أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 4th December,2000العدد:10294الطبعةالاولـيالأثنين 8 ,رمضان 1421

عزيزتـي الجزيرة

من يقرأ المقال؟
عنوان أردت به التعميم لا التخصيص, فمن يستمع لمن؟ ومتى نقبل القول ومتى نرفضه؟ ففي المحكمة: لو أيّد الشاهد قول خصم لامتدحه ذلك الخصم وأيّد قوله وامتدحه بالصدق ونعته بالجرأة والرجولة واستمع لقوله وحفظه وردده واستشهد به كأنه حديث نبوي أو مقالة حكيم, أما الخصم الثاني فسيرفض مقولة الشاهد وسينعته بأصعب النعوت التي قد تصل إلى اتهامه بالكذب والضلال أو الحمق والغباء أو الشر والضياع.
من يحب المديح والإطراء سيصفق للشاعر المادح ويصفه بالعبقرية والنبوغ, وإذا مدح عدوّه أو من يخالفه انتقص من قدرته وعيّب شعره واتهمه بالنفاق ونعته بأسوأ النعوت.
الإنسان جبل على الغرور، ومهما قيل في التواضع فإنه يرفض أن ينتقد أو يقال عنه ما يقلل من غروره أو ينزله من عليائه، وقديما سمّوا الشعر الذي ينسجم مع رغبات المنشود له مديحاً، وسمّوا الشعر الذي يتعارض مع المنشود له هجاء.
وقد يصدق الجانبان، وقد يكذب الطرفان، ويحدد الفرد طبيعة الإنشاد بتوافق المذكور مع رغبات الممدوح أو المهجو.
هل الحقيقة مطلقة؟ هل نقبل الحقيقة على الإطلاق؟ هل ينظر جميع البشر إلى الحقيقة من منظار العدل المطلق؟ هل ينظر الجميع إلى الحقيقة من نفس الجانب؟ هل تزيّف الحقيقة؟ هل تتزين الحقيقة بأكثر من ثوب؟ هل الحقيقة تقود إلى الخير وتنقذنا من الأشرار والشر؟ هل تموت الحقيقة؟
الحقيقة موجودة ومعروفة والعبرة في قبول الحقيقة، وقبولها يعني أن نتمثلها ونعمل على أداء مضمونها، الحقيقة كائنة: أما ما يظهر متناقضاً مع الحقيقة فهو لجهل بها أو تنفيذا لمخالفات سلوكية تأثرت برغبة في منفعة ذاتية أو برهبة من عقاب يرفض أصحابه الحقيقة، وللتمثيل فإن القضاة من حرّاس الحقيقة؟ ولكننا لا نجد من يتمثلها في كل أحكامه، أو لا نجد كل من يتمثلها في كل أو بعض أحكامهم, وذلك لاعتبارات ذكرتها، ونجد الحديث الشريف يصنف القضاة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة .
والنفوس البشرية المحشوّة بالغرائز التي حشدت متناقضات الدنيا في ذات واحدة نجدها تبرمج الحدث أو حقيقة الحدث بما يتناسب مع أهوائها، وقد يحارب الناس وتخرج الجيوش وتراق الدماء وتدمر الحياة لتحصيل حقيقة موهوبة؛ أو توهيم الحدث بأنه حقيقة ماثلة مهما انتقص ذلك الحدث من أركان الحقيقة.
وما أكثر من استعبد الحقيقة وأراد أن يطوّعها لغايته ويأسرها لمصلحته الذاتية، فينشر الدعاة لتلوين الحقيقة، ويرسل المنجمين لقلب واجهات الحقيقة، وينقف الأموال لإسكات الألسن, وقد يلجأ إلى الوعيد والتهديد، وقد يلجأ إلى الفتك والتشريد، وقد يشعل حروباً هوجاء تحقيقا لحقيقة مزعومة.
الحقيقة هذه الكلمة النارية، استغلها البشر صعوداً وهبوطاً استغلها الناس إيجاباً وسلبا، هل تفيد قائلها؟ هذا الناتج يتوقف على طبيعة الحقيقة وأطراف من يبحث عنها؟ وقد تكون النتائج فورية، وقد تكون مآلية، فإذا اعتبرنا موقف عمار بن ياسر مع أبيه وأمه أمام كفار قريش: موقف رجولة حقة بتمسكهم بحقيقة الرب سبحانه ورفضهم ربوبية الأصنام: فإن تلك النتيجة تصدق أمام الله سبحانه وتعالى وأمام نبيه عليه أفضل الصلاة والتسليم وأمام المؤمنين، ويكون الثواب العظيم يوم القيامة بإذن الله، كما يكون التقدير والمحبة من قبل سائر المسلمين, ولكنهم عوملوا كعصاة امام الكافرين فنالوا عذاباً شديداً وكان مآلهم الموت وفقدان الدنيا، فالحكم المعياري الدنيوي خسروا فيه من جراء تمسكهم بالحقيقة، ولكنهم كسبوا في المعيار العقدي وكان مآلهم الجنة بإن الله.
فالحقيقة لا تلبس ثوب الإطلاق ويتنازعها البشر طبقا لأهوائهم ونزعاتهم وطبعا لعقائدهم وأفكارهم, فالحقيقة بين الأديان قد لا تكون مستقرة, مع أن الحقيقة الصائبة يعلمها رب السماء وان تنازع عليها الفرقاء والأحزاب، وما دامت الحقيقة في أثيابها الكائنة من صنع البشر: فإنها تتلون طبق الأهواء والأمزجة، ويتفنن كل طرف بتحميل عبارات الإقناع، ويتفنن روّاد كل فريق بنسج الروايات والأقوال الداعمة لمنهجه في رسم الحقيقة، ويقوده العناد إلى تكذيب كل مستورد وتصديق كل مسارات فريقه والويل الشديد لمن حاول التشكيك في المنظومة المتفق عليها، والغريب أن خيوط المنظومة لا تخضع للاختبار أو التعليل ينطبق على ذلك قول أحدهم: عنزة ولو طارت , والغريب كذلك أنهم يجعلون الوهم حقيقة ويدافعون عن ذلك الوهم بادعاءات معللة متوازنة لا يجوز المساس بقدسيتها فمن يستطيع إقناع عبدة البقر ببعدهم عن الحقيقة؟ ومن يستطيع إقناع عبدة النار ببعدهم عن الحقيقة؟ ومن يستطيع أن يقنع النصارى بأن الله سبحانه لا يلد ومنزه عن كل ما نسب إليه؟ إن تلك القضايا لدى أتباعهم حقائق ويراها غيرهم كالمسلمين بعداً عن الحقيقية، وتستمر الأقوال، وتستمر الإجابات، وتكثر المقالات, ولكن: من يقرأ المقال؟
وأرجو أنني لم أبعد عن الحقيقة إذا قلت: بأن الإسلام هو الدين الذي حثّ على معرفة الحقيقة، فنجد كثيرا من الآيات الكريمة، اختتمت بقوله تعالى لقوم يعقلون,, و لعلكم تعقلون,, ,,لعلكم تتفكرون,, ,,وفي أنفسكم أفلا تبصرون,, , وفي الحديث الشريف تفكروا في خلقي ولا تتفكروا في ذاتي,, فحث الإسلام على التفكر وإعمال العقل للوصول إلى الحقيقة، وفي قوله سبحانه ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة دليل قاطع على الترغيب في الوصول إلى الحقيقة, ولا نجد أمراً دينيّاً تعارض مع المنطق والعقل والفطرة، وما نتوهمه من وجود تعارض فمرده لعدم معرفتنا بأطراف الحقيقة وعدم معرفتنا وإحاطتنا بحقيقة التعارض، أو يكون التعارض مع نظرية لم يثبت واقعها، أو أن بعض المذاهب والفرق جيّرت بعض الجوانب لمصلحتها واختفت من الرواية أسانيد الحقيقة الكاملة.
الحقيقة لا تضيع وقد تختفي، ولا يوقفنا حزن اختفائها عن عمل جاد هادف لإيجاد الحقيقة، وسيصل المسافر مهما طال سفره، والحقيقة تستأهل متابعة السفر إلى الحقيقة وكلما سقط شهيد للحقيقة سيخلفه الله سبحانه بألف وليد ويثيب الشهيد فيجعله مع الأنبياء في جنات النعيم، وإن عرضنا الجانب على العروض الإنسانية والوجدانية: فإن النصر طعمه جميل وسيكون مذاقه أجمل عندما يكون النصر وصولاً إلى حقيقة، فالنتائج المعنوية عند الأديب تفوق النتائج المادية، وإن كانت النتائج لا تستهوي البشر على درجة واحدة من الاهتمام.
د, زهدي الخواجا

أعلـىالصفحةرجوع




















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved