أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 18th January,2001 العدد:10339الطبعةالاولـي الخميس 23 ,شوال 1421

الثقافية

الشعر في خدمة الإنسانية
نهار جديد
عبدالله سعد اللحيدان
الانسان العربي الجديد، الذي يمتلك حرية فكرية ووعياً، لم يعد لديه وقت يضيعه في ما لا يعود عليه بالفائدة: مادياً ومعنوياً، روحياً وجسدياً، اذ لم يصل بعد الى مرحلة الاكتفاء من حاجاته الاولية في بدايات سلم الحاجات الانسانية الست البيولوجية، والحاجة للأمن، ثم الحاجة للحب، ثم الحاجة للانتماء، ثم الحاجة للتقدير، ثم الحاجات الجمالية ، لكي ينفق وقته الثمين في الاستمتاع بوسائل التنويم والتخدير الحسية والمعنوية، بعد ان بدأ يعرف ايضاً اعداءه جيداً مهما حاولوا خداعه والكذب عليه ومهما تنوعت أساليبهم ووسائلهم وتبدلت ميادينهم.
والشاعر العربي الجديد انسان جديد، يدرك ما يريد وما يطمح اليه والوسائل والاساليب الثقافية والفنية والاعلامية التي تساعده على اداء دوره الانساني، ويؤمن ان السعي الى سرقة او اضاعة وقت من لا يملكون وقتاً لإضاعته وتبديده هو خيانة لأخيه الانسان كما هو خيانة لرسالة الكلمة التي يحملها.
ولشعوره العظيم بمسؤوليته الانسانية، ابتعد عن تهويمات الرومانسيين القدامى ومبالغتهم في الهروب من واقع المواجهة الى الخيال والعزلة والتأملات والطبيعة، كما ابتعد عن جمود الكلاسيكيين واكتفائهم بالوصف والتسجيل وعرض الصور الظاهرية بأوصافها الخارجية الخالية من الفعل والحركة والجدل واثارة الاسئلة ومقاربة كل ما يزخر به وجود الانسان الجديد من صراعات؛ واعتمد الشاعر الجديد في سبيل ايصال رسالته الانسانية بأقصر الطرق واسرعها وأشدها فاعلية على التركيز والتكثيف والتقطير في تجربته وعناصره الشعرية عبر اشارات لاسعة وسريعة وخاطفة وموحية، ولم يعتمد الشاعر الجديد على نقل المظاهر الخادعة كما هي او استخدام التعابير والاستعمالات الحسية الجامدة، معيداً بناء علاقات جديدة بينه وبين الوجود، معتمداً على معرفته العميقة الواعية بهذا الوجود وبذاته، عبر لحظات ولقطات تختزل كمّاً هائلاً من الخبرات والرؤى والتجارب والمواقف والابعاد التصويرية والدلالية والانفعالية والايحائية، وفي محاولة للوصول الى ما لا يمكن الوصول إليه الا عبر هذه الشعرية الجديدة.
ولم تعد العلاقة بين الانسان والشاعر الجديدين من جهة، وبينهما وبين وجودهما من جهة اخرى، مجرد علاقة شعورية واضحة فقط او سطحية تكتفي برصد الظواهر، بل اصبحت اكثر عمقاً واتساعاً واتخذت منحى جدلياً لا يعتمد فقط على ما يحدث امامهما وفي واقعهما المباشر القريب وامام الحواس في ابسط صورها ووظائفها وعملياتها الحيوية،بل اعتمدت على علاقات اكثر تشعباً بينهما وبين كل ما يشكل وجودهما وما يحيط بذواتهما من اشياء، مما جعل العلاقة بينهما تقوم على عمليات استبدالية تناوبية تتراسل فيها المشاعر واللا شعور والحواس والاحلام؛ عندما اتجه الشاعر الجديد الى ما يُكسب رسالته التي يجادل بها ذاته ووجوده وقارئه وشبيهه طاقات رمزية ايحائية جديدة لا تناقض فيها ولا غموض او إبهام او اساليب عقلية منظمة تعتمد على الاسباب والبرهنة والنتائج والتسلسل المنطقي ولا سطحية او مباشرة او شعارية طنانة، في الآن نفسه؛ ومحاولاً عبر الكلمة تحرير العلاقات من علاقاتها ودلالاتها السابقة وشحنها بطاقات تكتسبها من بكارتها كما تكتسبها من بكارة طريقتها في الاتحاد بأخواتها ومن بكارة وصفاء ونقاء العالم الداخلي الفطري الذي تنتمي اليه، والذي يكتشف الشاعر الجديد فيه ومع كل نص جديد منطقة لم تكتشف من قبل، مازجاً بينها وبين ما تم اكتشفاه من قبل، ليخرج بمزيج تنتمي اليهما بعض مكوناته وعناصره ولا يمثل احدهما فقط، وذلك لإبداع أبعاد جديدة ينتج عنها هي الاخرى اكتشاف مناطق جديدة في صحراء الكلمة البكر، وفي سلسلة لا نهائية من التنقيب والاكتشاف والابداع، وفي ربط واع ومثقف وحر وجديد بين ما تم اكتشافه في هذه الصحراء وبين الانسان الجديد وحيرته وضياعه الجديد في غاباته المدينية الجديدة.
وهكذا تحوّل الشعر العربي الجديد، من مجرد وصف تسجيلي او تهويمات خيالية هروبية الى فعل حركة ومواجهة يتم فيهما جمع طاقات الكلمة، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، للخروج برموز وايحاءات ودلالات جديدة تجادل الانسان الجديد وتساعده في صياغة رؤاه ومواقفه وعلاقاته بوجوده وطريقته في الحياة والتفكير والحلم واسترداد الحقوق، فيما الكلمة تغيره وتثيره وتوحي اليه وتحركه وهي تكتشف به وله الأبعاد، من خلال التجربة الشعرية التي تتعامل معه تعاملاً شعرياً انسانياً، حين تحمّل رموزها الجديدة دلالات جديدة ومعانيها معان متعددة ولا منطقها منطقاً فنياً والارصدة الشعورية واللاشعورية اضافات جديدة ومختلفة، وتشحن ذلك كله بكل ما يمكن للرسالة ان تحمله من انفعالات انسانية مشتركة، ودون ان تظهر فيها الفوضى او التضارب فنياً وفي منطق التجربة على الرغم من تمظهرها بالفوضى واللامنطق وعلى الرغم من حاجة كثير مما يرد فيها الى اكثر من تفسير، بسبب ابتعادها عن العلاقات السطحية المباشرة للواقع المعاين والمحسوس، وفي جدلية تجربة تظهر فيها الاشياء والعناصر وكأنها اشياء وعناصر جديدة بعلاقات جديدة وضمن بناء وتجاور غير مألوف ولا يبرره سوى منطق الشعرية وحركية التجربة ونموها وتكاملها والوحدة النهائية للعمل الابداعي، وعلى الرغم من التنوع اللانهائي للدلالات، وحين نرى الى هذا العمل وهو يتشكل بعناصره من كافة مستويات اللغة وما ينتج عن هذه المستويات من مستويات كلامية وارتباطات ومعان ودلالات ومن كل ما يدخل في تكوين الشاعر الثقافي من تراث وواقع وخرافة واسطورة وحقيقة وحكاية ورمز وأقنعة وفكر وتقنيات تتراسل مع فنون وانواع ادبية وإبداعية اخرى وخبرات ثقافية وفنية وانسانية ومعرفية، ولكن دون أن يكون احدها هو البطل في العمل الابداعي او هو الهدف منه ودون الاعتماد على أيّ منها فقط او ايرادها عمداً لشعرنة النص كما كان يفعل بعض رواد الشعر العربي الحديث في بداياتهم او بعض مقلديهم.
وهكذا استطاع الشعر العربي الجديد، ونتيجة لوعيه بالتجارب العربية الابداعية والانسانية الطويلة، منذ عصور ما قبل الإسلام وحتى الآن، ان يقترب من الانسان ويجادله بالاصوات الانسانية المشتركة بينهما، وبخاصة الداخلية منها، ويحاوره، ويدعوه ويذهب اليه، ويأخذه ويذهب معه؛ لمقاربة وجودهما وما يحيط بهما من احداث وصراعات وعناصر، ودون أن تكون وسيلته الى ذلك إهمال الخيال او الاستسلام اللا واعي لغموضه وبشكل مبالغ فيه قد يقود الى الابهام، ودون الحرص العقلي على الوضوح والحقيقة والنظام والدقة وبشكل يحيل الكلام الشعري الى كلام علمي او خطب ووصايا وتعليمات وشرح واقناع، على الرغم من التمسك فنياً بالوضوح والنظام والدقة وضمن فنية العمل الابداعي التي لا تهرب من المواجهة الى التعقيد والابهام والمداورة والالتفاف على القارئ ذوقاً جمالياً وثقافة ووعياً وانسانية، ودون هبوط بالعمل الفني من عليائه الابداعية الى السطحية او الفجاجة المباشرة، وفي تعادلية شعرية فنية جمالية انسانية لا تغلّب العقل ومنطقه على العاطفة والخيال ولا تغلّب الحلم وشطحاته اللا واعية على الوعي والواقع ولا تغلّب ما ينشأ عن تلقي العمل الابداعي من نشوة واستمتاع وطرب على المعنى والاهداف؛ فيما هو لا يكتفي بالبحث عن الظواهر والمحسوسات والمعاني المجردة بل عن كل ما يمكن ان يكمن وراءها، ودون مبالغة او تقصير، مما حقق للشاعر الجديد تقدماً ملحوظاً نستطيع ان نرى فيه وعياً جديداً لماهية الشعر ومفهومه الجمالي الانساني، ووظيفته واهدافه ووسائله واساليبه وتطويره وعلاقته بالانسان، شاعراً ومتلقيا، بحيث استطاع ان ينتقل من مرحلة الى مرحلة، منطلقاً، وفي سعي جاد، الى تحقيق شعريته الجديدة والمعاصرة مستمداً مكوناته من شعريته وليس من عناصر خارجية مستعارة فيما هو يكتشف كل يوم عالماً جديداً يقوم على الحرية الابداعية والانسانية المطلقة.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved