أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 8th December,2000العدد:10298الطبعةالاولـيالجمعة 12 ,رمضان 1421

رحلات

رحلات بلجريف إلى سدير
الجزء الرابع
(1)
1 *تقديم وترجمة: د, محمد بن عبدالله آل زلفة
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي غادرنا مضيفنا غير الاجتماعي النزعة الذي قام رغم ذلك بالتكرم علينا بالدخول إلى بوابة قصره وبمشاهدته لنا شخصيا, وعلى بعد مسافة قصيرة من التويم مررنا بقرية كبيرة أخرى ذات أسوار بها فتحات لإطلاق النار، وعلى الجانب المقابل من الطريق كانت هناك قلعة مربعة تبدو شديدة الشبه بالعصور الوسطى، تلك كانت هي (الحفر), وقد ذكر رفاقنا من التويم بأن الأخيرة كانت في السابق على عداء مع بلدتهم، وأنها قد أعلنت على مدى سنوات حربا تافهة ضدهم، كانت دون شك ضارة بالطرفين, ولكن تحت حكم ابن سعود ليس هناك من يمارس النهب، وقد كان سكان سدير ملزمين بالحفاظ على الأمن مع بعضهم البعض، وقد كان ذلك بالتأكيد من أجل مصلحتهم العامة والمشتركة.
بعد ساعتين من ذلك وصلنا (تمير)، وهي مدينة ذات مدخل غير منتظم، وأكثر وجودا في شكل جدران متهدمة عنها في شكل منازل، وعلى مقربة منها كانت هناك صخرة بيضاء طويلة تتوجها الأطلال التي تلوح للناظر من عمل خارجي، أو حصن قديم، يطل على المكان.
هنا توقفت مجموعتنا لتناول طعام الإفطار تحت ظل الأنقاض, قررت أنا وبركات اختبار حظنا في القرية نفسها, لم يظهر أي حراس عند بوابتها المفتوحة، فدخلنا دون أن يعترضنا أحد، وتجولنا حول الأزقة الصامتة وأكوام النفايات، باحثين دونما جدوى عن أية أنباء للبن والتمر في مدينة الأشباح هذه, وأخيرا التقينا رجلا هزيلا من أبناء المدينة، يبدو في سحنته وزيه شبها بصيدلي روميو، ومنه استفسرنا، دون أن يخلو ذلك من الريبة والشك، عن كيفية العثور على أي شيء يمكن أن يؤكل طمعا في المال, وقد اعتذر، رغم أنه لم تكن هناك من حاجة إلى ذلك، عن عدم وجود أي صنف من هذا النوع لديه، وأضاف قائلا: (إلا أن في ذلك المنزل وحده سيكون هناك بالتأكيد شيء جيد)، وتقدمنا في بحثنا إلى هناك, وجدنا مسكناً كبيرا إلا أن الباب كان مغلقا، طرقناه من دون هدف، ولكن لم يكن هناك من أحد بالمنزل, وقد طرح علينا صديقنا نموذجاً جريئاً، حيث تسللنا جميعا عبر كوة في الجدار الطيني لنجد أنفسنا وسط غرف خالية وفناء منعزل, (الجميع في الخارج بالحقول، عدا النسوة هنا فقط) هكذا قال صديقنا، وبالتالي افترقنا في حال لم يكن بأفضل من سابقه, وفي بأس من أن نعثر على مؤن بالقرية تسلقنا برجا على الأسوار الخارجية وتطلعنا فيما حولنا, شاهدنا على بعد مسافة قليلة أحد بساتين النخيل الجميلة، حيث خلصنا إلى أنه سوف لن يكون خاليا من التمور، حيث توجهنا صوبه عبر مخلفات الحصاد بالحقول, إلا أننا عند وصولنا وجدنا فردوسنا محاطا بأسوار شاهقة، دون أن نكتشف له بابا للدخول منه, وأثناء وقوفنا خارجه على هذا الحال، مثل عفريت ميلتون في عدن، وعاجزون مثله (بأن نجتاز من خلال وثبة عالية واحدة كل الحواجز)، مر بنا غلام رقيق من الصلب، كان يسير في أسمال بالية، فيما يشبه المشي حينا والرقص حينا آخر، وبطريقته القبلية التي لا يمكن للشيطان أن يعيرها اهتماما, (هل لك أن تخبرنا ما هو الطريق إلى الداخل؟) كان ذلك هو أول سؤال لنا، ونحن نشير إلى الحديقة التي أمامنا, و(هل يمكنني أن أنشدكم أغنية؟) كانت تلك هي أول إجابة له), نحن لا نريد أغانيك، وإنما التمور، فكيف يكون بمقدرونا أن نجد طريقنا إليها؟) كانت تلك أيضاً إجابتنا), أم هل أؤدي لكم رقصة؟) أجاب الغلام الشاب في ابتسامة عريضة، ثم بدا على الفور في رقصة بولكا عربية، وهو يضحك طيلة هذه الأثناء على نفاد صبرنا المكشوف والواضح.
وأخيرا وافق على أن يرينا الطريق، ولكن بالطريقة التي تتناسب مع غلام من سارقي البساتين من أمثاله، لأنه كان يقع على بعد مسافة قصيرة، فوق السور مباشرة، حيث تسلقه في مهارة خارقة وساعدنا على أن نتبعه ونحذو حذوه, وهكذا فعلنا، رغم أن ذلك ربما كان بمقصد أنبل, وبمجرد دخولنا وقفنا وسط الأشجار والظلال والمياه, عندها أطلق (الصبي الغض) صرخة، وسرعان ما ظهر أحد الرجال، (لقد شرعت صورة آدم العجوز في تشذيب تلك الحديقة، عدا أنه لم يكن عجوزا وإنما كان صغيرا في سنه، كنا خائفين نوعا ما من المقابلة الفظة، التي نستحقها بدورنا عن جدارة بسبب اقتحامنا لمريب، إلا أن البستاني كان من مزاج أفضل كثيرا عن العديدين من أقرانه، وبعد أن حيانا بكل أدب عرض علينا خدماته لتكون تحت تصرفنا, وعندما علم بأننا من دمشق ازدادت مودته بصورة إيجابية فاقتادنا عبر ممر ظليل إلى مأوى صغير، أو كوخ للحراسة داخل الفناء، وهناك قدم إلينا أحد أبناء عمومته الذي قال أيضا بأنه قد كان في (الشام، أو دمشق.
ولكن عبارة (الشام) كانت في نجد مطاطة في استخدامها كما هو الحال بالنسبة لنجد في الشام، وقد اكتشفنا بعد قليل أن رفيقنا الجديد لم يقم في الواقع باجتياز حدود الجزيرة العربية على الإطلاق, لقد سبق له فقط أن سار لمسافة ما على طريق الحجاج الشمالي باتجاه تبوك وما جاورها، ورغم ذلك فقد كان ذلك كافيا ليجعل منه أسدا في قريته، وقد كان يشكل مرجعا كبيرا عن دمشق، رغم انه قد توقف بعيدا عنها وعلى مسافة أسبوعين بالتمام والكمال من أبوابها.
تبادلنا الصداقة والود، وقد طرحت أمامنا وجبة إفطار بسيطة ومرتجلة من خثارة اللبن والتمر مع ماء بارد وصاف، كما كانت تشتهيه قلوبنا وتتوق إليه, ذهب الغلام الصبي الصغير بحثا عن الفاكهة لحسابه الخاص, بعد ذلك اقترحنا القيام بشراء مخزون من التمور لما تبقى أمامنا من الطريق، وطبقا لذلك اقتادنا البستاني إلى إحدى الدور الخارجية الملحقة حيث كانت أكوام من ثلاثة أو أربعة أنواع من هذه الفاكهة، حمراء وصفراء، مستديرة أو مستطيلة الشكل، تتكدس في أكوام، وطلب منا الاختيار مما بينها, وبناء على نصيحته قمنا بملء قطعة كبيرة من القماش، كنا قد أحضرناها معنا، بنوع من التمور الممتازة الضاربة إلى الحمرة، وأعطيناه في مقابلها قطعة صغيرة من النقود التي كانت موضع الترحيب هنا، كما هي في أي مكان آخر, بعدها استأذنا وعدنا أدراجنا، ولكن عبر بوابة الحديقة في هذه المرة، مرورا بمخلفات الحصاد في الحقول، مرورا بأسوار القرية المتهدمة، حيث وصلنا إلى رفاقنا الذين انتابهم القلق بسبب غيابنا، وقد ألقى علينا أبو عيسى على انفراد، محاضرة طويلة حول الحذر واتخاذ الحيطة ، كانت ملائمة للغاية إلا أننا، كما هو الأمر كالعادة، لم نستفد منها إلا نادرا، لأنها جاء بعد فوات الأوان.
بمغادرتنا تميرا تسلقنا أعلى رف من منتصف طويق، ثم اجتزنا صخوره العلوية العارية أو الأرض المنبسطة، كان المشهد المحيط بنا من كل الجوانب غاية في الروعة، وقد انتزع إعجاب النائب نفسه، رغم أنه كان أقل ميلا للإطراء على أي شيء في نجد, كانت السلاسل الجبلية الشاهقة الموجودة في الشرق فقط هي التي تحجب الأنظار، أما في الجنوب والغرب والشمال فكان السهل والوادي الواقع في الأسفل يلوح من علٍ في امتداد رهيب, كانت هذه المنطقة تضم، طبقا لأفضل تقديراتي وملاحظاتي، أعلى نقطة في داخل الجزيرة العربية وأستطيع أن أحددها بحوالي خمسة عشر أو عشرين ميلا جنوب شرق تمير, كان اسم الممر الذي يقع طريقنا عبره هو (ثنية عطا الله)، أي (الحاجز)، رغم أنه يعرف أحيانا ببساطة من خلال التسمية المستقلة (الثنية)، أو (الممر) لأنه الأعلى في المنطقة.
كان الجبل الشرقي هو (جبل عطا الله) نفسه الوارد في الأغاني العربية, وهنا تقع (يابرون) )yabroon( (1) وهي مدينة كانت يوما ما، فيما يبدو، على شيء من الأهمية، إلا أنها تدنت حاليا لتصبح مجرد قرية، وقد ذكرت لي فقط من قبل الأهالي على أنها تمثل الطرف الأقصى لوادي (صليع) في تقاطعه الشمالي مع طويق، وذلك بمناسبة سوق كان يتم عقده هناك من حين لآخر خلال السنة.
كان مسارنا الغاية في التحجر قد قادنا لثلاث أو أربع ساعات عبر السلسلة الجبلية، ولم نبدأ الهبوط في المسار المنزلق والشديد الانحدار إلا في وقت متأخر من الظهيرة، وسط مزيج من الرمل والحجارة الرمادية، إلى أن وصلنا، خطوة تلو الأخرى، إلى السطح السفلي، وهو نفسه الذي سرنا عبره في اليوم السابق, كان الجميع يعانون من شدة الإرهاق، وقد أصبحت الجمال بعد هذه المسيرة الطويلة ثقيلة الخطى، أما النائب فقد أطلق العنان لمزاجه السيىء من خلال مشاجرة صاخبة مع رجاله، وقد كان السبب في ذلك رمانة التهمها لوحده دون أن يشركهم فيها, وإنني أذكر ذلك كمثال على العديد من المنازعات التي تكدر من هدوء الجماعات , لكن العدالة تقتضي القول: إن مزاج محمد علي الأفضل سرعان ما عاد إليه، وعندها كان قد خجل من الأعماق من قلة احتشامه السابق.
وسط مثل هذه التغيرات الداخلية والخارجية كنا مضطرين، تحت كل الظروف، الى مواصلة السير قدما إن كنا نرغب في بلوغ (ثادق) (2) ، وهي مكان توقفنا المرتقب في تلك الليلة، في الوقت المناسب, واخيرا لاح لنا بصيص منها وسط الأرض غير المستوية، بعد حلنا مباشرة لعقدة من الجبال الصغيرة، حيث بدأت الغزلان الرابضة تنهض فور اقترابنا وتجري مولية الأدبار، إلا أن المساء قد اقترب كثيراً، ولم نصل أسفل الأسوار حتى حلول الظلام, كان الميدان الرملي النظيف، على مقربة من إحدى الآبار، الذي تظللها من كل جنباتها أشجار النخيل السامقة، قد وفر لنا مكانا للتوقف, كان الجميع قد ترجلوا هنا بينما دخل أبو عيسى لوحده المدينة لكي يعطي حاكمها إشعارا بوصولنا, وقد قام بدعوتنا بكل لباقة، كبيرنا وصغيرنا، إلى مسكنه بغض النظر عن تأخر الوقت.
إلا أن النائب، الذي يكاد يموت من التعب، قد رفض النهوض من سجاجيده التي زج بنفسه فيها، حيث كانت الرمال ناعمة ولم يكن الهواء غاية في البرودة, وبالتالي أرسل إلينا الحاكم، حيثما كنا، مؤونة من اللحم، وخثارة اللبن، والعسل، والبطيخ, والخبز، كانت كافية لعشاء جيد أضاف إليه الأعراب القهوة والفرس الشاي, وعند حوالي منتصف الليل قمنا بإعداد وجبة دسمة تحت ضوء نيراننا التي عسكرنا بجانبها.
كان أبو عيسى على علم، رغم أنه لم يقل، بأن مسيرة اليوم التالي ستكون مساوية في طولها تقريبا لسابقتها, وبالرغم من كل الاعتراضات الموجهة من قبل المسافرين المجهدين كان قد وضعنا عند الفجر في حالة من التأهب، وغادرنا ثادق دون مشاهدة ما بداخل أسوارها, وقد أوضح أولئك الذين كانوا ضمن المجموعة، الذين سبق أن زاروها في مناسبات سابقة، بأنها تعتبر قرية لا يستهان بها، بل هي مدينة صغيرة، وتعتبر في الواقع مساوية للمجمعة, لم نكن قد ابتعدنا كثيرا في طريقنا عندما لحق بنا أخ الزعيم شخصيا، وفي زيه الأحمر الأنيق، وبرفقته بعض أتباعه من حملة السيوف، ليطلب منا أن نعود أدراجنا ونشرف داره بتناول غداء مبكر فيها, إلا أن عدم وجود وقت للفراغ جعل ذلك يبدو مستحيلا، ولذلك شكرناه على هذه الدعوة، حيث قفل راجعا بعد أن قام خلسة بتدخين الغليون مع بركات وشخصي.
كان الطريق يتعرج الآن بين الأدغال والشجيرات حيث تكثر الأرانب البرية وطيور الحجل, كان النائب قد علق بسرجه بندقية إنجليزية قديمة ذات ماسورتين، جيء بها من الهند, وبالرغم من أنه تكلم كثيرا عن بندقيته وعن منجزاته الرياضية فلم يكن بمقدورنا قط حثه على توظيفها في هذه المناسبة أو اية مناسبة أخرى، حيث إنني أخشى أن يتوصل قرائي إلى نفس الخلاصة التي توصلنا إليها، ألا وهي أنه ليس بالرامي الجيد.
انطلاقا من الشبكة الأركادية من الصخور والجنيبات الشجرية وصلنا قبل الظهيرة إلى وادٍ مكشوف، وكانت مدينة (الحولة) )Hoolh( (3) تقع على يمنانا، وهي موقع ضخم ويعج بالحركة والنشاط، وقد ذكرني حجم وشكل أسوارها ذات الأبراج بقلعة (كونواي)، إلا أن طريقة البناء كانت مختلفة، حيث كانت هنا مشيدة بالكامل تقريبا من الطوب المجفف بحرارة الشمس والحجارة الصغيرة، وتلك غير المنحوتة, وتعد هذه المدينة، كما يقول الرجال، واحدة من أكثر المدن ازدهارا في سدير، وربما ساهم قربها النسبي من طريق شقراء والوشم في ازدهارها, لم يكن السكان تجارا نشيطين فقط، بل وكانوا مزارعين يتسمون بالكد، وكانت المنطقة المحيطة بها مزروعة ومحروثة إلى مسافة ملحوظة, كانت الحولة، شأنها شأن العديد من القرى المجاورة، قد نمت وتطورت ، وذلك لسببين أساسيين:
أولهما توقف النزاعات المحلية والمناوشات الحدودية، وثانيهما الأهمية المتزايدة للمناطق الوسطى بصورة عامة، وبالتالي الانسياب النسبي للثروة والتجارة, وتعتبر هذه الميزات مشتركة ومألوفة إجمالاً لدائرة جبل طويق، بما فيها المحافظات النجدية الأصلية الخمس، وهي تحديدا سدير والوشم والعارض واليمامة والافلاج، بل إن وادي الدواسر نفسه لم يكن مستثنى تماما.
كانت نجد بالتأكيد تعاني من فقر مدقع، وكانت مجزأة بصورة مدمرة، وكانت معزولة من العالم الموجود حولها، ويتم اجتياحها من قبل عصابات النهب من البدو تحكمها زعامات صغيرة قبل قرن مضى، لدرجة أن اي تغيير مهما كان شأنه سوف يكون من الصعب عليه أن يحدث أي تقدم أفضل بالنسبة للبلاد التي كانت آنذاك في الدرك الأسفل من كل جانب, وبالتالي فإن حكومة مركزية وقومية، قوية بما يكفي للحفاظ على الأمن والنظام في الموطن، وجذب الثروة والقوة من البلدان الخارجية الغنية، كانت تمثل بالنسبة لنجد مكسبا إيجابيا عظيما, ولك أن تتخيل على سبيل المثال، أن سويسرا، بأقاليمها وولاياتها الصخرية، قد أصبحت فجأة سيدة ومركزا حكوميا بالنسبة لإيطاليا من جهة الجنوب، والاتحاد الألماني بأكمله ومحافظات الراين من جهة الشمال، وكان هناك القليل من الاحتمال بأن تستفيد ألمانيا تحديدا، وكذلك إيطاليا، من مثل هذه النقلة، إلا أن المحافظات السويسرية سوف تصعد من حيث الثراء والأهمية، على اية حال، لبعض الوقت، وبالقدر نفسه فقد كانت مناطق الأحساء والقطيف والقصيم، وما شابهها هي الخاسر الحقيقي من إلحاقها القسري بنجد، وبعبارة دارجة (تدفع ثمن انغماسها في الملذات)، بينما كانت نجد نفسها مستفيدة من خسائرها وتعيش بترف على شحومها وتضخمها, ولكن دعنا نواصل رحلتنا (4) .
خلفنا وراءنا العديد من القرى والهجر الأقل أهمية، القريبة منها والبعيدة، إلى أن وصلنا، بعد ساعات قليلة من مسار جميل ورائع فوق التموجات السهلية، التي تصعد أحيانا وتهبط أحيانا أخرى عبر أجرافها الصخرية البيضاء، عند الغروب إلى مدينة حريملاء التي سنقضي بها ليلتنا.
وتشكل هذه المدينة، وهي مسقط رأس الشيخ محمد بن عبدالوهاب والرجل الذي أعطت دعوته تأثيرها على امتداد ما يقارب النصف من الجزيرة العربية، البوابة الشمالية الصغيرة أو المفتاح بالنسبة لموقع قلب نجد الحصين، التي تتم حراستها بالطريقة نفسها من قبل شقراء غربا، والخرمة أو الخرفة جنوبا، وممر وادي صليع الضيق شرقا، فيما يشكل أربعة مواقع تحتل المداخل الخاصة بالوادي الشهير الذي كان اسمه سابقا وادي مسيلمة، والذي يطلق عليه حاليا وادي حنيفة، والذي يقع وسط شبكة ممراته العميقة والمعقدة العاصمة التي تعتبر قلب نجد النابض.
تقع حريملاء تقريبا على الخط الفاصل بين العارض وسدير، إلا أنها تنتمي الى الأخيرة، وهي تغلق ذلك الطرف الشبيه بالمدخنة من الممر الضيق الذي كنا نسير عبره خلال نصف اليوم، وبما يكفي فقط من المساحة المكشوفة فيما حوله لهالة المزروعات العادية للمدينة النجدية، كانت التحصينات الخارجية، كما يبدو عليه الحال، منيعة بصورة لافتة، كما أن تعداد السكان يبلغ حوالي عشرة آلاف نسمة, إلا أن الذي أدهشني كثيرا في أول دخول لنا إلى هنا كان هو مشهد إحدى القلاع الضخمة، المشيدة على أرض مرتفعة داخل المدينة نفسها، والتي يبدو واضحا من خلال نمطها المعماري وجود درجة من الفن المعماري والدفاعي تعتبر غير عادية في تلك البلاد.
وقد زال استغرابي عندما علمت بأن هذه القلعة من صنع إبراهيم باشا، وقد تم تشييدها أثناء الاحتلال المصري لنجد الذي كان تاليا لسقوط الدرعية (5) , وبالرغم من أن إبراهيم باشا كان صغيرا آنذاك إلا أن ذهنه المتفتح كان قد تصور مسبقا ذلك النظام الذي غطى بعد سنوات لاحقة سوريا والشمال بآثار باقية من طاقته المذهلة، وبمهارته المتقنة في اختياره أينما ذهب بالنسبة لتصاميمه ومنشآته الإستراتيجية تلك النقاط الدقيقة والجديرة على الفور بضمان وتأمين الخضوع ومنع الاجتياح, وهناك آثار مماثلة للباشا العظيم ما زالت باقية، رغم تفككها، في حمص وبعلبك وأنطاكية ونبق وغيرها من الأماكن الأخرى التي لا حصر لها، تشهد هي الأخرى على براعة ومهارة المصري الذي قام بتشييدها، وعلى الإهمال الكامل وعلى حماقة ولامبالاة العثمانيين الذين تركوها للتصدع والتآكل (6) , كانت قلعة حريملاء هي أولى نقاط إبراهيم الحصينة التي شاهدتها في نجد، إلا أنني صادفت المزيد منها لاحقا, وقد نمى إلى علمي أن بعض أعماله المماثلة الأخرى مازالت موجودة في الوشم وأطراف القصيم إلا أن خط سيري لم يسمح لي بزيارتها.
كان بداح، وهو أحد مواطني المدينة وهو عقله وروحه لخدمة مصالح اسرة آل سعود وهو الحاكم هنا، كان رجلا كريم الأصل ولم يكن قاصراً في ذلك النوع من التعليم الذي كان غريبا على بلده وطائفته, وقد استقبلنا بلباقة شديدة وأدخلنا دون تأخير إلى مسكنه الواقع داخل القلعة, إلا أن المساء كان حارا، بل وخانقا تقريبا، وبعد دقائق قليلة من مراسم الاستقبال في القهوة وقع اختيارنا بالإجماع على الهواء الطلق, وتبعا لذلك تم فرش السجاجيد والوسائد على السطح الواسع المستوي الواقع فوق الطابق الثاني، حيث صعدنا إلى هناك من خلال منفذ من السلالم الحجرية، ذي إضاءة رديئة، وكان كفيلا على وجه التحديد بكسر رقاب أولئك الذين يجازفون بصعوده أثناء الليل, وعلى جانب آخر من السقف كان طابق ثالث لا يزال يبرز عاليا، وكان حاجز السقف الذي أسندنا عليه ظهورنا المجهدة يطل على السوق المركزية للمدينة.
كان مضيفنا تابعا وصديقا شخصيا لعبدالله بن فيصل وأنه، إذا أخذنا بكلامه، كان قد رافق الأمير فيما لا يقل عن ثلاثين حملة عسكرية, وقد عدد لنا الكثير من الحكايات المتعلقة ببسالة الوريث الشرعي للعرش، إلا أنني أبقي عليها لحين التطرق الى تاريخ عائلة آل سعود في فصل تالٍ,
ولد الشيخ محمد بن عبدالوهاب في حريملاء (7) قبل وقت ما من منتصف القرن الماضي, كانت أصوله السلفية، وهي الشيء الذي (تم التطرق إليه بصورة خفيفة، وأكثر إغفالاً، من قبل المؤرخين العرب، تعود إلى المصاليخ، إحدى العشائر القوية التي لا يزال فرعها البدوي يجوب المنطقة المجاورة للزبير وشمال الخليج الفارسي (8) , وكغيره من الكثير من النجديين فقد بدأ حياته كتاجر متجول، وكانت جولاته الأولى باتجاه البصرة وبغداد (9) , أما بالنسبة لما يقال عن زيارته أيضا لبلاد فارس والهند، بل وحتى إستانبول، طبقا لما رواه بعض الكتاب، فهو على الأقل يفتقر برمته إلى التأكيد من قبل المصادر المحلية التي تشكل مرجعي ودليلي الوحيد في هذ الصدد.
وأخيرا قادته التجارة إلى دمشق التي التقى فيها ببعض مشايخ تلك المدينة المطلعين والشديدي التدين، والذين كانوا حنابلة مثله، أو شافعية، إلا أنهم كانوا مثله معارضين سواء للتساهل وعدم التشدد السائد من قبل النقشبنديين في الشمال، أو بالنسبة للمعتقدات الخرافية الخاصة بالدراويش، الفقراء، الأولياء، وغيرهم من الآخرين الذين عملت الأفكار الفارسية أو التركية على إدخالهم في كك مكان تقريبا في الشرق (10) .
كان الشيخ عبدالوهاب قد تجاوز الثلاثين عاما من عمره، وكان في كامل قواه الجسدية والعقلية، وكانت قواه تلك تتجاوز كثيرا المعدل الطبيعي المتوسط، وقد أضاف إلى عناده الوافي والبسالة والجلد الذي يتميز به أبناء جلدته النجديين طاقة تجريدية وتفهيمية من النادر وجودها في أوساطهم, كانت نظراته فاحصة وأذنه مرهفة، كان سلفا قد شاهد الكثير وتأثر بعمق, إلا أن الدروس التي تلقاها من مشايخ دمشق قد ساعدته على أن يمزج بصورة نهائية، وأن يعمل على اختصار، تلك الأفكار العقائدية التي كان يختزنها منذ زمن طويل، فيما يبدو في حالة التحرر وعدم الانتظام، وقد تعلم الآن كيف يميز بوضوح بين العناصر الأساسية للإسلام والاضافات العارضة أو المعاصرة التي امتزجت بها، وأخيرا وجد نفسه حائزاً على وجهة النظر الأساسية ونقطة البدء التي انطلق منها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الأوائل في الحجاز قبل اثني عشر قرنا مضت.
لم يكن الإدراك الدقيق والمتميز للهدف والفكرة الأعمق بالنسبة للمؤسس الأول المعتقد أو مذهب معين قبل أكثر من ألف سنة مضت، وعبر كافة التطورات المعقدة من البدع والمعتقدات التي تراكمت فوقها من قبل الجماعات والمعلقين، من شتى العصور والأجناس، أمرا سهلا، كما لم تكن كل عين قادرة على إلقاء نظرة فاحصة، ولا كل عقل قادر على الخروج بالفهم والادراك الشامل, كان ذلك يتطلب طاقة ومقدرة تحليلية واستنتاجية غير عادية، بالاضافة الى ملكة بديهية لا يملكها إلا القليلون، تشكل الأساس بالنسبة لما يطلق عليه الرجال صفة العبقرية أو النبوغ في كل علم أو فن, ولم تكن قوة العزيمة، بل وحتى الجرأة نفسها، بأقل حاجة إليها عن قوة الفكر, وقد جمع محمد بن عبدالوهاب بين كل تلك القدرات بدرجة متفوقة, ويعود إليه الفضل، إن كان ثمة أمل في اكتشافه، وسط أنقاض الركام الإسلامي، لمرتكزه المهمل، والذي لا يزال صلبا، والخاص بالاقدام على صياغة مشروع ليحل محله، والقيام بواسطته، ومن خلاله بإعادة تشييد البنية المحطمة والمتهدمة.
كان ذلك المرتكز، أو الفكرة الأساسية، أو الفكرة السلفية، التي لم يكن كل ما عداها سوى استنتاج ضروري وحتمي، مضمنا في العبارة التي يجري ترديدها أكثر من فهمها: لاإله إلا الله، )There is no god but god وتلك هي ترجمة حرفية،إلا أنها أضيق بكثير من الصيغة العربية، وغير ملائمة أو كافية تماما لاستخلاص وتصوير قوتها الحقيقية في الفم أو العقل العربي.
هوامش:
(1) يبدو هذا الاسم غريبا ولم أجد ما هو قريب منها فيما نعرفه من البلدان في هذه المنطقة التي يتحدث عنها المؤلف, (المترجم).
(2) كتب المؤلف ثادق بطريقة غريبة في التهجي بالأحرف اللآتينية )sadik( وهي مخالفة لبعض القواعد التي اتبعها المؤلف نفسه في بعض المواقع من كتابه, (المترجم).
(3) هكذا كتب المؤلف اسم هذه المدينة وربما أنه يتكلم عن حوطة سدير, (المترجم).
(4) ليس الأمر بالصورة التي شرحها المؤلف من أن هناك رابحا وخاسرا، بل في ظل ما أمنته الدولة السعودية من وحدة وطنية وأمن واستقرار للمركز والأطراف انعكس على الكل، وما هذا إلا من أساليب دعاة الفتنة من خلال الهمز واللمز وإثارة الشكوك وما بلجريف بأولهم ولا بآخرهم.
(5) هذ الإشارة من المؤلف إلى تلك القلعة تستدعي من علماء الآثار والتاريخ في بلادنا معرفة ما تم بناؤه من قلاع وحصون من قبل المصريين أثناء حملتهم على نجد لقيمتها الآثارية والتاريخية والتأثير الحضاري من خلال طراز العمارة, (المترجم).
(6) من الواضح بأن المؤلف جانبه الصواب عندما حمل العثمانيين مسؤولية إهمال ما بناه المصريون من قلاع في منطقة نجد حيث لم يكن للعثمانيين أي وجود سياسي أو غيره في نجد، ولم تشهد نجد أي حكم أجنبي سوى فترة حملات محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا وابن أخته خورشيد باشا الذي انتهى بنهاية عام 1840م, (المترجم).
(7) ولد الشيخ محمد في بلدة العيينة عام 1115ه بإجماع كل المصادر ثم رحل مع والده الى حريملاء في عام 1139ه ثم ما لبث أن عاد إلى العيينة ثم بعدها الى الدرعية حيث وجد المناصرة والمؤازرة من حكامها آل سعود (المترجم).
(8) من الواضح أن المؤلف خلط بين نسب الشيخ محمد بن عبدالوهاب الذي ينتمي إلى قبيلة الوهبة من بني تميم وبين آل سعود الذين ينتمون الى فرع المصاليخ من قبيلة عنزة, 0المترجم).
(9) لم تذكر المصادر المحلية بأن الشيخ في أي فترة من حياته عمل في التجارة وإنما كانت أسفاره في طلب العلم والدعوة, (المترجم).
(10) أيضاً لم تذكر المصادر المحلية بأن الشيخ محمد بن عبدالوهاب وصل في أسفاره إلى دمشق مع وجود رغبته في الوصول إليها، ولكنه تتلمذ على كتب علمائها من الحنابلة خاصة, (المترجم).
أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved