أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 8th February,2001 العدد:10360الطبعةالاولـي الخميس 14 ,ذو القعدة 1421

الثقافية

نهار جديد
الشعر بطل كل المعارك
عبدالله سعد اللحيدان
لم يعد الشعر التسعيني الجديد قصيدة نثر أو تفعيلة يختفي فيها الايقاع يحافظ علىشكل من الأشكال السابقة، وربما خلا من أي سبب يدعونا الى تصنيف قصيدة فيه في نمط شكلي معين ينسبه الى سياق أو منظومة شكلية داخل هذا السياق، بعد أن أدخل تعديلات وتغييرات مهمة في طريقة أدائه، وبعد أن أدرك أن اندراجه تحت أي شكل سابق جاهز يعيده الى التقليد والنمطية ويعجز عن حمل أي تجربة جديدة في أي قصيدة جديدة يفترض أن تكون ذات خصوصية جديدة في تعاملها مع عناصر الشعرية.
وهذه نتيجة، بعد أن قامت المراحل السابقة والتي مر بها الشعر العربي الحديث باعداد الذوق العربي لتقبل ما لم يكن يتقبله أو يرفضه لأسباب فكرية وسياسية واجتماعية راسخة، وذلك بعد أن اتسعت موجة الشعر الجديد لتشمل كل من ينتمي إليه، وفي كافة أقطار الوطن العربي، وبعد أن تم تجاوز كل ما واجهته الأجيال السابقة من عقبات تقليدية، سياسية وثقافية واجتماعية، وتمكن من إبداعات شعرية جديدة تعتمد على إعادة رسم الخارطة وتغيير ملامحها وإلغاء حدودها وإقصاء كل قيمة خارجية كانت تستدعى لمساندة الشاعر لاقناع القراء بأن ما يقوله: شعر، وبعد أن تم استبعاد كل قانون سابق ينظم حركة العناصر وعلاقاتها داخل القصيدة، وأصبح لكل قصيدة قانونها الفني الخاص بها والذي يعتمد على هذه القصيدة فقط كوحدة ويرتبط برؤيتها وموقفها وطريقتها في تجسيدهما والتعبير عنهما، وبعد أن وصل الشعراء الجدد الى درجة عالية من الحساسية الفنية والمهارة الفائقة في الأداء والوعي العميق والتفكير المفتوح والثقافة الحرة والالتزام الانساني، وبعد أن أدى ذلك كله الى النجاح في التجديد الذي واجه ويواجه موجة عمياء جديدة من مرتكبي جرائم الدعوة الى العودة الى الماضي الميت والمحنط بكل ما فيه وبكل ما جر على الانسان بعامة وعلى الانسان العربي بخاصة من مصائب وتخلّف وجمود وتبعية وذل واستعباد واستعمار ليس أعظمها الوجود الفيروسي الاسرائيلي الصهيوني في قلب ودورة دم الأمة العربية المغلوبة على أمرها.
ولم يعد الشعراء الجدد يخضعون لقانون ينظم القصيدة قبل وأثناء وبعد الكتابة ، أي في مرحلة التخطيط والكتابة والقراءة والنشر، مما أدى الى تحوّل جوهري في فلسفة النظر الى هذه القصيدة وما نتج عنها من فلسفة للتذوق الشعري للقصيدة العربية، ومما أدى الى اعطاء القيمة الحقيقية للشعرية، للقصيدة كوحدة وككل، وليس لأي عنصر من عناصرها فقط، ودون أن تلغي هذه النظرة الحديثة أهمية أي من هذه العناصر، بل تم مزجها بشكل أكثر انسجاما وتناسقا وتكاملا واتحادا لتحقيق مزيد من الفاعلية لكل منها في المشاركة في البناء النهائي وفي ارتباطها ببعضها البعض، حتى أصبحت جميع العناصر داخل وحدة العمل الشعري عنصرا واحدا لا يمكن تجزئته أو عزله أو تفتيت مكوناته، وبحيث أصبحت أجزاء القصيدة وأعضاؤها جسدا واحدا، وبحيث يحقق اكتماله وأصالته وصدقه كلما عجز الآخرون عن نسل خيوط نسيجه المتين، ومهما حاول الأعداء زرع الفرقة والتنافر بين خلاياه المتمازجة المتجانسة.
هكذا انتصر الشعر العربي الجديد على أعدائه، وهكذا ينتصر كل من يريد أن ينتصر؛ وهكذا أتاح الشعر الجديد امكانيات واسعة للتحرك خلال قصائد غير متماثلة وغير محددة الأنماط، وحرية أكثر في التنويع والمغايرة والاكتفاء بالذات، على الرغم مما ينتج عن ذلك من صعوبة تواجهها الامكانيات المدرسية المحدودة لمعظم النقاد العرب الذين ارتبطوا بأنماط وسياقات وطرق ثابتة، قديمة وحديثة، موروثة ومستوردة، وفي اطار عام من النقد العربي السائد والقائم على آلية النظام والتوقع ورفض أو الانتقاص من كل ما يخرج عن النتائج السابقة والمفترضة التي تقتضيها الحيثيات والقواعد والحدود والقيود والاعراف والحواجز والعلامات التي يضعها كل ناقد قبل أن يقوم بمقاربة العمل الشعري.
ولم تكن التغييرات والتطورات التي جاء بها الشعر الجديد، طفيفة أو مجرد محاولات نادرة أو متواضعة أو في أطوارها التجريبية فقط، بل جاءت ناضجة الى درجة أنه تخلص نهائيا من أي الزام خارجي ومن الخضوع لأي نظام معين أو مفروض، واعتمد على ما هو أكثر ارتباطا بالتجربة وبأساليب مفتوحة متمكنة تمتلك خصائص الشعرية، بعد أن ألقى كل ما يعوقه وألغى كل محاولات التقنين ومتطلبات الأشياء الخارجية التي كانت تدخل الى القصيدة أو تحيط بها بشكل طفيلي، وبعد أن ربط طريقة الأداء وتقنياتها بالرؤية والموقف وانفعال التجربة الشعرية.
وكان من نجاحات الشاعر الجديد ان واكبه عدد من النقاد الجدد؛ ومثلما يلتقي الفلاسفة أو الشعراء، التقى النقاد الجدد في رؤى ومواقف وطرق أداء في مقاربة الشعر الجديد ذات سمات وظواهر وجواهر تختلف بنسبة وبأخرى عن تجارب نقاد الرواد ونقاد الأجيال التي اقتدت بهم، وبتمايز واضح، بحيث اصطبغت فلسفة كل ناقد جديد متميز منهم بما جدّ على ثقافته ووعيه وذائقته من تطور وحداثة وجدّة وما أضافه ذلك كله الى أدائه وطريقة عمله من أبعاد ودلالات جديدة، وشجعهم على ذلك ان النقاد العرب السابقين جميعا لم يستطيعوا الاتفاق على أو الوصول الى نظرية عربية متكاملة ولو مرحليا في النقد أو علم الجمال.
ومع ذلك، لا يزال عدد كبير من محاولي الشعر والنقد الجديدين يراوحون بين مرتبتين، العليا: وهم أصحاب القضايا النضالية الانسانية الفنية من أصحاب الرؤى الجديدة الاستشرافية والمواقف الواضحة والاخلاص والصدق والتضحية؛ والسفلى: وهم من يكتفون بتقليد سطوح الابداع الجديد ويسجلون انطباعاتهم عن الشعر الجديد ويدعون الى تشجيعه وترك التقليد ولا يمتلكون ربما أكثر من النيات الطيبة التي يعجزون عن تحقيقها فعلا أو يمنعهم من تحقيقها خوفهم أو طمعهم الحسي أو المعنوي.
وربما كان أكثر هؤلاء المبدعين اخلاصا وصدقا وتعبيرا عنهما وقدرة على بلورة ما يريدون قوله وما يسعون إليه، الفئة التي اتخذت الشعر أو النقد رسالة انسانية لا جمالية أو مهنية فقط، وذات قضايا تمس الانسان الجديد وقضاياه ومواقفه من وجوده وحريته وتعمل على توعيته وتثقيفه والارتقاء بذائقته وتطويره.
هذه الحروب الشرسة، والتي خاضها الشعر العربي الحديث والجديد منذ العقود الأولى من القرن العشرين حتى الآن، وخاضها النقد الى جانبه، وألهبت حماس ووجدان ومشاعر القارىء العربي، لم تكن حروبا فنية جمالية ابداعية فكرية ذوقية فقط، بل كانت في جوهرها حروبا نضالية بدأت في مواجهة العدو والاستعمار الأجنبي في مراحلها الأولى وتواصلت في وجه الامتدادات والذيول الأخرى التي بقيت من هذا الاستعمار وسجلت انتصارات متوالية في الحرب المصيرية الطويلة بين العرب واسرائيل، كون الشعر يقوم على الايقاظ والتحريك وإثارة مشاعر الكرامة والعزة والبطولة وعبر تاريخه الطويل، عند العرب وعند جميع الأمم، فكثير من القصائد أو الأبيات الشعرية أشعلت حروبا وساعدت على استمرارها وإذكاء نارها عقودا طويلة وكانت الزاد والوقود الروحي للمقاتلين والضمير الذي يخز كل من تسول له نفسه الخوف أو النسيان أو التراجع أو الاستسلام، كون الشعر بطل كل المعارك وفي مختلف الأزمنة والأمكنة.
وهكذا كانت كل التطورات الفنية التي صاحبت الشعر العربي في القرن العشرين تعكس في جانبها النضالي الانساني التطورات التي حدثت على الساحات العالمية والعربية وتعكس وتجسد كل صورة منها صورة من نضال الانسان المشروع في سبيل هويته وحريته ووجوده ومستقبله ورقيّه في سلّم الانسانية.

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved