أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 11th February,2001 العدد:10363الطبعةالاولـي الأحد 17 ,ذو القعدة 1421

مقـالات

ثقافة الحوار الافتراضي!
إبراهيم بن عبدالله السماري
الحوار فعل مؤثر تأثيراً بليغاً في عملية الوصول الى الحقيقة بأماراتها الراجحة، توخياً للعدل، وهو من اهم الوسائل التربوية الهادفة الى التأثير في عقول المتلقين وقلوبهم بالخير والاصلاح.
والحوار قبل ذلك ومعه وبعده هو: علم مهمته توصيل رسالة واضحة المفهوم الى المتلقين بأساليب ووسائل علمية لتحقيق اهداف شريفة ومعان مفيدة للفرد والمجموع.
فإذا ترسخ هذا الاعتقاد في نفوسنا وجب البحث عن المعرفة المنهجية والقواعد الصحيحة التي ينتظمها سلك البيان للتعرف على مرتكزات الحوار العلمي المثمر، ومنطلقاته، ومناهجه ووسائله واساليبه واهدافه، حتى يتسنى ضبط المصطلحات، وتفسير المفردات.
والحوار علم مستقل من العلوم الإعلامية له متخصصون، وفيه دراسات كثيرة، يصفه رجال الاعلام بانه ذلك الطابع الذي ينسق به الكلام بطريقة تجعله يثير الاهتمام ويستفز المشاعر باستمرار .
ولكي يستفحل تأثير الحوار على هذا النحو لابد من تفوق اركانه الاربعة وهي: مادة الحوار، ومن يقوم به، ومن يجري معه، وكيفية تنفيذه.
والذي حدا بي الى الكتابة في هذا الموضوع، مالمسته من قصور في استثمار الحوار الإعلامي الاستثمار الامثل لتحقيق اهداف الوسيلة الاعلامية، مقروءة ومسموعة ومرئية، مع انه اداة نافذة، ومنهل سهل الاغتراف لمن احسن التعامل معه، ثم مالمسته من الاتجاه الى الحوار الافتراضي بين رمزين من الرموز الاجتماعية، قد يكون كلاهما من الكائنات العاقلة كالحوار بين الزوج والزوجة، وقد يكون بعضهما من غير العقلاء او من الجامدات كالحوار بين البعير والسيارة، كل ذلك بقصد تقديم مادة علمية هادفة ومشوقة.
اول ماقرأته من هذا الاسلوب كان للدكتور احمد بن راشد بن سعيّد في مجلة المعرفة، ثم سار على نهجه آخرون الا انه لم يكتب لهم الاستمرار لصعوبة هذا الفن وحاجته الى قدرات ثقافية وادوات بيانية متفوقة ومتدفقة.
ولذا استأثر بإعجابي حقاً استمرار الدكتور احمد بن سعيّد في ممارسة هذا الفن الادبي الصعب عبر مجلة الاسرة، ثم اخيراً من منبر مجلة جودي الجديدة التي يرأس تحريرها شخصيا.
والحوار حقيقياً او مفترضاً لابد ان تضبطه ضوابط تضمن سير عجلات قطاره في الطريق المرسوم لها نحو الهدف المروم، ولعل من اهم الضوابط المهمة للحوار ما يأتي:
1 الاعتدال والاتزان، وتجنب الإثارة والتهييج، لان هدف الرسالة الاعلامية تثقيفي تربوي وتوجيهي وليس ترفاً او تجارة فحسب، وقد احسنت مجلة جودي عندما جعلت شعارها جودي: الفضيلة سر وجودي .
وفي داخل هذا الإطار فإن من الضرورة استخدام اللغة السليمة التي يفهمها المتلقي ويستوعب مضمونها في سهولة ويسر، دون إعناته بالبحث عن مدلولاتها، او اللجوء الى من يفسرها له.
2 الالتزام بثوابت الدين والخلق القويم، لان هذا الالتزام فرض لازم على كل مسلم مهما كان موقعه، ومهما كانت وسيلته، وبالنسبة للإعلامي يزيد هذا الالتزام قوة انه في مرتبة الداعية والمبلغ، فهو مسؤول عما يبلغه.
وهذا الالتزام يؤدي الى تحقيق الجدوى الفكرية وذلك من خلال اربعة مظاهر، هي: خدمة عقيدة الامة، والحرص على سلامة الكيان السياسي للوطن، والحفاظ على وحدة المجتمع بتحصيل دواعي الإخاء بين افراده، وحساب المنافع العامة لأفراد الأمة في الداخل والخارج.
3 الموضوعية، واعني بموضوعية الحوار الاعلامي ان يحقق ثلاثة امور، اولها: المصداقية بان يكون متوازناً منصفاً رزيناً غير متورط في الانحياز المعيب او المبالغة الفجة، وثانيها: ان يجمع اهم مقاصد الموضوع بأسلوب متوازن لا يجنح الى الإطالة المملة ولا يقعد عند الإيجاز المخل، وثالثها: الحرص على الترابط بين فقراته فلا يشعر الجمهور بفجوات بين النص تقلل درجة احترامهم للمادة المقدمة.
ولذا فإنه من المفيد توافر ثلاثة عناصر مهمة لعملية الربط هذه، هي النفاذ المؤثر، والسرعة، والتشويق.
4 الشمول، فلابد ان تكون المعالجة الحوارية شاملة لكل عناصر الموضوع، وموزعة عليه بالعدل، مراعية مقدار حاجة المتلقي للبيان في كل عنصر، وان يصاحب هذا الشمول وضوح في الكلمة والهدف، واختيار مناسب للالفاظ، وانتقاء للمواقع التي تثمر وتؤثر فيها.
5 الجاذبية والإمتاع، واعني بهما تزيين النص بالحق، لاجتذاب العقل، والعاطفة معا، وتجديد شهية المتلقي في كل خطوات الحوار حتى لايسرقه السأم، او يستولي عليه الملل نتيجة برود الاجواء الحوارية او جفافها.
6 الحيوية، بان يشتمل النص الحواري على أشياء، أو آراء، او مشاهد تكسر الرتابة الإلقائية، وان تكون لدى المحاور القدرة على التحليل، لأن مسالك الحوار الجاد سوف تتشعب يقينا بمجرد بدئه، وواجب الاعلامي التفاعل الايجابي معها، وتحليلها، لكي يبقى مقود الرحلة الحوارية في يده.
7 الإفادة، فإن المادة الإعلامية مادة معرفية بالنسبة لجمهور المستفيدين منها، فلابد ان يحرص الاعلامي على ان يملأ جداول معرفة المتلقي بما يفيده.
8 التنوع، بأن تعرض الفكرة في القالب المناسب لها، فقد يناسب فكرة حوارية ما ان تصاغ في قالب الحديث المجرد، بينما لايناسب فكرة اخرى تستأثر باهتمام الجمهور وتستحوذ على كثير من مساحة تساؤلاته سوى صياغتها في قالب الاعتراف باستنطاق المشاركين في الحوار، كي يعترفوا بحقيقة ما او ينفوها، او يشرحوا موقفهم منها، بما يوصل الى الهدف من عرض الفكرة، ويرضي فضول المتابع، وهكذا بالنسبة لقوالب الحوار الاخرى.
9 العدل، فعند اختلاف المشاركين في الحوار حول قضية ما يجب اعطاء المختلفين ذات الحظ من فرص عرض آرائهم والتدليل عليها.
10 الاحتراز من العاطفة الجاهلة، فالعاطفة الحارة المبنية على علم صحيح هي في عرف العقلاء دون ريب قوة دفع مهمة، لكن العاطفة المنفلتة من الضوابط تتحول الى عاصفة هوجاء تقتلع جذور الخير والصواب، فلابد ان تكون العاطفة علمية، مضبوطة بضوابط التثبت وعدم الاستعجال في اصدار الاحكام، وبعيدة عن الحكم على النيات بدون دليل شرعي.
يقرر الإمام الماوردي في كتابه القيم أدب الدنيا والدين كثيراً من هذه الضوابط فيقول: ان للكلام شروطاً لايسلم المتكلم من الزلل إلا بها، ولايعرى من النقص الا بعد ان يستوفيها، وهي اربعة فالشرط الاول: ان يكون الكلام لداع يدعو اليه اما في اجتلاب نفع او في دفع ضرر، والشرط الثاني: ان يأتي به في موضعه، ويتوخى به اصابة فرصته، والشرط الثالث: ان يقتصر منه على قدر حاجته، والشرط الرابع: ان يتخير اللفظ الذي يتكلم به,, فهذه اربعة شروط متى اخل المتكلم بشرط منها فقد أوهن فضيلة باقيها .
واعود الى ما اشرت اليه في مبتدأ هذا المقال عن الحوار الافتراضي فاذكر انه صدر للدكتور احمد بن راشد بن سعيّد كتاب بعنوان بين قلبين، رسائل متبادلة وهو من هذا الفن الادبي، الذي يقوم على الحوار الافتراضي الشائق بين شخصيتين، ليطرح رؤاهما، ومواقفهما وتفسيراتهما للاشياء، وتعرية السلبيات للحذر منها، وحمد الإيجابيات للاستكثار منها، بأسلوب شائق وصور بيانية بديعة.
كتب الدكتور ناصر بن سعد الرشيد مقدمة ادبية رائعة لهذا الكتاب اشار فيها الى محاولة مؤلفه معالجة القضايا الاجتماعية والاخلاقية عن طريق هذه الكتابة التي عرف بها الحوار الافتراضي بتخيل شخصيتين عاقلتين، او غير عاقلتين بحسب الموضوع، يكون بينهما نوع من الاختلاف في الرؤية او في تقدير القيم الاجتماعية المطروحة.
ونبه الدكتور الرشيد الى ان الطريقة الرمزية ليست بدعاً في التأليف، فقد سبق الى هذه الطريقة كاتبو كليلة ودمنة، ومنطق الطير ونحوهما، ولكنه اثنى على انفراد المؤلف بعصرنة الرمز والمرموزات، وثروته اللغوية والبيانية، وقدرته على حسن اختيار طرفي الحوار ومابينهما من مناسبة، كما في الحوار بين الجدة والدش، فالجدة عرفت في القديم بأنها تقوم بحكاية القصص والسواليف للاطفال لتبث من خلالها القيم الحسنة والعادات الجميلة، والدش هو الذي اخذ مكان الجدة في العصر الحاضر.
والاشخاص والرموز في هذا الفن الادبي الراقي تتعدد، ولكن يجمعها التشويق والجاذبية في العرض وفي استخدام الادوات البيانية والاساليب البلاغية، وفي القدرة الفائقة على احلال الاهداف في بنية الكلمات والجمل برفق، دون ان يشعر القارئ بهذا الإحلال، او بأن المحاور يفرضه على فكره وذائقته.
تجد في هذا النطاق حواراً بين البعير والسيارة وبين الزوجة الاولى والثانية، وبين العاملة وربة البيت، وبين الام وابنها، وبين الاب وابنه، وبين الموظف ومديره، بالإضافة الى عدة حوارات بين الزوجة وزوجها حول همومهما واهتماماتهما وخلافاتهما اليومية والمعقدة، حول راتب الزوجة، والزوجة الثانية، وطريقة التعامل بين الزوجين، واهمية مراعاة المشاعر، وخطر الزوج المدمن، وغير ذلك.
وتجد حواراً بين الصديق وصديقه، وبين بوسنية وشيشانية، وبين صاحب شقة وساكن فيلا، وبين التعليم الاهلي والتعليم الحكومي، وبين الراسب والناجح، وبين الاب والدكتور، وبين الاب والمعلم، وبين الدش والجدة.
يمكن القول: ان ادب الحوار الافتراضي صعب المراس، وهذا مايفسر قلة الممارسين له قديما وحديثا مقارنة بعدد المؤلفين والكتاب، لان الممارس له لابد ان يكون ذا ثقافة علمية موسوعية يستمد منها نهر الاستمرار جريانه، وذا ثروة لغوية متنوعة يقوم عليها بناء الجانب التشويقي، وذا حس مرهف في ادراك المناسبات الظاهرة والباطنة بين اطراف الحوار يقوم عليها بناء الخطاب الفكري بين معد الحوار والمتلقي، وذا قدرة متمكنة في توليد الصور المبدعة التي يقوم عليها البناء الحواري في شكله العام مبحرا في المركب المناسب من مراكب الوسائل القولية والحركية لتحصيل اهدافه.
والمطلوب الصحيح الذي تتطلبه فضيلة الرشد ومتطلبات العقل السديد ان يحوز الصالحون هذا المنبر المهم، ليصبح منبرا دعويا بالحق وبالحسنى، وان يصبغوه بصبغة الله التي اثنى عليها في قوله سبحانه وتعالى: صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون , (البقرة 138).
والامر ليس بالتمني ولا بفعل السحر، فلكي يحدث هذا الواجب الرشيد فإن الفاعل في هذا المنبر يحتاج الى تأهيل متين، واعداد قوي، لئلا يبقى الشارد عن السرب تائهاً في الارض المهلكة تقلقه وحشة التيه، وتستبد به نوازع الشر، حتى يفتك به ذئب مفترس او يلتهمه وحش جائع.
والحاجة ماسة إلى اعداد قوي الركائز, متين الجذور، ليثمر العطاء طيب الجناء، ولن يتم هذا الا بوعاء متدفق العطاء ومستمر البذل.
يقرر الدكتور سيد ساداتي ان تنشيط الحوار، وتعميق التعارف عبر عملية الاتصال الاعلامي موضوع يشغل بال الإعلاميين حقا، وأي تنشيط لايتوافر له عنصران اساسان هما المعرفة المتجددة واتقان فن الاتصال بالآخرين، محكوم عليه سلفا بالفشل .
لعله مما سبق بيانه يتضح ان الحوار الافتراضي اسلوب مهم في المجال الاعلامي، وانه مع ذلك عملية معقدة ذات ثقافة خاصة، من الضرورة الملحة في هذا العصر ان يستوعبها الاعلامي وان يستفيد من متاحاتها وثمارها.
وستظل ثقافة الحوار الحقيقي والافتراضي مادة ثرية بالتصورات والرؤى من المتخصصين ومن الممارسين نحو ايجاد الأسلوب الأنفع في التعامل مع الوسائل الإعلامية.
هذا وبالله التوفيق.
alsmariibrahim@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved