أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 29th October,2000العدد:10258الطبعةالاولـيالأحد 2 ,شعبان 1421

الثقافية

قصة قصيرة
الخادمة
راح يجيل نظراته الكليلة في أرجاء البهو الفسيح وهو يلعب بأصابعه ويشبكها في حركات مرتبكة محاولا أن يقاوم تردده واضطرابه الواضح,, يوشك أن يقوم ليغادر المكان نهائيا، لكنه يتراجع ويعدل من جلسته وهو يحاول مرة أخرى أن يقنع نفسه ربما للمرة العاشرة بأنه مضطر ولا خيار له في ما سوف يفعله، وأنه معاذ الله لا يرتكب إثما في حق ابنته الصغيرة، وأنه,, ابنته؟,,, كان قد نسيها تماما في غمرة انشغاله بما يمور به صدره من شد وجذب ومن صراع محموم مع نفسه، فالتفت نحوها بسرعة وفي عينيه ما يشبه الخوف، كأنما يخشى أن يجدها قد غادرت مكانها فجأة,, فوق الأرضية النقية المغطاة بمفرش قطني ناعم، وإلى جوار الكنبة الفخمة، كانت الفتاة جالسة في صمت وإلى جوارها رزمة تحوي ثيابها وبعض أشيائها الصغيرة,, على النقيض من أبيها كانت هادئة تماما، ولم يكن وجهها ينطق سوى بملامح الطفولة والبراءة والسكينة، اللهم بعض الدهشة التي أحست بها داخل هذا المكان الواسع الفخم الذي تراه لأول مرة الذي يرين فيه هدوء وصمت باردان جعلاها تغفو أكثر من مرة,, عندما وقع بصره على وجهها الطفولي الناعم وتأملها قليلا ازداد اضطرابه وانفعاله، فقام من مكانه وأخذ يذرع البهو جيئة وذهابا,, وهذا السيد ؟,,, لماذا تأخر هكذا؟ كأنما يمعن في إهانته وإذلاله إذ يتركه ينتظر كل هذه المدة مع هواجسه المضطربة وتردده الذي ما فتئ يغذ به ويقهره,, لماذا لا يأتي بسرعة ويأخذ البنت ثم يسلمه الدفعة الأولى من المبلغ كما اتفقا، وينتهي كل شيء؟ لكن كلما هانت منه التفاتة نحو ابنته الصغيرة تمنى، في أعماق نفسه، أن يتأخر ذلك السيد أكثر إلى أن يقتنع بالقرار الصائب الذي ينبغي له اتخاذه,, وهكذا يزداد تردده وتطول حيرته,, يفكر في النقود تارة، وتارة أخرى يتخيل طفلته الصغيرة وهي تكنس وتغسل وتهان,,, يحسن بخطئه وتسرعه في لحظة، ثم سرعان ما يعود ليبسط أمام نفسه مبرراته وظروفه القاهرة,, كل هذا والبهو فسيح، بارد وصامت,, وبندول الساعة الضخم يسكب قطرات الوقت بإيقاع منتظم,, والطفلة لائذة ببراءتها ودهشتها لا تزال,, يلوح السيد أخيرا,, ما زال في ثياب النوم الأنيقة,, ينزل درج الطابق العلوي ببطء وهدوء، ناظرا إلى أعلى سبقته نحنحاته المفتعلة لتخبر ضيفه بقدومه,, عندما وصل ألقى تحية مقتضبة وأخذ يتأمل الفتاة، وبدا بأنه يتجاهل تماما الرجل المضطرب الواقف إلى جانبه,, جلس وهو يحرك رأسه ثم نظر إلى الرجل الذي بقي واقفا دون أن يقول شيئا,, مد يده إلى جيبه وأخرج مبلغا من المال وضعه فوق الطاولة وقال للرجل الذاهل الصامت: خذ,, لكن الأخير لم يأخذ شيئا,, راح ينظر إلى المبلغ المالي فتراءى له سياطا لاهبة تنهش جسد طفلته الصغيرة، واستشعر وخزات الندم والتأنيب التي ستستبد بقلبه بمجرد أن يسلمه باب هذا المنزل إلى الخارج,, فجأة، وكأنما دفعته قوة داخلية خارقة، قام من مكانه منتفضا وأخذ ابنته من مكانها، وسرعان ما وجد نفسه في الخارج,, مشى مسرعا بشكل أقرب إلى الهرولة وهو يكاد يجر طفلته وراءه,, وما إن وصل إلى منزله حتى أخذ فأسا بدأ يتراكم عليها الصدأ، وكانت مركونة في زاوية مظلمة,, وفي الخارج نظر مليا إلى الجبل البعيد وركز بصره على بعض الشجيرات الصغيرة اليابسة المتناثرة فوقه هنا وهناك، ثم حث سيره باتجاه الجبل وهو يحس بأن دم العزيمة يتجدد في عروقه، وبأن المرض المزمن الذي يعاني منه ليس عائقا مثبطا، بل هو قوة أخرى تدفعه إلى الأمام وتشد من أزره.
لحسن باكور
مراكش المغرب
أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved