ما نجده مكان فرحة غامرة لهذا الرحالة المتميز، وفرحة لنا نحن الآن حينما نقرأ معلومات كثيرة عن البلدان التي مر عليها، ظلت مجهولة لا يعيرها المؤرخون المحليون أي اهتمام، فأصبحت لنا معينا معرفيا ما كنا لنعرفه لو لم يمر بلجريف من هنا.
لا أريد الإطالة في الحديث عن بلجريف هنا، فلقد شغلت به سنوات طويلة وبحثت عن كتبه شهوراً إن لم تكن سنوات ومعلوم أن كتابه عن وسط الجزيرة العربية وشرقها يعد من الكتب النادرة،ونقلت في أول سنة عدت منها من البعثة بعض ما أورده بلجريف عن مدينة الرياض ونشرته في مجلة التوباد التي تصدرها جمعية الثقافة والفنون بالرياض، ولاقت من الاستحسان ما لاقت، وقدمت تعريفا ببلجريف في مقدمة ما كتبته عن مدينة الرياض.
وظل بلجريف يشغلني طوال سنوات التدريس بالجامعة، ولم أجد ما يريحني من إشغال بلجريف لبالي إلا ترجمة بقية ما كتبه عن المدن والمناطق التي مر عليها.
أما لماذا أبدأ بنشر ما كتبه رحالتنا عن سدير وفي حلقات أفسحت لي جريدة الجزيرة الغراء مساحة لنشرها بها تباعا؛ فربما لأن منطقة سدير تحتل بموقعها المتميز أعالي جبل طويل أحيانا، ومستظلة بأحد جانبيه أحيانا أخرى وطويق يحتل المكانة البارزة في تشكيل جغرافية وسط الجزيرة العربية، ويحتل الوسط منها، ويفصل بين وسط الجزيرة العربية وشرقها، حيث الاحساء وساحل الخليج النقاط الأخيرة التي زارها رحالتنا.
وسنبدأ مع رحالتنا منذ تركه لمدينة بريدة في طريقه إلى الزلفي أول محطة له في سدير بل هي بوابة سدير الشمالية الغربية.
وسأترك القارئ العزيز يستمتع مباشرة بما كتبه الرحالة، وأقول يستمتع لأنني أنا شخصيا استمتعت بما كتبه.
أما ما قد يطرحه من بعض آراء أو ملاحظات ونحن لا نتفق معه فيها وبلجريف صاحب رؤية نقدية قد تكون حادة أحياناً فإنها تظل آراؤه وملاحظاته، نقدمها كما هي لمن له رأي أو ملاحظة تغايرها ولا تتفق معها، فالرأي والرأي الآخر هما من مقومات إثراء المعرفة وتعميق مفهوم وحضارية الحوار.
وأحب أن أشير إلى ان بلجريف يعد أول أوروبي يزور منطقة سدير والعارض والاحساء والقطيف، ويكتب عنها بعمق، ولم يسبقه على حد علمي إلا الكابتن سادلير في عام 1818م والذي قام برحلته المشهورة من شواطئ القطيف وعلى خط مستقيم عبر الرياض إلى ينبع، وكانت مهمته محددة وثقافته لا ترقى إلى ثقافة بلجريف أو داوتي الذي جاء بعد بلجريف، أو فيلبي الذي كان آخر الرحالة الكبار.
شخصيات الرحالة
لكي نجعل الأمر سهلا على قراء هذه الرحلة، وجب التعريف بشخصياتها التي كثيرا ما يتردد ورود أسمائهم في النص.
1, بلجريف:
كاتب الرحلة.
2, النائب أو السفير الإيراني:
هو محمد علي الشيرازي المندوب الفارسي في مشهد علي، والذي عُهد إليه رئاسة بعثة الحج الوطنية الفارسية، وكان يبلغ الستين من عمره أو أكثر من ذلك, يتكلم اللغة العربية ولا يتقنها، والتركية بصورة أفضل، والهندوسية بدرجة ممتازة، لأنه كان قد عمل لسنوات عديدة ممثلا للحكومة الفارسية في حيدر آباد.
لماذا ذهب إلى الرياض؟.
تعرضت قافلة الحج الإيراني بعد عودتها من مكة لمتاعب كثيرة في القصيم بسبب تخلي أبابطين المكلف بإمرة حمايتهم من قبل الإمام فيصل بن تركي وانحيازه إلى متمردي عنيزة، وعدم قدرة الأمير مهنا أمير بريدة على حل مشاكلهم، بل كان أحد صانعي المشاكل لهم على حد تعبير بلجريف, فعزم النائب أو السفير الإيراني على الذهاب إلى الرياض للتباحث مع الإمام فيصل حول ما تعرض له الحجاج الإيرانيون.
وكان من ضمن القافلة المرافقة للركب الإيراني الأميرة الهندية المشهورة تاج جيهان.
3, أبو عيسى:
من مواطني حلب وابن أحد أعيانها، ينتمي في نسبه إلى قبيلة المجاذيم من بني خالد، مثقف وعارف بجغرافية الجزيرة العربية،ويملك قدرة التعايش مع حضرها وبدوها, ساقته الظروف التجارية وخاصة في الخيول إلى شرق الجزيرة العربية ومنطقة الاحساء بشكل خاص، ومنطقة قبيلته الأم بني خالد، عمل في التجارة بين الخليج والهند، وخسر فاستقر المقام به في الاحساء، وتزوج فيها بحبشية وأنجب منها، وزار الرياض في عدة رحلات، ووثق به الإمام فيصل واصبح يوكل إليه قيادة بعض القوافل التجارية وقوافل الحج أحيانا، فكسب شهرة لكرمه ومحبته للناس ومحبة الناس له.
4, بركات:
المرافق الشخصي لبلجريف، وهو من سكان زحلة من لبنان، وكان يقوم بدور الصيدلي والممرض مع رفيقه الدكتور المزعوم بلجريف, حيث تنكر بلجريف أثناء رحلته في الجزيرة العربية تحت غطاء طبيب من سوريا.
5, المكاويان:
مثنى مكي من أهل مكة تعرضا لمتاعب لا تعرف طبيعتها أثناء وجودهما في القصيم، فقررا الذهاب إلى الرياض لطلب العون من الإمام فيصل.

من بريدة إلى الرياض
إن الجزء الذي اخترته حاليا من هذا العالم لتزويده بالموعظة الراهنة، هو واحد لا وصف له في عصرنا الحديث, أما عن ماهية الأسباب فيسهل تحديدها.
بايرون
تجمعت مجموعتنا قريبا تحت الأسوار من جهة البوابة الشرقية، إلى الشمال قليلا من برج المراقبة، وليس ببعيد عن خيام محمد بن فيصل, والآن حضر النائب مع رفاقه الثلاثة، وقد شكل بركات، وأبو عيسى، وشخصي ثلاثة آخرين، وقد أكمل حسين البصري، أحد التجار الشباب الذي يتمتع بالمرح، والذي يعود أصله إلى المدينة التي يحمل اسمها، والمكاويان الاثنان اللذان قررا، بعد حظهما العاثر في بريدة، الطامعان في كرم فيصل، كان عدد المسافرين عشرة في مجمله.
ربما أنه من المحتمل أن نتعرض، خلال المراحل الاولى من مسيرتنا، للالتقاء عن طريق الصدفة مع عصابات السلب والنهب من رجال عنيزة، فقد قام مهنا، بعد تردد كثير، بتزويد النائب بحرس شخصي مكون من ثلاثة أو أربعة رجال من حملة البنادق كان عليهم ان يصحبونا حتى نهاية حدود القصيم.
كان هناك مساران يقعان أمامنا, كان أقصرهما، والذي كان لهذا السبب أكثر الاثنين طرقا، يقود باتجاه جنوب شرق شرق عبر الوشم وعاصمتها شقراء، ومنها صعودا بوادي حنيفة إلى الرياض، إلا أن هذا المسار كان يمر عبر منطقة تتم زيارتها أحيانا في الوقت الراهن بواسطة قوات عنيزة وحلفائهم، وبالتالي فقد كان رفاقنا، الذين يفتقرون إلى الشجاعة والجرأة الزائدة في الغالب، يخافون ان يسلكوه.
أما الطريق الآخر، الذي كان أكثر التفافا، إلا انه كان أكثر بعدا عن مسرح العمليات العسكرية، كان يقود باتجاه الشمال الشرقي إلى الزلفي، ومنها يدخل محافظة سدير، التي يقطعها في اتجاه الجنوب الشرقي، أو الجنوب، ليصل إلى العارض, قرر مجلسنا العسكري ان نتبع المسار الأخير، ولم نكن نحن أنفسنا نعترض على مثل هذا المسار الدائري الذي يعد بإتاحة الفرصة لمشاهدة البلدان الكثيرة التي يندر أن تتاح لنا فرصة أخرى لزيارتها.
كنت أنا وبركات نمتطي اثنين من جمال أبو عيسى ، العربية الممتازة، وكان النائب يمتطي ناقة رمادية جميلة، ذات سرج جميل ذي ألوان قرمزية وذهبية، كان المكاويان يتقاسمان فيما بينهما بعيرا أسود طويل الظهر، وكان البقية يركبون أيضا الجمال أو الجمال العربية الأصيلة، إذ ان الطريق الذي أمامنا لم يكن ملائما بالنسبة للخيول، بأية حال، في هذه الفترة من السنة.
وقد يكون من الأجدر أن أحيط قرائي علما، وعلى نحو حاسم، بأن حقيقة الفكرة الشائعة لدينا بالموطن والقائلة إن الجمل العربي لديه سنامان، والجمل سنام واحد، أو العكس، (لأنني قد نسيت أيا من الحيوانين مزود بسنامين في كتيبات الصور الملونة) تعتبر مجرد خطأ, فالجمل والجمل العربي يعتبران في الجزيرة العربية هما نفس الجنس والمخلوق، باستثناء أن الجمل العربي هو جمل ذو سلالة أصيلة ونقية، والجمل العادي هو جمل عربي ولكن من سلالة أدنى، أي نفس الفرق الذي يميز بين فرس السباق وحصان الأجرة، فكلاهما خيول، لكن أحدهما من دم معين، والآخر ليس منه, فالجمل العربي هو فرس السباق من بين أقرانه، نحيف، أنيق (أو يبدو كذلك نسبيا)، ذو وبر ناعم، خفيف وسريع الخطى، يتحمل السير الطويل، وهو اكثر تحملا للعطش من ذلك الجمل الكثيف الوبر، ذي البنية الضخمة، والأرجل الثقيلة، الأخرق والمرتج, إلا أن كلا من الاثنين لديه سنام واحد فقط، يقع خلف كتفيهما مباشرة حيث يستخدم نقطة تثبيت للسرج، أو الأحمال, ونتيجة لهذا التشابة فإنهما يتقاسمان عموما تسميات بعير أو نوق ، أي الذكر أو الأنثى من الجمال، مع أن الجمل العربي الأصيل يتمتع بلقبه الخاص هجين أو ذلول , أما بالنسبة للحيوان ذي السنامين فهو موجود بالتأكيد، إلا أنه ليس بالبعير العربي الأصيل ولا هو بالجمل، وإنما ينتمي إلى السلالة الفارسية، ويطلق عليه من قبل الأعراب البُختِيّ أو البكتريان , وربما توجد عينات منه في حدائق الحيوان،ويمكن لمن يرغب في رؤيته ان يذهب إلى هناك لإلقاء نظرة عليه، ولكن لا تدعه يدنس اسم الجمل العربي بإطلاقه على ذلك الحيوان الفارسي الأخرق، ذي الوبر الخشن، الذي يقطن المرتفعات، وللتمكن من مشاهدة الجمال العربية الأصيلة الحقيقية فأعتقد أنه يتوجب على قرائي القدوم إلى الجزيرة العربية، لانه لا يمكن مصادفة هذه الحيوانات كثيرا في مكان آخر، ولا حتى في سوريا، وعلى كل من يرغب في تكملة الصورة بكل جمالها أن يمد رحلته إلى عمان، وهي أبعد ركن في شبه الجزيرة العربية، والتي تمثل بالنسبة للجمال العربية الأصيلة ما تمثله نجد بالنسبة للخيول، وكشمير بالنسبة للضأن، والتبت، حسبما أعتقد، بالنسبة للبلدغ (4) .
كان المساء قد حل في صفاء، إلا ان القمر، الذي كان الآن في الربع منه، قد كان يرسل ضوءا ساطعا لامعا، وهو لا يزال يعدنا بسبع أو ثماني ساعات من ضوئه, كان سهيل يتلألأ بكامل روعته وإشراقه إلى الجنوب، وسوف تسطع الجوزاء عما قريب.
بدأنا الانطلاق بخطى نشيطة واجتزنا التلال الرملية المحيطة ببريدة،صعوداً وهبوطا، ومن ثم واصلنا سيرنا تحت ضوء القمر وسط الشجيرات والحشائس، عبر التلال والسهول، بكتلة من النقوش الداكنة تلوح لنا في بعض الأحيان، لكي توضح أن هناك قرية قابعة هناك، إلا أننا لم نتوقف في أي منها, وسرعان ما بلغت نسمة الليل في برودتها حد القشعريرة، وفي بادئ الأمر لم تكن مجموعتنا مرحة للغاية، كان النائب قد افترق عن مهنا وهو في نوبة من سوء المزاج، التي يمكن أن تتمثل فقط في فارسي يتعاطى الأفيون، كان أتباعه في حالة من العبوس والتجهم التي تتلاءم مع حالة سيدهم, لم يكن باستطاعة المكاويين الاثنين أن يحددا فيما بينهما أيهما يقوم بامتطاء جملهما الوحيد، وأيهما يسير راجلا على قدميه, ومن خلال تغييراتهما المتكررة ذكراني بذلك المزارع وابنه اللذين كانا ذاهبين بحمارهما إلى السوق، فقط بأقل توافق في المزاج, وكان أبو عيسى يبذل محاولات لا طائل منها لإضفاء الحيوية والبهجة على المجموعة، مع أنه لم يسترد عافيته كليا من الضيق الناجم عن اختفاء خادمه ومدقة القهوة الخاصة به.
ظل النجديون يتخذون طابع الحذر، وهم ينظرون إلينا كليا كحزمة من الأشرار والفاسدين، الذين سوف يكون من دواعي سرورهم أن يسلبوهم أكثر من أن يحرسوهم، وأخيراً لم نكن أنا وبركات نخلو, من القلق فيما يتعلق بما يتوقع أن يكون بانتظارنا في الرياض، لقد كانت الروايات التي قد حكيت لنا في القصيم عن العاصمة الوهابية وحكامها وأهلها باعثة على الانقباض والكآبة, كذلك لم نكن في غاية السرور لأن يكون المكاويان المغتابان برفقتنا.
ولكن سواء كنا في حالة من الحزن أو المرح، فقد باشرنا سفرنا الآن، وواصلنا انطلاقنا في سرعة وصمت, وأخيرا اضمحل القمر، شابه الاحمرار، ثم تدنى غائبا بينما بدأنا نؤمل في أخذ قسط من الراحة والنوم، كان الجميع في أمس الحاجة إليهما، ومع ذلك فقد استخف أبو عيسى، الذي كان يفضل التخييم بجوار المساكن المأهولة على المبيت في الصحراء، باعتراضاتنا، وجعلنا نواصل سيرنا رغم التعب والإرهاق، حتى قبل حوالي ساعة من بزوغ الفجر، وفي تلك الفترة فقط من الليل التي يكون فيها الظلام حالكا وأشد ظلمة، وجدنا أنفسنا فجأة على حافة بعض قنوات المياه العميقة والذرة المنتصبة، بينما كانت الأسوار العالية تحيط بالظلمة الواقعة خلفها.
كانت تلك هي الرويضة، وهي قرية صغيرة إلا أنها مزودة بنظام جيد للري, وكانت الحدائق الماثلة أمامنا تعتبر ملكا شخصيا لمهنا، الذي قام بغرسها وتنظيمها أثناء توليه الرئاسة في المحافظة.
وكان علينا التوقف هنا لكي نختبر أي نوع من الكرم والحفاوة سوف يبديه السكان.
وما بين طريق وآخر، لأننا كنا نسير نحوها ما بين الظلمة والنعاس كمن هم بحالة سكر، وبعد الكثير من الصياح والوحل، تخبطنا في تعثر داخل وخارج شبكة الممرات المائية، ووصلنا بوابة القرية المرتفعة, وهناك دخلنا لكي نكتشف ما بدا شبيها بالقلعة من جانب، ومن جانبه الآخر ميدانا مكشوفا, وأخيرا طرحنا أنفسنا على الأرض دون المزيد من الأسئلة، لنغط في النوم، وآمل أن يكون أبو عيسى قد تولى العناية بالأمتعة، لأننا بالتأكيد لم نفعل ذلك.
إن ساعتين من الغفوة الصباحية، بعد رحلة ليلة طويلة، تعادل ست ساعات في أي وقت آخر, كانت الشمس المشرقة قد أيقظتنا، وبدأنا نفرك أعيننا، ونستكشف موضعنا، لقد كنا نائمين بجانب خزان صغير، وعلى مقربة من ذلك كانت هناك بعض المنازل المنخفضة البناء والفناءات المسورة, ومن الناحية الأخرى كانت قلعتنا، التي اتضح الآن أنها المسكن الخاص للزعيم أو كبير الزراع، قد كانت فسيحة وشاهقة بما فيه الكفاية وكأنها مملوكة لأحد بارونات العصور الإقطاعية، قمنا بغسل أيدينا ووجوهنا، وأرجلنا (لأنه من الغني عن القول إن قائمة هندامنا لم تكن تضم تلك الأصناف الأوروبية التي تشكل الجوارب واحدة منها)، واتجهنا مباشرة صوب الخوا الخاص بهذا المسكن الأميري، على يقين من أننا سوف نجد القهوة الصباحية دائرة، أجلس النائب نفسه بالقرب من صاحب الدار مباشرة، بينما قمنا نحن، في كسوف تام من مظاهر الفخامة التي أبداها السفير الفارسي الذي كان في طريقه إلى فيصل، وفي تواضع بأخذ أماكننا في موضع أدنى, حضر العديد من القرويين ليحدقوا في الغرباء وللمشاركة في احتساء القهوة بهذه المناسبة, وقد انفض الاجتماع بدعوة الجميع لتناول طعام الإفطار في الحديقة العائدة لمهنا، لأن الرجل المسؤول هنا كان وكيلا لمزرعة حاكم بريدة.
كانت حديقة في غاية الجمال، كانت أشجار التين وأشجار البرتقال، أشجار الرمان والخوخ، مع قنوات المياه والخزانات ذات الحواف المؤطرة بالحجارة، والممرات التي تتوسط جنبات الشجيرات منسقة بطريقة أكثر ذوقا وتماثلا عما درج عليه الأعراب عادة في مجهوداتهم البستانية, وقد تم فرش السجاجيد تحت مجموعة وارفة الظلال من أشجار النخيل, وبينما كانت الوجبة الحقيقية يجري إعداداها تم نثر الشمام والبطيخ بمختلف أشكاله وأنواعه أمامنا من باب المقبلات, وقد أخرج النائب وعاء للشاي بكامل ملحقاته لم يكن يبدو مختلفا عما يكون ان يكون بمثابة حفلة استقبال إنجليزية رسمية، بالإضافة إلى غليون فارسي جميل للتدخين، أو ما يطلق عليه النارجيلة ذات المبسم المطلي بالفضة والمزينة بصورة أنيقة, والآن كان صاحبها قد استرد مرحه, وكذلك تابعيه, وليس السبب في ذلك لأنهم دوما يأخذون دورهم المزاجي من سيدهم، أو لأنهم وبطبيعتهم خرق بمعنى الكلمة، أو أنهم يكونون أحيانا متجهمين، وفي حالة سيئة فقط من تلقاء أنفسهم، بل وإنما يكونون في أغلب الأحيان سفهاء وفي غاية المرح, وتبعا لذلك فقد كانت النزاعات والمشاجرات المخيفة تندلع أحيانا بينهم وبين النائب نفسه, مما يوفر مشاهد لا تتيح للناظر إليها أي فرصة لفض الطرف، وتقوم بذلك لتنشيط وبعث الحيوية في رتابة الرحلة المملة.
ولكن الآن فقط كان توقع إفطارجيد له تأثيره السار على عقولهم، وقد كانوا مقبولين لأقصى درجة كانت بمقدورهم.
كان أبو عيسى بدوره أكثر تعودا على مثل هذه الشخصيات، وعلى حوادث السفر المختلفة، وعلى أن يكون مبتهجاً أو محبطا بكل سهولة، وأن يحافظ مع ذلك على مظر جيد في ملامح وجهه وتصرفاته، مع أنه كان أحيانا يسمح لنفسه بالإدلاء بتعليقات غاية في السخرية على النشأة السيئة للفارسي, ولكن كانت له خدعة جانبية يود تنفيذها، وقد نجمت عنها العديد من الأحاديث المطولة بينه وبين النائب،وقد تحاشيا في الواقع أي فرصة جدية لحدوث شجار فيما بينهما, لقد سبق أن شاهدنا سلفا أبو بطين، وكيل حجاج فيصل السابق، لم يكن على وفاق مع أبو عيسى، بل وقد سبب له ضررا إيجابيا، وقد نجم عن لجوئه إلى عنيزة أن أصبحت وظيفته شاغرة في الوقت الراهن.
إنها تعتبر مهنة مربحة، وهي تتلاءم تماما مع أساليب صديقنا، ومع تأقلمه طويل الأجل مع الشيعة, وهم بدورهم قد تمرسوا على صبره وجلده ونزاهته، وكانوا يضعونه في مكانة رفيعة, كان النائب من جانبه يأمل أن يحصل في الرياض على إدراك كامل للماضي وضمان بأشياء أفضل للمستقبل, إلا أنه كان مجرد أجنبي لدى البلاد الوهابية, وبالتالي فقد تم إبرام ميثاق بينه وبين أبو عيسى، كان على الأخير أن يزوده بتأشيرات الدخول، وأن يسهل دخوله على فيصل (لم يكن ذلك بالأمر السهل)، وأن يجند الوزراء وكل شخص آخر لصالحه، بينما على النائب أن ينتزع من الحاكم الوهابي المطلق، كشرط ضروري ولابد منه للتفاهم الجيد من الحين فصاعدا، بأن يتولى أبوعيسى من الآن فصاعدا منصب المرشد الوحيد ومطلق الصلاحية للحجاج الفرس عبر نجد.
كانت تلك هي الخطة التي نوقشت بصورة مطولة، وأخيرا تم الاتفاق عليها بالكامل، وقد تم حساب وتحديد كل الخطوات الضرورية اللازمة لتنفيذها بصورة دقيقة, وسوف نرى النتيجة التي تتمخض عنها قبل مغادرتنا الرياض.
كان صدر النهار قد تقدم كثيرا قبل أن يتم ذبح الخراف، التي راحت ضحية لمأدبتنا، وسلخها وطهيها ثم تقديمها مع الأرز والبيض، وغيرها من أطعمة الموسم الشهية, وقد تبع ذلك مأدبة شهية ووفيرة، وبعد فترة قصيرة من الانتظار كنا قد حزمنا أمتعتنا، وشكرنا مضيفنا، وانطلقنا باتجاه الشمال الشرقي.
كان طريقنا لا يزال يقع داخل حدود القصيم، التي التفت مرتفعاتها مرة أخرى، ممتدة حتى غروب الشمس, كان المشهد في غاية الجمال من حيث مداه وتعدد مصاعده ومهابطه، وسط جبال عريضة تكسوها الحشائش, وقد انتشرت مجموعات صغيرة من الأشجار منتصبة في مجموعات متناثرة من حولنا, ولو كان هناك نهر يمكن رؤيته، وتلك هي أمنية الجزيرة العربية، لكان الواحد قد تخيل نفسه تقريبا في المنطقة المحيطة بأسفل نهر الراين في جزء من مجراه, وقد يفترض القراء أيضا بأن هناك خضرة أقل عما هو في مثيله الأوروبي، إلا أن مقارنتي تركز فقط على التوجه بالقرب من القصيم سوى الشط، الذي يبعد ببضع مئات من الفراسخ، وقد اعتادت أعيننا منذ زمن طويل على برك السراب الوهمية، التي لا تقترن بها أي فكرة عارضة سوى الجفاف والحرارة.
واصلنا رحلتنا حتى حلول الظلام، وواصلنا بعد ذلك إلى رواب معينة وذات طبيعة مختلفة عن الأرض الصلبة التي كانت تحت أقدامنا مؤخرا, وهنا بدأت النفود، التي يفصل مجراها من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، ثم إلى الشمال، بين كل من القصيم، الوشم، وسدير, لقد سبق لي أن ذكرت سلفا شيئا عن تلك المداخل الرملية عند وصفي لتلك التي عبرناها قبل ثلاثة أشهر مضت بين الجوف وشمر, لقد كانت النفود التي تقف أمامنا بالفعل، ولحسن الحظ، أضيق من تلك التي عرفناها في الماضي، إلا أنها كانت في جوانب أخرى مماثلة لها أو أسوأ منها, مع ذلك فإن أكتوبر ليس هو يوليو، حتى ولد في الجزيرة العربية، ولقد كان لدينا هذه المرة دليل أفضل بصحبتنا في الجدي البدوي.
يعود الأصل الأول لهذا المجرى الرملي المحدد إلى الذراع المائي الضخم للصحراء الجنوبية أو الدهناء، التي تندفع من خلف اليمن ووادي نجران، وتعبر طرف وادي الدواسر الطويل عند أعلى قلعة بيشة، ثم تجري شمالاً، تاركة جبل عسير، منطقةمكة، والحجاز على يسارها، ونجد على يمناها, وهي تتمخض، وعلى زوايا قائمة تقريبا، عن العديد من الفروع الجانبية، والتي يشكل الفرع الراهن أطولها، مع أنه ليس أعرضها, ومرورا على امتداد السلسلة الجنوبية الغربية لجبل طويق في أقصى طول لها، تاركة طريق الحجاج النجديين بينها وبين الجبل، لتلتف حول جنوب القصيم،وإلى ان تصل إلى طرف تلك المحافظة، حيث تدخل الوشم، وتعبر أحد أركانها، ثم تدور باتجاه الشمال لتفصل باقي الوشم عن سدير, وتلك أشياء يمكن ان يتم وصفها بلمحة عابرة على الخريطة, وتموت آخر تموجاتها بعيدا في السهل الصخري الضخم الذي شكل الركن الشمالي الشرقي من شبه الجزيرة، والذي يصلها بأراضي الزبير، البصرة، والشط.
وقد توقفنا قليلا الآن عند حافة هذا الشريط الصحراوي لتناول عشاء سريع، ولشرب القهوة بالنسبة للأعراب والشاي بالنسبة للفرس, إلا ان السفر في هذه الرمال، تحت حرارة الشمس نهارا، يعتبر قاتلا بالنسبة للإنسان والحيوان، ولهذا فقد قرر أبو عيسى بأن علينا أن نعبر الجزء الأكبر منها تحت نعمة الساعات الباردة من الليل, وطبقا لفكرته هذه فقط امتطينا رواحلنا مرة أخرى وواصلنا مسيرتنا قبل أن يخبو الهرم المائل للضوء البروجي مختفيا في الغرب, طيلة تلك الليلة، وهي ليلة مضنية، واصلنا سيرنا صعودا وهبوطا عبر الأمواج الرملية، التي كانت الجمال تغوص فيها أحيانا حتى ركبتيها، وكان راكبوها يضطرون للترجل والقيام بمساعدتها على السير فيها, لم يكن هناك أي أثر للطريق، ولم تكن هناك علامة أرضية لتوجيه طريقنا، لقد كانت النجوم وحدها هي بوصلتنا وهادينا، إلا أن أبو عيسى سبق له ان اجتاز هذه النفود أكثر من مرة، وهو يعرف خط السير بقلبه, وعندما ظهرت أولى خطوط الفجر الشاحب على كتفنا الأيمن كنا على مقربة من قمة أحد الجبال الرملية، وقد هب الهواء وهو أكثر روعة عما ألفته قط في الجزيرة العربية, توقفنا وقمنا سويا بتجميع أكوام من الفدا وغيرها من الشجيرات الصحراوية الأخرى لإشعال النيران الملتهبة, التي جلس البعض إلى جوارها، واستلقى البعض الآخر ليغط في النوم، وكنت واحدا منهم، إلى أن لامست أشعة الشمس الساطعة القمم الصفراء من حولنا، ثم واصلنا طريقنا.
الآن وبظهور ضوء النهار الكامل تكشفت المعالم الحقيقية للإقليم الذي نجتازه, كان من حيث المظهر يمثل النفود الواقعة شمال جبل شمر، إلا ان التموجات كانت هنا أعلى وأعمق، وبالنسبة للرمال نفسها فقد كان خفيفة وأقل ثباتا, وفي أغلب الأماكن لم يكن بمقدور الشجيرة أو ورقة العشب أن تثبت جذورها، وفي أماكن أخرى كان القليل من النباتات تصارع عبرها من أجل البقاء، لكن لم يكن هناك أي أثر للإنسان فيها, كانت الجمال تشق طريقها ببطء، وكان الفرس، الذين لم يعتادوا على مثل هذه المشاهد، يخيم عليهم الصمت والكآبة، وكانوا كلهم مجهدين،ولا غرابة في ذلك.
وأخيرا، وقبل منتصف النهار بقليل، فقط عندما أصبحت حرارة الشمس شيئا لا يطاق، وصلنا إلى حافة تجويفة ضخمة شبيهة بفوهة البركان، يبلغ محيطها بالتأكيد ثلاثة أو أربعة أميال، حيث كانت الموجات الرملية تنسحب على كل جانب من أطرافها تاركة في الوسط حفرة يبلغ عمقها ما يتراوح بين سبعمائة وثمانمائة قدم، استطعنا ان نتبين عند قاعدتها ومضة بيضاء من الصخر الجيري، ومجموعة صغيرة من المساكن، والأشجار والحدائق، كانت تقف معزولة هكذا في قلب الصحراء.
كانت تلك هي واحدة وقرية الوسيط الصغيرة، والتي أطلق عليها هذا الاسم، لأنها كان تشكل نقطة مركزية أو وسطية بين محافظات القصيم، وسدير، والوشم، الثلاث، مع أنها لم تكن تنتمي لأي منها، لم تكن تتم زيارتها بواسطة المحاربين حسبما علمنا من السكان،وهم رجال بسطاء وشبه أجلاف، بسبب قلة اختلاطهم بالعالم الخارجي، ويجهلون مجرد الأصول العامة للصلاة الإسلامية، مع أنهم يقطنون في منتصف الأراضي الوهابية، وقد استفسروا منا عن الأنباء الراهنة لعنيزة، وغير ذلك من أحداث الساعة، بنفس الطريقة التي يتساءل بها فلاح لنكولنشاير عن أنباء الحرب المكسيكية أو حملة الدجاج الصيني وهي أشياء أكثر بعدا، وتكون معروفة فقط من خلال تقرير غير واضح، وقد ذكر أبو عيسى أنه قد صادف في جولاته بقاعا أخرى مماثلة من الحياة النباتية والبشرية إلا انها أكثر انعزالا عن التداخلات الاجتماعية، وتعتبر نسيا منسيا بالنسبة للعالم, وأخيرا كانت هناك أيضا واحات خالية تماما من السكان عدا الطيور والغزلان، وخاصة في المجاهل الجنوبية.
قادنا هبوط طويل ومتعرج إلى أسفل الوادي، حيث حضر الرجال والصبية عند وصولنا للتحديق في أوجه الفرس، ومن خلال وضعهم أسعارا مضاعفة للفاكهة وحليب الإبل برهنوا على أنهم لم يكونوا جميعا أغبياء أو حمقى كما يبدون, وبالنسبة لنا، وباعتبارنا من الأعراب، فقد نعمنا بكرم وفادتهم الذي كان بالضرورة محدودا وبالمجان، بينما تملكت الغيرة النائب، وخطب ضد الأعراب واصفا إياهم بالكفار لعدم معاملتهم بالكرم اللائق لحجاج أمثالهم عائدين من بيت الله , وبالتأكيد فقد شكل ذلك موضوعا مفضلا للحديث بالنسبة له طيلة الطريق، ويبدو أنه كان يعتقد ان لقب الحاج الذي يتمتع به لوحده، بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى، كافيا لأن يجعله يحظى بالاهتمام في كل مكان على العين والرأس كما يقول المثل الشرقي، كما يجب ان يؤمن له الحليب، البيض والأشياء الأخرى مجانا، بالإضافة إلى ما يرافقها من تشريفات, وقد أكد لنا أن الحجاج يعاملون على هذا النحو في بلاد فارس، ولم يكن ذلك أمرا صعباً، نتيجة للتوقير والتبجيل الذي تحظى به المواقع المقدسة ومن يقومون بزيارتها، والذي يتزايد بصفة عامة بما يتمشى نسبيا مع بعد المسافة.
ونتيجة لذلك فقد كان هناك العديد من التعليقات التي بدرت من نبيلنا الشيرازي فيما يتعلق بالمسلمين الهنود والفرس من جهة، والعرب، وخاصة النجديين، من الناحية الأخرى، والتي كانت بالقدر نفسه لصالح الأوائل، وتحط من قدر الآخرين، إن كانوا يفهمونها، إلا أنها كانت بالهندوسية.
وبعد قليل أنعم علينا الرجل الذي يتولى الزعامة في الوسيط بدعوة داخل حديقته، وهناك أخذنا قسطا من الراحة لمدة ساعتين تحت ظلال أشجار التين الكثيفة، إلى أن وضعت حرارة الظهيرة حدا لذلك نوعا ما, ويجدر بي أن أضيف أن الفواكه المزروعة هنا الشمام والبطيخ، التمور الخ قد كانت، وهذا ما يمكن افتراضه على عجل، أدنى درجة بكثير من الحجم أو النوعية، من تلك التي اعتدنا عليها في القصيم.
لم يكن الخروج من هذه الحفرة بالأمر السهل، صعودا، أو هبوطا، كما كنت أعتقد, فلم يكن هناك أي مسار صاعد قد أظهر نفسه في الاتجاه المطلوب، وقد حاول كل شخص أن يدفع بحيوانه المتعثر إلى حيث بدت الرمال على إنحدار معقول وثابتة تحت الأقدام, كان الرجال والجمال يسقطون ويتدحرجون مرة أخرى إلى أسفل المنحدر إلى أن تساقطت دموع بعض أفراد المجموعة من الغيظ، وضحك الآخرون، الأوفر حظا، من معاناة رفاقهم, كان أبو عيسى يهرع جاريا من أحدهما إلى الآخر، محاولا توجيههم والإبقاء عليهم متماسكين بعضهم مع بعض، إلا أن وصلنا أخيرا، بمشيئة الله، إلى الحافة العليا للحفرة إلى الشمال.
كان يقع أمامنا ما بدا، وكأنه بحر من اللهيب قد ساقته الأعاصير في ضوء الظهيرة المائل للإحمرار وقد شققنا طريقنا عبره إلى ان عثرنا قبل حوالي ساعة من غروب الشمس على نوع من المسار أو الاخدود, وثانية أطل على طريقنا منحدر طويل للغاية تبينت لنا في أقصى قاعدته مدينة الزلفي التجارية الهامة, ومن خلفها ارتفعت منحدرات جبل طويق الشبيهة بالحائط، والتي سمعنا عنها مرارا، شوهدت الآن قريبة وفي متناول اليد, وإنه لغني عن القول ان نذكر كيف كانت فرحتنا، ونحن نستقبل أول مشهد لتلك السلسلة الجبلية الغربية، التي تعتبر بمثابة القلب والعقدة المركزية للجزيرة العربية، والتي يمكن ان تعتبر كل ما يقع وراءها بمثابة رحلة العودة تقريبا.
كنا الآن في الواقع قد عبرنا النفود، وكان تحت أقدامنا حاليا ذلك الوادي الضخم الذي يشكل خط الاتصال الرئيسي بين نجد والشمال، بل والذي يصل حتى تقريس (دجلة) وبغداد, كانت الشمس على وشك الغروب عندما وصلنا إلى أدنى انحسار للمحيط الرملي، وخلفنا وراء ظهرنا أمواجه الضخمة المتراكمة، تلة فوق الأخرى.
كنت أنا وبركات والفضل في ذلك يعود لجمالنا العربية الأصيلة ذات السلالة الممتازة قد تقدمنا كثيرا على رفاقنا، وقمنا من تلقاء أنفسنا بالسماح لرواحلنا بالانعطاف والتنحي جانبا عن الطريق، لكي تقوم بالرعي في حشائش الثمام الوفيرة، وهو نوع من العشب الخشن ذي رائحة جميلة، وهو من النباتات الشائعة والمألوفة على امتداد نجد، وقد ورد ذكره مرارا على لسان شعرائها، بينما ظللنا نحدق الآن في التلة الحمراء الواقعة خلفنا، وفي أحيان أخرى صوب السهل الطويل الممتد على يمنتنا ويسرانا، إلى الشمال والجنوب، حيث كانت ملامح أسوار الزلفي المتهدمة تبعد بمسافة ميل أو أكثر أمامنا، وأحيانا صوب صخور طويق الرسوبية مع أنها تشكل حاجزا شبيها بالحصن، والتي كانت تحيط بالأفق.
الجزء الثاني غداً
الهوامش:
(1) نقل عدد من الباحثين ما أورده بلجريف عن الجوف في بعض المطبوعات العربية, وآخرها وأكثرها تفصيلاً ما أورده الدكتور عوض البادي في كتابه الرحالة الأوربيون في شمال الجزيرة العربية منطقة الجوف ووادي السرحان 1845 1922م دار بلاد العرب للنشر الرياض 1418ه.
(2) لقد قمنا بترجمة ما كتبه عن حائل كاملا وسنقوم بنشره قريباً.
(3) ما أورده عن بريدة وعنيزة وتطور الأحداث بها أيضا قمنا بترجمته وسنقوم بنشره.
(4) الكلب القوي، الجريء، الضخم الرأس، القصير الشعر, المترجم .
أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved