أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 22nd December,2000العدد:10312الطبعةالاولـيالجمعة 26 ,رمضان 1421

شرفات

شخصيات قلقة
ليوناردو دافنشي 1452 - 1519
مأساة صاحب الجيوكندا المبتسمة
عاش ليوناردو دافنشي سنواته الاولى بين المطرقة والسندان,, بين اب لا يريد ان يعترف به ابناً، وام تركته وتزوجت رجلاً آخر.
فتعلم من الحياة أبجدية القسوة قبل ان يرضع منها الدفء والحنان, حتى تعاطف زوجة ابيه وجده انطونيو سرعان ما تبخر بوفاتهما، وهو لا يزال بعد صبيا.
مرة اخرى يجد نفسه وحيداً امام أبجدية القسوة,, منطوياً لا تتصل اسبابه بجذور امه الشعبية ولا بجذور ابيه سليل العائلة المرموقة,يضطهده اخوته غير الاشقاء ويلفقون التهم ضده لانه اقوى بنيانا واحسن صورة.
لكن بنيانه العملاق لا يفيد مع خجله ورقته الانثوية، فيرسله الاب الى مرسم المعلم فيروكيو بعيداً عن الإيذاء يعيش مع الرسم او مع بعض الشباب الموسرين المتحررين في افكارهم وكانت فلورنسا آنذاك مدينة الشذوذ والمجون والشائعات.
ويجد ليوناردو اسمه بالكامل في لوحة العار، في الصحيفة المعلقة على حائط القصر، متهما في فضيحة مع اسماء اخرى!!
ألا يمكن ان يكون متهما وضحية؟! يولد الحزن حين تفتقد حنان الأسرة ويكون العار حين تطاردك مدينتك الصغيرة حين تتهمك في شرفك,, كأن الشوارع والنوافذ والوجوه تأمرك ان ترحل عن وجه مدينتك,, ان تنسى طفولتك الحزينة.
الى ميلانو يرحل ليوناردو بارادة جديدة ويرسل الى حاكمها يعرض خدماته: وفي اوقات السلم اعتقد بأني قادر على ان اعطيك ما يرضيك وما يبعث في نفسك البهجة بتصميم اجمل المباني آنذاك كان ليوناردو قد اصبح رساماً معروفا وفنانا متعدد المواهب فهو مهندس ومصور ونحات وباحث وفيلسوف واسع الاطلاع درس تشريح الاجسام والفضاء ورسم اول تصميم لطائرة عمودية هليوكبتر وتأمل تجاويف الجبال والشعاب الخشنة كما زار بعض البلدان الاسلامية عام 1487م ليشاهد عن كثب ازدهار الحضارة الاسلامية، وقيل انه اعتنق الاسلام وكتب باللغة العربية، ومن المؤكد انه قرأ لابن سينا.
هذا التنوع والثراء والدأب من اجل اكتشاف قواعد واسرار الطبيعة كي تحكم العمل الفني انه يتعقب مصادر التعبير في الطبيعة كي يكتشفها، وكي يتعلم منها ايضاً، فلا عجب ان يكتب ابحاثا في تشريح الاجسام او يفكر في اختراع آلة ما او يستمد قواعد الرسم من مشاهدته لحركة الصم والبكم.
كأنه يبحث بعينيه الناريتين عن جوهر ما يظل يتأمل عمله الفني ببطء ومتعة سنوات وسنوات، يخرج للعمل منذ بزوغ الفجر الى غروب الشمس دون ان يتناول شيئا من الطعام, في بعض الاحيان يحضر ثلاثة او اربعة ايام متوالية فيمضى بعض الوقت امام عمله ثم ينصرف دون ان يضع لمسة
واحدة يكتفي بالجلوس امام اللوحة متأملاً ما انجزه في الساق وربما يذهب ثم يعود فجأة حين تعن له فكرة جديدة.
في نوبة الحماس يعمل ولا يبالي بحرارة الشمس وحين يفتر الحماس ينتقل من عمل الى آخر دون ان يتم ما بدأ كأنه يبحث عن اكتمال لا يتحقق او عن جديد لم يصل اليه غيره حيرة دائمة واخلاص تام لساعة الإلهام الداخلية تحركه كيفما تشاء فلوحة الجيوكندا مثلا استغرق في رسمها اربع سنوات 1500 1504 ، وهي صورة لفتاة في السادسة عشرة من عمرها، كانت الزوجة الثالثة لضابط في الخامسة والثلاثين يُدعى: فرانشسكو زانوبي جيوكوندو وفي نفس الوقت كانت عشيقة لقائد الجيش، والجيوكندا تأنيث للقب زوجها, هذه اللوحة التي تعد اروع صورة شخصية رسمها فنان اشتراها ملك فرنسا بالإكراه بعد ان دفع اثني عشر الف فرنك ذهباً، ومن هنا آلت ملكيتها الى متحف اللوفر!
عاش دافنشى في ميلانو سبعة عشر عاما وحيداً في مرسمه بلا اهل وبلا زوجة، ليس حوله سوى بعض التلاميذ, في سنواته الاولى بميلانو شاهد وباء الطاعون يحصد الارواح في المدينة الفقر والمرض والحزن يجلل المدينة، وثمة طابع سوداوي ومزاج كئيب في كل ما يكتبه دافنشى, وحين تنتابه موجة تفاؤل يتخيل مدينة فاضلة، يرسم مبانيها ويكتب عن شخوصها، ويعيش في خياله ما لم يعشه على ارض الواقع.
قسوة الوباء في ميلانو تشبه قسوة الفضيحة في فلورنسا وثمة ندوب في الروح تنعكس في علاقته بالآخرين وفي علاقته بالمال ايضاً, فعندما ماتت العجوز التي تخدمه في ميلانو اصر ان يقيم لها جنازة فخمة وبعد ان ودعها الوداع اللائق جلس كعادته يسجل كل مصاريف الجنازة!! ورغم انه كان يرعى الكثير من تلاميذه نراه يكتب في اوراقه:
لا تقرض احداً مرتين
واذا أقرضت مرتين فلن تملك شيئا
ولن يرد الدّين سريعا
واذا رد سريعا فبدون فائدة
واذا حصلت فائدة تفقد الصديق
أليس رجلاً غريب الاطوار؟! ينفق ببذخ على امرأة تخدمه وعلى تلاميذه ثم يدخل صراعا قضائيا مع اخوته حول إرث بسيط لأحد الأعمام!! كيف يبلغ حد التطرف اسرافا وبخلا؟ ومن اغرب المواقف انه كان يسير الى الحوانيت التي تبيع طيور الزينة فيشترى بكل النقود التي معه طيوراً ويطلقها من حبسة القفص!
وفي نهاية القرن الخامس عشر تسقط ميلانو في يد ملوك فرنسا، ويا للمفارقة,, كان دافنشى آنذاك يتم لوحته الشهيرة العشاء الأخير ,تلك اللوحة/ المأساة, فما ان انتهى منها حتى اختارها ملك فرنسا كي تنقل الى بلاده، ولأنها لوحة جدارية ضخمة فشل الجنود في نقلها، فما كان منهم إلا ان جعلوا شخوص اللوحة هدفا لسهامهم وبعد حين من الدهر أتى أحد القساوسة ليفتح في بطن اللوحة بابا داخلياً!! وتكتمل مأساة اللوحة حين تصيبها قنابل العدوان في الحرب العالمية الثانية,اما صاحب اللوحة فاضطر بعد الغزو الى ترك ميلانو والعودة مرة اخرى الى فلورنسا فقيراً معدما ليشق طريقه من جديد كمهندس في البلاط لمدة ست سنوات 1500 1506 ,, وكانت لوحة يوحنا المعمدان اكمل لوحاته قبل ان يعجز الفالج يده اليمنى، ليعيش في شيخوخته يعاني الوحدة والمرض وانتظار النهاية، بعد ان ترك لنا بسمة الجيوكندا تطالعنا في كل وقت.
شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved