أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 19th January,2001 العدد:10340الطبعةالاولـي الجمعة 24 ,شوال 1421

مقـالات

من أعلام علماء القصيم
الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (الحلقة السادسة والأخيرة )
د, عبدالله بن محمد بن رميان الرميان
أختم في هذا المقال حديثي عن هذا العلم بعرض موقفه رحمه الله من العلوم الحديثة وتفريقه بين العلوم النافعة وبين الحضارة المادية الزائفة وأظن أن هذا الحديث من أهم ما تحدثت به عن الشيخ رحمه الله لأن موقفه من هذه العلوم موقف العالم الواعي البصير الفقيه بدين الله تعالى الذي لا ينكر ما لا يعهده بمجرد غرابته أو جدته إنما يطبق القواعد الشرعية على المستجدات العصرية فما وافقها أخذه وما عارضها رفضه دون التأثر بإنكار الناس أو ضغط المجتمع وسيكون حديثي من خلال هذه النقاط:
أولاً: جهوده في الربط بين العلوم الحديثة النافعة وعلوم الدين:
لقد عاش الشيخ رحمه الله في بداية عصر النهضة الصناعية الكبرى والتطور المادي الباهر بحيث أصبحت المخترعات العصرية تسابق الزمن وشاهد الناس أمورا لم يعتادوا عليها ولم يعرفوها فتأثروا بهذا ووقفوا من هذه العلوم موقفين متباينين:
قسم افتتن بها فأثر ذلك على موقفهم من علم الشريعة فجعلوا هذه العلوم هي الأصل وحاولوا أن يقربوا علوم الشريعة إليها ويستدلوا بها عليها فهؤلاء انحرفوا عن النهج الصحيح وهو أن علوم الشريعة هي الأصل وغيرها يبنى عليها.
وقد بين الشيخ خطأ هذا المسلك فقال: وبهذا نعرف غلط من يريد نصر الإسلام بتقريب نظمه إلى النظم التي جرت عليها الحكومات ذات القوانين وقد ابتلي بهذا كثير من العصريين بنية صالحة ولكنهم مغرورون مغترون بزخارف المدنية الغربية التي بنيت على تحكيم المادة وفصلها عن الدين.
وقسم وقف من هذه العلوم موقف العداء، فرفضها بل حرمها ومنع الاشتغال بها وهؤلاء بنوا موقفهم على جهل بأصول الشريعة وقواعدها,, وقد رد الشيخ على كلتا الطائفتين بقوله: لقد غلط كثير من الناس في مسمى العلم الصحيح الذي ينبغي ويتعين طلبه والسعي إليه على قولين متطرفين، أحدهما أخطر من الآخر.
فالأول: قول من قصر العلم على بعض مسمى العلم الشرعي المتعلق بإصلاح العقائد والأخلاق والعبادات، دون ما دل عليه الكتاب والسنة, من أن العلم يشمل علوم الشرع ووسائلها، وعلوم الكون، وهذا قول طائفة لم تتبصر بالشريعة تبصرا صحيحاً.
والقول الثاني: قول من قصر العلم على العلوم العصرية التي هي بعض علوم الكون، وهذا خطأ عظيم، حيث جعلوا الوسائل هي المقاصد (1) .
وقد سلك الشيخ مسلكا وسطا في هذا اعتماداً على الكتاب والسنة، فبين موقفه من هذه العلوم بقوله: العلوم قسمان علوم نافعة تزكي النفوس وتهذب الأخلاق وتصلح العقائد وتكون بها الأعمال صالحة، مثمرة للخيرات، وهي العلوم الشرعية وما يتبعها مما يعين عليها من علوم العربية.
والنوع الثاني: علوم لا يُقصد بها تهذيب الأخلاق وإصلاح العقائد والأعمال وإنما يُقصد بها المنافع الدنيوية، فإن قُصد بها الخير وبُنيت على الإيمان والدين صارت علوماً دنيوية دينية، وإن لم يُقصد بها الدين صارت علوماً دنيوية محضة (2) .
ويمكن ان نتعرف على جهد الشيخ وحرصه على الربط بين العلوم الحديثة النافعة وعلوم الدين من خلال ما يأتي:
1 أن الدين يأمر بهذه العلوم النافعة ويحث عليها:
لقد جاء الدين الإسلامي بالحث على كل أمر نافع في الدين والدنيا، لذلك أمر الله سبحانه بالاستعداد للأعداء بالمستطاع من القوة وهذا يختلف من عصر إلى آخر, قال تعالى: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .
وما ضعف المسلمون وذلوا إلا عندما انحرفوا عن دينهم وأغفلوا الأخذ بأسباب القوة، وقد بين الشيخ السعدي أن هذه العلوم العصرية النافعة داخلة في الدين، وقد جاء بالحث عليها والأمر بها، فقال: قد علم كل من له أدنى نظر وبصيرة أن دين الإسلام يدعو إلى الصلاح والإصلاح في أمور الدين وفي أمور الدنيا، ويحث على الاستعداد من تعلم العلوم والفنون النافعة، ويدعو إلى تقوية القوة المعنوية والمادية، لمقاومة الأعداء والسلامة من شرهم (3) .
بل إن الشيخ من شدة حرصه واهتمامه ببيان دخول هذه العلوم النافعة في الدين الإسلامي وحثه على الأخذ بها، صنف كتابا في هذا الموضوع سماه (الدلائل القرآنية في أن العلوم والأعمال النافعة العصرية داخلة في الدين الإسلامي).
ومما قاله في مقدمته: أما بعد، فهذه رسالة تتضمن البراهين القواطع الدالة على أن الدين الإسلامي وعلومه وأعماله وتوجيهاته جمعت كل خير ورحمة وهداية وصلاح وإصلاح مطلق لجميع الأحوال، وأن العلوم الكونية والفنون العصرية الصحيحة النافعة داخلة في ضمن علوم الدين وأعماله، ليست منافية لها، كما زعم الجاهلون والماديون، ولا جاءت الفنون العصرية النافعة بشيء جديد كما يظنه الجاهلون أو المتجاهلون، بل النافع منها للدين والدنيا وللجماعات والأفراد داخل في الدين، والدين قد دلّ عليه وأرشد الخلق إليه (4) .
2 أنها سبب للشقاء إذا لم تقترن بالإيمان:
إن العلوم الدنيوية العصرية النافعة لا يكمل نفعها إلى إذا اقترنت بالإيمان, وأما إذا خلت من الإيمان وقامت على الكفر وبنيت على البعد عن الله فإن ضررها أعظم من نفعها, قال الشيخ: الفنون العصرية إذا لم تبن على الدين وتربط به فضررها أكثر من نفعها، وشرها اكبر من خيرها (5) .
وقال أيضا: فالعلوم والفنون المادية والقوة المادية المحضة التي لم تؤسس وتبن على الدين، خطرها عظيم، وشرها مستطير، فانظر أحوال الأمم تر العجائب، فهذا الارتقاء المادي الذي لم يشاهد الخلق له نظيراً، لما خلا من روح الدين كان هو الحبوط والهبوط والسقوط الحقيقي في الدنيا والآخرة (6) .
3 أنها سبب للفوز والفلاح في الدنيا والآخرة إذا اقترنت بالإيمان:
إذا اجتمعت هذه العلوم العصرية النافعة مع الإيمان بالله وبنيت على هذا الأساس المتين، فإنها تكون سببا للفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وسيجني أصحابها منها خيراً كثيراً، لأن في اجتماعهما جمعاً لخيري الدنيا والآخرة، وقد بين الشيخ ثمرة اجتماعهما فقال: اعلم ان علوم البشر السابقة واللاحقة وما يترتب عليها من المعارف والأعمال والنتائج والثمرات نوعان: علوم دينية، وعلوم دنيوية، وكل رقي ديني ودنيوي وأخلاقي وجسدي فإنه من ثمرات العلوم، ولكن الرقي يتفاوت تفاوتا عظيما, فأعظم أنواع الرقي وأعلاه وأصلحه وأكلمه، إذا اتفق العلمان المذكوران واتفقت آثارهما، وتعاونا على الخيرات كلها، وعلى زوال الشرور كلها (7) .
وقال أيضاً: أرأيت هذه المدنيات الضخمة الزاخرة بعلوم المادة وأعمالها، لو جمعوا بينها وبين روح الدين وحكموا تعاليمه الراقية الواقية الحافظة، أرأيت لو فعلوا ذلك أما تكون هذه المدنية الزاهرة التي يصبو إليها أولو الألباب وتتم بها الحياة الهنيئة الطيبة السعيدة وتحصل فيها الوقاية من النكبات المزعجة، والقلاقل المفظعة؟ (8) .
كيفية الاستفادة منها؟:
إن المؤمن الفطن يسخر كل ما يستطيعه لنفع الأمة ورفعتها كما سخّر الله سبحانه ذلك لنا بقوله تعالى: ألم تروا أن الله سخّر لكم ما في السموات وما في الأرض ، وهذه العلوم الحديثة والمخترعات العصرية، لا شك أن المؤمنين أولى بالاستفادة منها من غيرهم، ولأن من لا يؤمن بالله واليوم الآخر فإن استفادته منها استفادة دنيوية مادية زائلة.
أما المؤمن فاستفادته تشمل الدنيا والآخرة، فيمكن الاستفادة من هذه العلوم والمخترعات الحديثة، بتسخيرها لنفع الأمة والربط بين أجناسها وتطوير أعمالها والوفاء باحتياجاتها، وقوة وحصناً ضد أعدائها، كما حث على هذا الشيخ ووضحه, إضافة إلى هذه الفوائد، فإن الشيخ يذكر فوائد أخرى عظيمة لهذه العلوم قد يغفل عنها البعض وهي الاستدلال بهذه العلوم، والمخترعات، على قدرة الله وعظمته، وصدق ما جاءت به رسله، بالأدلة الحسية الواقعية، التي تزيد إيمان المؤمن، وتقيم الحجة على المكذب والمعاند، وقد بين الشيخ هذه الفوائد خلال حديثه عن الكهرباء ونتائجها، وذلك بعد اكتشافها، ومن هذه الفوائد:
أنها دليل على البعث والنشور:
وقد بين الشيخ هذا بقوله: أليس الذي أقدر الآدمي على هذه الأمور الباهرة مع أن قدرتهم وقدرة سائر المخلوقات ليس لها نسبة أصلاً إلى قدرة الخلاق العليم بقادر على أن يحيي الموتى ويجمع قاصيهم ودانيهم، ويعلم ما تفرق من أجزائهم وما تلاشى من أوصالهم في أسرع من لمح البصر؟ (9) .
أنها دليل على أمور الغيب وحجة على أعداء الرسل:
بين الشيخ ان هذه العلوم النافعة بعد اكتشافها أصبحت من اقوى الأدلة على صدق الرسل بما أخبرت به من أمور الغيب، والمعاد، وصارت حجة قوية ضد مكذبي الرسل وأعدائهم.
قال الشيخ في هذا: لم تزل كتب الله المنزلة على رسله، ولم تزل الرسل الكرام تقرر أمور الغيب والمعاد بأنواع البراهين والأدلة التي تجعلها من الأمور التي لا تقبل الشك وأعداؤهم المكذبون استبعدوا هذا بعقولهم القاصرة، فأظهر الله هذه الآية الكبرى، والحجة العظمى، الدالة دلالة يقينية على صدق ما جاءت به الرسل من أمور الغيب، فكانت شبههم يستندون فيها إلى الأمور الحسية، والمشاهدات المادية، وأن ما جاءت به الرسل يخالف بزعمهم المحسوسات، فكانت هذه الآية من أكبر ما يزلزل شبهتهم ويدحض باطلهم، ويردهم على أعقابهم مغلوبين مقهورين بالحق المؤيد بالمنقول والمعقول والمحسوس (10) .
دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم:
لقد بين الشيخ ان هذه المخترعات دليل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بما أخبر به من أمور الغيب التي كذب بها الكافرون واستبعدوها لمخالفتها للعقول بزعمهم، ودليل على صدق القرآن بما أخبر من مخاطبة أهل الجنة لأهل النار، وبالجملة فهو دليل للرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به وزعمهم ان هذا من المحال، فجاءت هذه التطورات العصرية لتجعل من هذا المستحيل واقعاً محسوساً، فإذا وقع هذا من المخلوقين، فكيف برب العالمين؟.
حيث قال الشيخ في بيانه لهذا: أليس التنادي الذي ذكره القرآن بين أهل الجنة وأهل النار مع البعد العظيم كان في ذلك الوقت يراه المنكرون محالاً ممتنعاً فجاءهم ما لا قبل لهم بدفعه!! أليس إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بإسرائه إلى بيت المقدس ومعراجه إلى ما فوق السماوات صار محل فتنة واستبعاد للمنكرين مع أن آيات الرسل قد تقرر عند الخلق خرقها للعوائد فهؤلاء ورثة أولئك فلينكروا نقل الأصوات، والأنوار، وغيرها من الأقطار الشاسعة، فلو أخبرهم الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت أن الناس سيطيرون في الهواء، ويتخاطبون في مشارق الأرض ومغاربها وغيرها مما ظهر وسيظهر، فهل تظنهم إلا سيزدادون له تكذيبا، وبه سخرية، ولهذا من حكمة الله أن الله لم يصرح بذكر هذه الأمور (11) .
أنها سبب لزيادة إيمان المؤمن:
ذكر الشيخ ان هذه المخترعات ومنها الكهرباء من فوائدها للمؤمن أنها تكون سببا لزيادة إيمانه ووضح كيفية هذا بقوله: المقصود أن وجود هذه الأمور الهائلة الحاصلة من نتائج تعليم الله للآدمي بواسطة القوة التي وضعها الله في الكهرباء، يزداد بها المؤمن إيماناً وبصيرة، بما جاءت به الرسل، فيضاف شاهد الإيمان إلى شاهد العيان ولا يبقى في قلبه أدنى شك بصحة ما أخبرت به الرسل، فيكون بذلك من الموقنين,, ولا شك أن فائدة المؤمن من معرفتها أعظم من فائدة من اخترعها، فلم ينتفعوا بها في أمر دينهم (12) .
ثانياً: اهتمامه بنقد الحضارة الغربية الفاسدة وتعريتها:
إن القرن المنصرم والذي عاش فيه الشيخ السعدي، وعصر الحضارة المادية الغربية التي بهرت بزخارفها كثيراً من أبناء المسلمين، الذين لم يتبصروا في دينهم، فاغتروا بطاغوت الحضارة المادية الزائلة، فكانت هذه الحضارة وهذه المدنية الغربية سبباً لانحرافهم عن دينهم وتنكبهم لشريعة ربهم، مما جعل العلماء المخلصين الواعين المتبصرين، ينبرون لهذه المشكلة ويقفون في وجه هذا الانحراف الخطير، لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولبيان حقيقتها، وما قامت عليه وثمرتها وما تؤدي إليه، ببيان أخطارها على الأمم والشعوب وهدمها للفضائل والأخلاق.
وقد كان الشيخ السعدي من هؤلاء العلماء الذين قاموا بهذا الواجب العظيم، ووقفوا في وجه هذا الخطر الداهم، حيث جرد قلمه فبين حقيقة هذه الحضارة وزيفها، وأثرها المدمر وعواقبها الوخيمة على الأمم والشعوب، ولعل منهجه في نقدها وتحذير المسلمين من الاغترار بها يتضح من خلال النقاط التالية:
1 أنها بنيت على اساس باطل:
إن كل شيء تتبين حقيقته وجوهره بالنظر إلى أساسه وما بني عليه، وإلى باطنه وما طوي عليه، هناك يتبين صلاحه من فساده، وضرره من نفعه,, ومن خلال هذا بين الشيخ زيف هذه الحضارة الغربية، وأوضح أنها بنيت على أساس فاسد، ومذهب خبيث، فقال محاوراً من ترك دينه وسعادته الدنيوية والأخروية، رغبة في هذه الحضارة الزائفة والمدنية:
أتتركها راغباً في حضارات ومدنيات مبنية على الكفر والإلحاد مؤسسة على الطمع، والجشع، والقوة، وظلم العباد، فاقدة لروح الإيمان ورحمته عادمة لنور العلم وحكمته، حضارة ظاهرها مزخرف مزوق، وباطنها خراب,, فلا يخدعنك ما ترى من المناظر المزخرفة والأقوال المموهة، والدعاوى الطويلة العريضة، وانظر إلى بواطن الامور وحقائقها ولا تغرنك ظواهرها (13) .
2 أنها مجردة من الاخلاق الفاضلة والقيم النبيلة:
إن الحضارة الغربية التي غزت كثيراً من المسلمين غرتهم وظنوا أنها جاءت لإصلاح البشرية وتقويمها، وما عرفوا، أنها حضارة منهارة لأنها خلت من القيم الفاضلة، والأخلاق الكريمة التي تحيا بها الأمم وتقوم عليها الشعوب.
وقد بين الشيخ في نقده لهذه الحضارة هذا الخلل الواضح فيها، وأنها وسيلة إلى الرذائل بعيدة عن الفضائل، والتي يحرص عليها اصحاب العقول المستقيمة، والفطر السليمة، حيث بين ان هذه الحضارة القائمة عجزت عن إصلاح الأخلاق، واكتساب الفضائل، فقال: إن العلوم العصرية والمخترعات مع توسعها وتبحرها، حيث كانت خالية من الدين، عجزت كل العجز عن إصلاح الأخلاق واكتسابها للفضائل الصحيحة، وعن ترفعها عن الرذائل (14) .
وبين أيضا ان هذه الحضارة المادية لا يمكن ان تهذب النفوس وتصلحها، لأنها عزلت روح الدين، فقال: إنه ممتنع كل الامتناع ومستحيل أن تتهذب النفوس وتكتسب الفضائل بعلوم المادة المحضة، وأعمالها والتجارب، والمشاهدة اكبر برهان على ذلك، فإنها مع تطورها وتبحرها عجزت كل العجز عن تهذيب النفوس وإصلاحها، والذي يتوقف عليه صلاح البشر (15) .
3 أنها أصبحت وسيلة للدمار والتسلط:
إن من أكبر الدلائل وأوضحها على هبوط هذه الحضارة المادية وزيفها ما يرى من أعمالها وآثارها من شرور ونكبات واستعباد للخلق وويلات، فلا يحتاج بعد هذا إلى بيان أو إثبات، لأنه كما قيل: ليس الخبر كالمعاينة:
وقد أشار الشيخ إلى هذا الأثر السيئ عند تجريده لهذه الحضارة المادية ونقدها فقال: هذه العلوم التي افتخروا بها لم يوجهوها التوجيه النافع، بل استعملوها فيما يضر الخلق، في الإهلاك، والإفناء، والتدمير، فهي من أعظم النعم ولكنها باستعمالهم إياها كانت من أكبر النكبات والنقم,, فأي ترق صير أهله بمنزلة السباع الضارية، دأبها الظلم والاستعمار للأمم الضعيفة وسلبها حقوقها (16) .
وقال أيضا موضحا آثارها في تدمير البشرية: ألم تر آثارها في هذه الأوقات وما احتوت عليه من الآفات والويلات وما جلبته للخلائق من الهلاك والفناء والتدمير؟ فهل سمع الخلق منذ أوجدهم الله لهذه المجازر البشرية التي انتهى إليها شوط هذه الحضارة نظيراً أو مثيلاً (17) .
4 أنها صارت سبباً لتكبر أهلها وبعدهم عن الله:
إن أرباب الحضارة الغربية في هذا العصر صارت حضارتهم ومدنيتهم وبالا عليهم، لأنها صارت سبباً لشقائهم الأبدي فتكبروا بهذه العلوم التي سخرها الله، واستكبروا عن عبادة الله، واتباع دينه فاقتدوا بقائدهم إلى النار إبليس عليه لعائن الله، حينما عصى ربه واستكبر عن عبادته، قال تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين .
وقد قال الشيخ موضحاً اثر هذه الحضارة والعلوم في تكبر أهلها وغرورهم وبعدهم عن الحق: لقد صارت هذه العلوم المادية سبباً لشقاء أهلها لأنها أحدثت لهم الزهو والكبر والإعجاب وجعلوها هي الغاية المقصودة من كل شيء، فاحتقروا غيرهم، وعادوا علوم الرسل ودفعوها وتكبروا عنها (18) .
وبين الشيخ ان هذا المسلك من اعظم آفات العلوم المادية خصوصاً في هذا العصر، حيث قال: أعظم آفات العلم وقواطعه الانخداع بالوقوف مع المخلوقات دون خالقها، وبالآثار عن مؤثرها، وبالأسباب عن مسببها، وبالوسائل عن مقاصدها، فكثير من الملحدين والمغترين بهم يمهرون في العلوم الطبيعية فيأخذهم الزهو والغرور ويقفون معها ويرونها هي الحاصل، وهي المقصود وهي الغاية، فيحصل الانحراف العظيم، والنقص في العلم والعقل، ففرحوا بما عرفوا من الوسائل، وتكبروا بها فانطبق عليهم قول الله تعالى:فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون .
فهذا من أعظم آفات العجب والكبر على الإطلاق، وأعظم الطرق التي اغتر بها وانخدع كثير من الخلق (19) .
5 أنها صارت سبباً لشقائهم الدنيوي:
إن الخسارة الحقيقية هي الخسارة الاخروية لأنها سبب للشقاء الدائم والعذاب المقيم، فإذا اجتمع مع هذا شقاء الدنيا فقد صار ذلك خسراناً مبيناً,, قال تعالى: ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين .
وأرباب الحضارة الغربية المادية، مع ابتعادهم عن الله وتكبرهم عن عبادته وزهوهم وغرورهم بمدنيتهم التي صارت سبباً لشقائهم الأخروي، سخروا أيضاً هذه الحضارة لشقائهم الدنيوي، وذلك بالحروب المدمرة المهلكة، فصارت لهم شقاء على شقاء، وبلاء يتبعه بلاء.
وقد بين الشيخ شقاءهم الدنيوي بحضارتهم فقال: من العجب الذي ليس بغريب أن الأمم الأخرى ارتقت في هذه الأوقات في الصناعات الضخمة والمخترعات المدهشة والسلام الفتاك، والقوة والسياسة والفنون العلمية المادية، التي لم يشاهد الخلق لها نظيراً، وأنهم لم يزدادوا بها إلا شقاء وهلاكاً، وتدميراً، حتى صارت حضارتهم التي يعجبون بها ويخضع لها غيرهم مهددة كل وقت بالتدمير العام، وجميع علمائهم وساستهم في حيرة من تلافي هذا الخطر (20) .
ومع أن هؤلاء ليس لهم في الآخرة من نصيب، وأنها حظهم من الدنيا فقط إلا انهم لم يسعدوا بهذه الحضارة في الدنيا أيضاً.
وقد قال الشيخ في هذا: فهل أسعدتهم هذه الحضارة في دنياهم التي لا حياة لهم يرجون غيرها؟!! أم تراهم ينتقلون من شر إلى شرور؟!! ولا يسكنون في وقت إلا وهم يتحفزون إلى شرور فظيعة ومجازر عظيمة؟؟!! (21) .
(1) الدين الصحيح يحل جميع المشكلات، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة 1/341.
(2) الفتاوى السعدية، المجموعة الكاملة، السعدي، الفتاوى، ص 76.
(3) انتصار الحق، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة 2/404.
(4) الدلائل القرآنية، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة، 1/269.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق ص230.
(7) الرياض الناضرة، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة، 1/455.
(8)المرجع السابق 1/472.
(9) الفتاوى السعدية، المجموعة الكاملة، السعدي، فتاوى ص63.
(10) المرجع السابق، ص 62 بتصرف.
(11) المرجع السابق، ص 63.
(12) المرجع السابق.
(13) انتصار الحق، المجموعة الكاملة، السعدي ثقافة، 2/406.
(14) الدلائل القرآنية، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة، 2/349.
(15) الأدلة القواطع والبراهين، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة، 2/349.
(16) الدلائل القرآنية، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة 1/299.
(17) انتصار الحق، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة، 2/406.
(18) الفتاوى السعدية: المجموعة الكاملة، السعدي، الفتاوى، ص 76 بتصرف.
(19) الدلائل القرآنية، المجموعة الكاملة، ثقافة، 1/301، بتصرف.
(20) وجوب التعاون بين المسلمين المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة، 1/230.
(21)انتصار الحق، المجموعة الكاملة، السعدي، ثقافة، 2/407.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved