أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 16th December,2000العدد:10306الطبعةالاولـيالسبت 20 ,رمضان 1421

الثقافية

نجم أفل من سماء جامعة الإمام,.
إبراهيم عبدالرحمن المطوع الدعجاني *
لستُ من هواة الكتابة للصحافة اليومية، لانني لست بصاحب قلم سيّال، ولست من الراغبين في الكتابة عن الأحداث والوقائع اليومية ومتابعتها وتحليلها، لأنني أرى أنه يجب أن نترك الأحداث تتكلم عن نفسها بحرية وتجرد، وقد وجدتُني راغباً في الكتابة عصر يوم الاثنين الموافق 9/8/1421ه عندما عدتُ الى منزلي، بعد توديع الزميل والصديق: د, عبدالله بن عبدالعزيز الحميدي الأستاذ المساعد في قسم الجغرافيا بفرع جامعة الإمام بالقصيم الى جوار ربه، فقد فقدت الأوساط الجامعية السعودية في ذلك اليوم أحد طاقاتها وكوادرها المؤهلة، الذي طالما أثرى الوسط الأكاديمي والعلمي في المملكة ببحوثه ومشاركاته وأطروحاته، ولن أنحو بهذه الكلمات منحى بكائياً نُواحياً وما يجدي البكاء ولا العويل وان كان الرجل يستحق اكثر من ذلك، وهو ما انطبع على وجوه مشيعيه، لكنني مبتهج بما قدّم وبمن قَدِم عليه، فقد مضى الى رب رحيم، وقدم الى ماقدّمت يداه من أعمال الخير والبر، فقد تعرفت عليه عندما انتقل من كلية العلوم الاجتماعية بالرياض إلى فرع الجامعة بالقصيم قبل حوالي 12 عاماً، فعرفت فيه رجلاً مستقيماً محافظاً على فروض دينه، باراً بوالديه، واصلاً لرحمه طاهر السريرة، نقي النفس، عطوفاً على المستضعفين والمحتاجين، متعاطفاً مع كل مظلوم، محبوباً من كل من عرفه من زملائه وطلابه، ليس له أعداء زاهداً في الدنيا ومظاهرها، لايحب الأضواء والظهور مع إمكانه الحصول عليها لو أراد، وقد ظفر بها من هو أقل منه علماً وفكراً، قليل الاهتمام بمظهره وهندامه ومظهر سيارته، قليل الاهتمام بصحته العامة على الرغم مما يعانيه فيما يبدو من اعتلالها، وكأنه على علم بأنه سيرحل عن دنيانا مبكراً رجل اخلص نفسه للعلم والبحث، فلم يشغل نفسه بتجارة أو أعمال جانبية، ولم يضيع وقته فيما لايفيد، مستثمر للوقت، فلا تراه إلا مكباً على بحوث سيقدمها لندوة أو مؤتمر، فكلما قابلتُه يخبرني بأنه شارك أو سيشارك في مؤتمر أو ندوة أو حلقة نقاش، وكان آخر مشاركاته رحمه الله في ندوة الرحلات الى الجزيرة العربية في دارة الملك عبدالعزيز، في شهر رجب الماضي، فكنتُ أغبطه على هذه القدرات والطاقات، وأقول هل يسعفه وقته، ويعينه جسده على كل هذا، وإما ان تراه مكباً على اوراق طلابه وبحوثهم، فهو رجل متشعب الاهتمامات.
وإنني على علم لو انه كان حياً لما رضي ان يقال فيه ذلك، لكنه اصبح من المتعين عليّ بعد وفاته ان ابوح بما أعرف عنه من مواقف من باب اذكروا محاسن موتاكم ولأنه كان ينكر ذاته، ولم يمنح نفسه ما تستحق، وسأذكر بعض المواقف التي اطلعت عليها بحكم الزمالة والصداقة:
في التدريس:
عرفته مخلصاً في تدريسه، هاوياً ومحباً لعمله، وطريقته فيه محبّبة وجذابة وغير تقليدية، فهو يرى اننا جئنا معاشر الاساتذة لتدريس الطلاب وتعليمهم واكسابهم المهارات، ولم نأت لنحفظ الطالب قواعد وقوالب جامدة، ثم نختبرهم فيها، فالاختبار ماهو إلا جزء يسير من العملية التعليمية، في حين اعتبره بعض الاساتذة وأوحوا الى طلابهم بأنه هو كل شيء، وهو يرى ان نجاح الأستاذ هو في مقدار نجاحه في إكساب طلبته المهارات الضرورية للتطبيق، وكان ينادي دائماً في القسم وفي الكلية كلما سنحت الفرصة له بأن نقضي على الطرق التقليدية في التدريس وفي البحوث بحيث تكون من البيئة ومسخرة لخدمة الواقع، وبالفعل فقد كان يكلف طلابه ببحوث صفية ميدانية تخدم المنطقة، ومن أشهرها: تأثير شجر البرسوبس على مرضى الحساسية في منطقة القصيم ، وتوصل مع طلبته من خلاله الى نتائج مبهرة، كانت حديث الأوساط العلمية، وكان آخر ما أثير حولها مانشر في مجلة اليمامة في العدد 1617 حتى العدد 1620، في صيف هذا العام، ويرى وجوب التجديد في المناهج وكان عضواً في لجنة فحص المناهج بالكلية فالجامعة هي المحضن الفعلي لتلمس حاجات المجتمع الصحية والاجتماعية والنفسية والإدارية ووضع الحلول واقتراح العلاجات، وهو يرى ان على الاستاذ الا يقيس اداءه ومستواه بعدد الكلمات التي قالها في أثناء المحاضرة، أو بعدد الدقائق التي امضاها في القاعة، بل ينبغي ان يقيس ذلك بكمية ونوعية المهارات التي اكتسبها الطالب منه، والا يقيس جديته وعطاءه وانضباطه بعدد الطلاب الذين يرسبون في مادته بسبب اسئلته التعجيزية، فعند ارتفاع نسبة الرسوب ينبغي ان يوجه الاستاذ الكرة اولاً الى ملعبه، وان يبحث عن سبب ذلك في نفسه، والا يلقي باللوم على الطلاب وينعتهم بعدم الفهم والضعف والغباء، لتبرئة نفسه، فإلقاء اللوم على الآخرين اسهل من التصحيح وترك ما اعتاد عليه الإنسان وألفه، لأن لكل جيل من الطلبة ما يناسبه، فالاستاذ الذي يدرّس على مدى اكثر من عشرين سنة من المهم ان يدرك أن ما كان يصلح للطلاب من المعلومات والأساليب والأفكار قبل عشرين سنة لا يناسب طلاب هذا العصر، فينبغي ان يجدد في طريقته واسلوبه وادائه، ففي الطلاب طاقات مكبوتة ولاينقصهم الوعي والإدراك وسرعة الاستيعاب، بل هم في رأيه رحمه الله محتاجون اولا الى الحب والعطف والتضحية والإخلاص لهم، والتنويع والتجديد في عرض المعلومات.
ومن إخلاصه رحمه الله ان يبذل اسبوعياً مالايقل عن 300 ريال، مقابل تصوير اوراق يوزعها على طلابه في كل محاضرة، والذين يتجاوز عددهم في بعض القاعات 100 طالب، حتى إنني سمعت منه ان طلابه اشفقوا عليه فطلبوا منه ان يتولوا عملية التصوير، فأبى عليهم بشدة، وقال لهم: إذا أردتم أن تخدموني فاخدموني بتحصيلكم ونجاحكم وتفوقكم، فكان يصورها خارج الكلية على حسابه الخاص، ولايستخدم آلات الكلية المتوافرة,, وكثيراً ما قلت له ويقول له غيري: لماذا لاتريح نفسك قليلاً وتخفف عنها من هذا العناء؟ فيمضي على مبدئه ومنهجه، وعلى الرغم من اننا نقول له ذلك فإننا نغبطه في دواخلنا على تلك الطاقة، ونتمنى ان نكون مثله ، لكن الكسل يأخذ منا مأخذاً.
ويستقبل طلابه في مكتبه وفي منزله، ويسعى الى خدمتهم، وإذا رأيته يتعامل مع أحد الطلبة رأيته مطأطئ الرأس، متواضعاً، فمن لايعرفه لا يستطيع ان يفرق بين الطالب والأستاذ، وكأنما يتكلم مع احد ابنائه، في تودده وعدم تعنيفه، فيبصّر الطالب المحتاج ويساعده ويتعاطف مع مطالبه وقضيته ويهتم بها حتى يوصلها الى القسم أو إلى عمادة الكلية، ويظل يسأل الطالب عنها حتى نهايتها.
مع زملائه:
كان رحمه الله ناصحاً لزملائه من الأساتذة الوطنيين والمتعاقدين، ومن المحاضرين والمعيدين، محباً ومحبوباً لدى الجميع، فكثير ما استفاد زملاؤه وأنا منهم من منهجه في التدريس، وفي صياغة الأسئلة، وفي قراءة مسودات بحوثهم ورسائلهم وتصويبها، فقد أعطيته رحمه الله قسماً من رسالتي في الماجستير فقرأها وأعطاني ملاحظاته على اسلوبها وصياغتها وإخراجها، وأسدى اليّ نصائح وتوجيهات مازلت استفيد منها الى الآن، واستفدت منه في صياغة اسئلة الاختبارات من حيث دقة عباراتها، ووضوح السؤال للطالب، ومناسبته لعقله وتفكيره، وبعده عن التعجيز، واختباره لفهم الطالب وتفكيره وليس اختبار حافظته.
وكثيراً ما كانت مشاريعه وأطروحاته العلمية والتربوية تثير الجدل وتقابل بالرفض في أول الأمر، لكنها ماتلبث ان تكون مقنعة، ويحرص الجميع على طلبها والبحث عنها وتطبيقها.
ومن نصحه لزملائه: أنه كان من طبيعته انه لا يتحمل السكوت على الخطأ، ويقدم النصح والتوجيه بطريقة لطيفة لاتجرح المنصوح ولا تحرجه، فحين كان يراقب في الاختبارات على الطلبة، ويجد في أثناء ذلك اسئلة أحد زملائه الأساتذة مكتوبة بأسلوب يشوبه الغموض، او تشتمل على أخطاء لغوية أو إملائية أو اسلوبية يقوم بكتابة الملحوظات عليها ويوقعها باسمه، ثم يدسها في ورقة اجابة احد الطلاب لتصل الى زميله الاستاذ عند استلامها للتصحيح.
ومن الطبيعي أن يجد بعد ذلك من زملائه من يبحث عنه ليشكره على ملاحظاته، ويثمّن نصحه وإخلاصه، ويدعو له، ويجد في الوقت نفسه من يقوم بعكس ذلك, فلا يقابله بما يستحق، على الرغم من استفادته من جهوده استفادة مباشرة، فقد طرق علي ذات مرة باب منزلي متألماً ومنزعجاً، ،حين جلس عندي سألته عن سبب انزعاجه فقال: إن أحد زملائه في مرحلة الماجستير طلب منه رسالته بعد المناقشة، وكانت عن جغرافية مدينة القطيف ليستفيد منها ذلك الزميل في رسالته عن جغرافية إحدى مدن المملكة، فسلمها له، واثقاً ومختاراً، وأعادها اليه بعد ان ناقش ذلك الزميل رسالته وحصل على درجة الماجستير، ثم طبعها في كتاب عند مكتبة الرشد إحدى دور النشر المعروفة، ولم يكلف ذلك الزميل نفسه بإهداء نسخة منها اليه رحمه الله، وكأنه متوجس من اكتشاف امره، ولكنه رحمه الله اشتراها من المكتبة، وعند قراءته للكتاب ثارت آلامه واحزانه، حيث وجد ان ذلك الزميل قد اقتبس ولا احب ان اقول سطا من رسالة الدكتور عبدالله مقاطع كبيرة منها، واستفاد من منهجه في الإحصاء وتحليل البيانات، ونقل منه احياناً نقلاً غير واع، دون ان يشير الى ذلك لا في الهوامش ولا في قائمة المصادر، وفي عملية سطو علمي مكشوف وأعد رحمه الله تقريراً مفصلاً بذلك من حوالي 30 صفحة، وقد هيأه لرفعه الى مدير الجامعة آنذاك الدكتور عبدالله التركي ليتخذ الإجراء المناسب الذي قد يصل الى سحب الدرجة من ذلك الزميل وطي قيده من الدراسات العليا، فخرج من عندي عازماً على ذلك، وكلما سألته عن هذا الموضوع، لايجيبني وأجد آثار الألم والحيرة على وجهه، ويبدو انه رحمه الله فضل تجميد الموضوع رأفة بزميله وإشفاقاً عليه من تأثر سمعته، أو انتظاراً منه ان يعترف بخطئه.
مشاركاته خارج المملكة:
اشترك في عدد من المؤتمرات والندوات واللجان، وليس عندي إحصاء دقيق عنها، ولكنني سأذكر ما أعرف منها:
عضو في لجنة إعداد مناهج الجغرافيا في المعاهد العلمية.
يشارك بصفة دورية كل عامين في الندوة الجغرافية لأقسام الجغرافيا بجامعات المملكة، ففي عام 1412ه شارك في جامعة ام القرى ببحثين، الأول عنوانه: الدقة العلمية في الكتاب الجغرافي المقرر في المرحلة المتوسطة والثانوية، والثاني عنوانه: أثر مستوى كتابة العربية على دقة المعلومات والمفاهيم الجغرافية في كتب الجغرافيا في المرحلة المتوسطة والثانوية وفي عام 1414ه شارك في جامعة الملك سعود ببحث عنوانه: صيغة مقترحة لقياس موحد للتصنيف الفئوي الكمي للبيانات الإحصائية المستخدمة في التطبيقات الجغرافية.
شارك ببحث في المؤتمر الدولي عن التنمية وتأثيرها في البيئة عام 1418ه في وزارة الشؤون البلدية والقروية.
شارك ببحث في المؤتمر الوطني الثاني عن الصحة والبيئة عام 1419ه، في مستشفى الملك فهد بجدة، وحصل على شهادة تقدير من جمعية البيئة السعودية.
شارك ببحث في ندوة الرحلات الى الجزيرة العربية في رجب عام 1421ه، في دارة الملك عبدالعزيز بالرياض.
رجاء إلى مدير جامعة الإمام:
خدم المرحوم د, عبدالله الحميدي الجامعة منذ تعيينه معيداً قبل أكثر من 20 عاماً، في التدريس، وفيما يسند اليه من أعمال ولجان داخلية، وشارك باسم الجامعة، ومثلها في عدد من المؤتمرات والندوات، وأحياناً يكون هو المشارك الوحيد على مستوى الجامعة، وتجد بحوثه وأطروحاته الصدى والانطباع الجيد من المنظمين، لذا أرجو من معالي مدير الجامعة تكريم وتخليد اسم هذا الاستاذ الذي توفي على رأس العمل، وقد تعلمنا من معاليكم مكافأة العاملين والمتميزين، وأرى ان يكرم بطباعة رسالته في الدكتوراه في مطابع الجامعة، وهي بعنوان الجغرافية الطبيعة لمنطقة الرياض وهي موجودة لدى قسم الدراسات العليا بكلية العلوم الاجتماعية، خاصة في ظل احتفال المملكة باختيار الرياض عاصمة للثقافة العربية عام 2000م.
واخيراً، اعلم ان زملاءه ومعارفه اكثر التصاقاً به، ولديهم الكثير عنه وعن سيرته ومواقفه، والتي ارجو ان يبوحوا بها، ويتعاونوا في تخليد اسمه بطباعة بحوثه، وإتمام مشاريعه العلمية التي بدأها ونشرها.
وقد يقال إن ما ذكرته آنفاً مواقف بالغة الخصوصية، ولاتعني احداً غيركما، فهل من فائدة في ذكرها؟ فأقول: إنني انقل بأمانة وصراحة وجهة نظر استاذ جامعي ورؤيته في بعض قضايا التعليم الجامعي، بعد ان مضى الى ربه ولم يعد باستطاعته ان يعلنها لأنها لم تسجل ولم تعلن في حياته، وهي آراء إن اختلفنا معه في بعض جوانبها، فإنها في جوانب اخرى جديرة بالاهتمام والعناية، وأضع امام القراء صورة استاذ جامعي مغمور، اتمنى شخصياً ان ابلغ مستواه العلمي والخُلُقي، وأعتقد في نظري أنها الصورة المثلى لأستاذ الجامعة.
أسأل الله العلي القدير أن يتغمده برحمته ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهم والدته وأخاه واخوته، وزوجته الصبر والسلوان، وأن يبارك في ابنه الوحيد عبدالعزيز وأن يجعله خير خلف لخير سلف.
* محاضر في قسم اللغة العربية فرع جامعة الإمام بالقصيم

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved