أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 21st January,2001 العدد:10342الطبعةالاولـي الأحد 26 ,شوال 1421

متابعة

رحل الشيخ فهل يمكن البوح عن الألم أو الشكر؟
د ,عبدالله الصالح العثيمين
عظم البلاء على البلاء
فالصمت أبلغ في الرثاء

هذا البيت مطلع قصيدة بعث بها إليّ أخي الكريم وصديقي العزيز الدكتور عبدالرزاق الحمد، تعزية بوفاة شقيقي الأكبر الشيخ محمد، تغمده الله برحمته.
وفي بيت أخي عبدالرزاق ما يعبر عن موقفي بدرجة كبيرة، فلقد خبرت نفسي سابقاً مع المصائب، وأعيشها الآن بكل ما فيها من ثقل، فوجدت أنني خلاف ما هو متوقع كلما عظمت المصيبة ازدادت قدرتي التعبيرية ضعفاً عن أن أبوح بما أحسه من مشاعر، عرفت ذلك عند وفاة أعز حبيبين إليّ والدي ووالدتي، أسكنهما الله فسيح جناته، فكان حجم مصيبتي بفقدهما أعظم وأجل من أن أعبر عنه، شعراً أو نثراً، وبقيت جراحات الفقد تتعايش مع دعواتي وابتهالاتي ان يجمعني الله بهما في جنة خلده, وهأنذا أعيش هذه الأيام مع المصيبة بفقد شقيقي الأكبر، الشيخ محمد، رزقه الله وإيانا وجميع المؤمنين شفاعة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وسقى الجميع من حوضه: إنه سميع الدعاء، ومرة أخرى يعجم وقع المصيبة لساني عن التعبير، وتشل فداحتها يدي عن الكتابة بوحاً عن مشاعري، فلا أجد ما ألجأ إليه إلا قول الله تعالى: إنا لله وانا إليه راجعون وما أجمل هذا القول وأطيبه لدى نفس كل مؤمن صابر.
أما بعد:
لقد لمست ما جعله الله في قلوب الكثيرين داخل الوطن وخارجه من قبول للشيخ محمد، رحمه الله، شخصية اجتماعية، ومنهجاً سليماً، وعلماً نافعاً.
وجدت ذلك القبول أينما سرت، شرقاً أو غربا, أذكر من ذلك كنت مع اساتذة من الجامعات السعودية ذهبوا إلى المغرب مع وزير التعليم العالي قبل سنتين.
وبينما كنا في كلية الطب باحدى الجامعات المغربية فوجئت بأعداد من الطلبة والطالبات تحيط بي، وكان السؤال الذي وجه إليّ من قبل الجميع: كيف حال شيخنا عبدالعزيز بن باز والشيخ العثيمين؟ وكم كانت سعادتي عظيمة! في بلد مثل المغرب، وكلية طب يأتي هذا السؤال! ومصدر هذه السعادة ان الشيخين، رحمهما الله، كانا أنموذجين يمثلان منهجاً واضحاً تعتز به هذه البلاد وتدعو إليه, وما وجدته في المغرب أشار إلى حدوث مثله في المشرق في بغداد أخي الكريم الشيخ عبدالله بن إدريس في مقالته عن الشيخ محمد الأسبوع الماضي، وهو أمر يدركه كل من استمع إلى البرنامج الاذاعي العظيم نور على الدرب ، حيث لا تقل الأسئلة الموجهة عبره من خارج هذه البلاد إلى علمائها عن الأسئلة الموجهة إليهم من داخلها.
ولقد كانت مسارعة الكثيرين إلى حضور ما كان يلقيه الشيخ محمد، رحمه الله، من دروس ومحاضرات عامة دليلاً واضحاً على ما جعله الله له من قبول لديهم، وكان تدفق الناس، أفراداً وجماعات، من جميع جهات أمريكا للاجتماع به عندما كان يجري فحوصات هناك أمراً يزيد ذلك الدليل وضوحاً, ثم جاء تزاحم الأخيار من مختلف طبقات المجتمع لزيارته بعد أن دخل المستشفى التخصصي للعلاج، وكان ما يُلمس ويُدرك من مشاعر هؤلاء من الأمور التي لا يمكن التعبير عن عظمتها, كانوا يمثلون القيادة، حكماً وعلماً، ويمثلون أبناء الوطن، شيباً وشباناً وأطفالاً، وتجمعهم جميعاً خيرية هذه الأمة, وإذا كانت مواقف الكل مما لا ينسى فإن ثلاثة مواقف، بالذات، كانت أكثر رسوخاً في الذاكرة، ذات ليلة وأنا عند باب الغرفة التي كان فيها الشيخ، رحمه الله، اقترب مني طفلان في العاشرة أو التاسعة من عمريهما، وقالا: حنا عيال الخليوي يا عم، ودنا نشوف الشيخ محمد وما كان ألذ على قلبي من أن ألبي رغبتيهما, وخرجنا منه والسعادة بادية على وجهيهما أبقاهما الله لأسرتهما مصدر غبطة وحبور، وفي ليلة أخرى كان الشيخ، رحمه الله، قد تعب بعد ساعة من رؤيته الزائرين والدعاء المتبادل بينهم وبينه، ورغب في أن يرتاح، عند ذاك كان بين من لم يكن هناك وقت لدخولهم إليه شاب يبدو في العشرين من عمره، فتقدم إلى الباب مصمماً على الدخول إلى الشيخ، وأخبر بأن الشيخ متعب، لكنه ازداد تصميماً على الدخول، وصاح: لا يمكن إلا أن أراه، فقد مات الشيخ ابن باز ولم أره، وانفجر باكياً، وأقنع أخيراً بان يأتي مبكراً في مساء اليوم التالي، ففعل، وكان أول من دخل إلى الشيخ، فخرج منه سعيداً مسروراً، أما الموقف الثالث فرمز وفاء ونبل: شيخ في التسعين من عمره، أو ينيف على ذلك، فقد بصره وخرج لتوه من المستشفى العسكري بعد اجراء عملية في قلبه، أتي به محمولاً في عربية، ودخل إلى الشيخ، رحمه الله، وأخذ يبكي ويدعو، والشيخ يبادله الدعاء، ذلكم هو النبيل الكريم أبو خالد، عبدالله بن عبدالرحمن القاضي، متع الله به، وأثابه أحسن الجزاء.
أما ما حدث بعد وفاة الشيخ محمد، رحمه الله، صلاة عليه، وتشييعاً لجنازته، وتعزية به، ودعاء له، فيغني عن الاشارة إليه ما سمع وشوهد عبر أجهزة الاعلام، وما كتب، شعراً ونثراً، ناهيك عما تلقاه أولو الأمر في هذا البلد حفظهم الله ورعاهم من تعزية به وما تلقته أسرته الصغيرة من برقيات ومكالمات هاتفية لا تحصى، وتدعو له بالمغفرة والرحمة، وللجميع بالصبر والسلوان.
تلكم كانت مشاعر الكثيرين تجاه الشيخ محمد، رحمه الله، معافى يستمع إلى دروسه ومحاضراته، ومريضاً يزار ويدعى له بالعافية، ومتوفى يصلى عليه ويشيع، وتسأل له المغفرة، ويعزى به ويرثى بمختلف الوسائل.
هذه المشاعر أكبر دليل على مودة راسخة في القلوب تجاه الشيخ محمد، رحمه الله ولعلها كما يرجو كل من يوده شاهد على محبة الله له, على أن مشاعر ود الأمة تجاه من هو مثله أكبر دليل، أيضاً، على خيريتها التي يأمل المخلصون أن تزداد عمقاً ورسوخاً.
وإذا كانت المصيبة قد أعجمت لساني عن التعبير، وشلت فداحتها يدي عن كتابة رثاء للفقيد، شعراً أو نثراً، فإني عاجز عن ابراز مشاعر الشكر والتقدير للجميع على مواقفهم النبيلة التي وقفوها مع الشيخ وذويه في حياته، وعواطفهم الودية الجياشة التي أبدوها تجاهه وتجاههم بعد وفاته.
وللكلمة ختام.
من حق من أسدى معروفاً ان يجازى عليه، فإن لم يجد المسدى إليه ما يجازى به صاحب المعروف فإن من واجبه ان يدعو له، ولقد كان معروف الكثيرين في الظروف التي مر بها الشيخ محمد، رحمه الله ومرت بها اسرته قبيل وفاته وبعدها من العظمة بحيث لا يمكن أن يقام بالواجب تجاهه، ولا يملك إلا الدعاء لكل من أسداه، وتأتي في طليعة أصحاب ذلك المعروف قيادة هذا الوطن، وعلى رأسها خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وأبقاه راعياً لشعبه وأمته، وأفراد الأسرة المالكة الكريمة.
جزى الله الجميع ما يجزي به عباده الصالحين، وأعظم لهم الأجر والمثوبة، وجميع قلوب رجال الأمة ونسائها على الخير والبر، وكتب الصحة والسعادة للاحياء منها، والرحمة والمغفرة لمن انتقل إلى الدار الآخرة، انه سميع مجيب.
على أن ما قام به ذو الشهامة والنبل، الأمير عبدالعزيز بن فهد، بالذات من رعاية وجود أكبر من أن يوصف، وأجل من أن يعبر عن مداه، لكن ذلك كله مهما بلغ من كبر وجلال غير مستغرب على نجل الفهد وحفيد عبدالعزيز , زاده الله رفعة وقدراً، وجزاه على ما قام به أعظم الجزاء وأحسنه.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved