أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 3rd March,2001 العدد:10383الطبعةالاولـي السبت 8 ,ذو الحجة 1421

مقـالات

آفاق وأنفاق
بقية هجاء للحمير
د. محمد العيد الخطراوي
طوينا الصحيفة في الاسبوع الماضي، ولمّا يزل في الجعبة مسبات كثيرة للحمير تشرح القلب،وتشفي الصدر من غريمي الحمارة وأنا حينما أورد هجاء الحمير الحقيقية أحس ان ذلك الهجاء جميعه واكثر منه، ينبغي ان يوجه للحمير المجازية ومن الأنثار الهجائية في هذا الباب قول جرير بن عبدالله : لا تركب حمارا، فانه ان كان حديدا أتعب يديك، وان كان بليدا أتعب رجليك )الحديد: النشيط القوي القلب، البليد: الضعيف الذكاء، القليل النشاط( وسئلت اعرابية عن الحمار، فقالت: لعنه الله، لا يذكّي، ولا يزكّي، وان اطلقته ولَّى، وان ربطته أدلى، عظيم الحرارة بطيء الغارة لا ترقأ به الدماء ولا تمن به النساء ولا يحلب في الاناء.
وكتب ابو الحسن بن نصر الكاتب رسالة الى صديق له اشترى حمارا يداعبه فيها، فقال:
)وقد عرفت ابقاك الله حين وجدتَ من سكرة الايام إفاقة، وآنستَ من وجهها العبوس طلاقة، كيف أجبتَ داعيَ همّتك، وأطعتَ أمر مروءتك ، فسُرِرْتُ بكمون هذه المنقبة التي أضمرها الاعدام ونمّ على كريم سرها الامكان، واستدللتُ منها على خبايا فضل، وتنبهتُ منها على مزايا نُبِل، كانت مأسورة في قبضة الإعسار، وكاسفة عن سُدفة الإقتار.
)السدفة بضم السين وفتحها : الظلمة في لغة تميم، وهي المراد هنا(.
وقلت: أي قدم احق بولوج الركب من قدميه، وحاذٍ أولى ببطون القُبِّ من حاذَيْه؟
)الحاذان لحمتان في ظاهر الفخذين تكونان في الانسان وغيره. قال الشاعر:


خفيف الحاذ، نسَّالُ الفيافي
وعبدٌ للصحابة غير عبْدٍ

وجمع الحاذ: أحواذ والقَبُّ : جمع أقبّ وقبّاء، وهو الضامر البطن من الخيل(.
واي أنامل أبهى من أنامله اذا تصرفت في الاعنة يسراها وتحكمت بالمخاصر يمناها؟ وكيف يكون ذلك الخلق العظيم، والوجه الوسيم، وقد تبهر جالساً اذا طلع فارسا؟ ثم اتهمت آمالي بالغلو فيك، واستبعدت مناقضة الزمان بإنصاف معاليك، فقبضتُ ما انبسط من عنانها، وأخمدت ما اشتعل من نيرانها، حتى وقفت على صحيحة الشك.
أرجو علوّ همّتك بحسن اختيارك وأخشى منافسة الأيام في درك أوطارك فإنها كالظانة في ولدها، والمجاذبة بالسوء في واحدها، يدني الامل مسارّها، ويرجىء القلق حذارَها حتى أتتنا الأنباء تنعى رأيَك القائل )الضعيف الخاطىء(، وتقل عزمَك الآفل، بوقوع اختيارك على فاضح صاحبه، ومسلم راكبه، الجامد في حلبة الجياد، والحاذق بالحِران )عدم الانقياد( والكياد، الشؤم دينه ودأبه، والبلادة.
طبيعته وشأنه، لا يصلحه التأديب، ولا تُقرع له الظنابيب، )الظنبوب : هو حرف الساق، وقرع الظنبوب: ان يقرع الرجل ظنبوب راحلته بعصاه، اذا أناخها ليركبها ركوب المجدّ المسرع(، ان لحظ عيراً أنهق، أو لمح أتانا شبِق، أو وجد روثاً شمَّ وانتشق . فكم هشم سنّاً لصاحبه ، وكم سعط أنف راكبه؛! وكم استردّه خائفا فلم يردده، وكم رامه خاطبا فلم يسعده ويَعْجل ان أحبّ الأناة والابطاء، ويرسخ إن حاول الحث والنجاء، مطبوع على الكيد والخلاف، موضوع للضعة والاستخفاف، عزيز حتى تهينه السياط، كسولٌ ولو أبطره النشاط، ما عرف في النجابة أباً ولا أفاد من الوعي أدباً، الطالب به محصور، )محبوس( والهارب عليه مأسور، والممتطي له راجل، والمستعلي بذروته نازل له من الاخلاق أسوؤها، ومن الأسماء أشنؤها، ومن الأذهان أصدؤها، ومن القدود أحقرها، تجحده المراكب، وتجهله المواكب وتعرفه ظهور السوابك، وتألفه سُباطات المبارك، والله الموفق. )السُّباطة: المراغة(.
هذه رسالة اخوانية كتبت بدافع المداعبة، ولذا فإن ما جاء فيها من اوصاف غير مقصود به النيل من المرسل إليه، وانما المراد المضاحكة ، فهي صادرة من قلب محب، ومشاعر مخلصة، وقد جاء كاتبها على ذكر اكثر مصائب الحمير، وأبرزها في شكل مثير للضحك والاشمئزاز.
ومما قاله ابو غُلالة المخزومي في ذم الحمار غير ما سبق ايراده قوله في حمار )طيّاب السماء( أيضاً:


حمار أناخ به ضُره
ودار عليه بذاك الفلك
يميل من الضعف في مشيه
ويسقط في كل دربٍ سلك
فأما الشعير فما ذاقه
كما لا يذوق الطعام الملَكْ
يغنِّي على القتِّ لما يراه
وقد هزه الجوع حتى هلك
اخذتَ فعذبته
وأسهرَ عيني فما حلَّ لك

وقوله أيضا:


لم أبك شجوا لفقد حبّ
ولا ابتلاني بذاك ربي
لكنني قد بكيت حزنا
على حمار لجار جَنْب
لو شمَّ ريح الشعير شمّاً
من غير أكلٍ لقال: حسبي
أو عاين القتَّ من بعيدٍ
يوما لغنى بصوت صبِّ:
ليس يزول الذي بقلبي
يا من جفاني بغير ذنب

ونلحظ ان المقطوعتين تدوران على أفكار واحدة، هي ضعف هذا الحمار وبخل صاحبه عليه بالعلف من قتٍّ وشعير، فهو يحلم بذلك ويناغيه من بعيد.
وقال فيه أيضا:


حمار )طيّاب( لا تحصي معايبه
مافيه اكثر مما قلته فيه
قد دق حتى رأيت الخيط يشبهه
من الهزال، وعين الضُرِّ تبكيه
ما زال يطلب وصل القت مجتهدا
والقتُّ يقتله بالصد والتيه
حتى تغنى له من طول جفوته
صوتا يبوح بما قد كان يخفيه
النجم يرحمني مما اكابده
وأنت في غفلة عما أقاسيه

ونلحظ ان لغة هذا الشعر تعتمد على البساطة في المفردة والتركيب وبناء الصورة ولا جرَم فهي حمارية به المحتوى لكنها لا تخلو من طرافة وفتح لباب الدعابة والإضحاك ، أدت دورها في القديم وما زالت تؤديه وها نحن نبعثها من مرقدها من جديد ولاشك ان حمار طياب محظوظ حين تناوله هذا الشاعر في شعره إذ لولاه لما عرفناه ولما كان من الخالدين وسبحان الله فكأن الخلود يوهب للحيوان كما يوهب للناس دون معايير او موازين والخلود لاريب هو ذكرٍ ثانٍ للانسان طلبه حتى الانبياء والمرسلون ولكن شريطة ان يكون ذكراً طيبا عطرا كما طلبه ابراهيم عليه وعلى نبينا السلام: )واجعل لي لسان صدق في الآخرين(
الشعراء / 84.
ويظل وهْمُ الخلود يداعب اجفان البشر من كل لون وجنس وفي كل مجال تدور عليه احلام الجميع ثم يأتي الوقت الذي نقول فيه:


دارَ الزمانُ على دارا وقاتله
وأمَّ كسرى فما آواه إيوان


أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved