أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 5th March,2001 العدد:10385الطبعةالاولـي الأثنين 10 ,ذو الحجة 1421

الركن الخامس

رفع الحرج
يسروا ولا تعسروا.. وبشروا ولا تنفروا
ما أحوجنا اليوم إلى العلماء الأجلاء الفقهاء الذين يسيرون على نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في التيسير على الناس وعدم التشدد معهم في الفتاوى والأحكام عندما تقتضي الضرورة ذلك لأن الضرورات تبيح المحظورات خاصة في الحج، بعد ان تغير العصر، وتغيرت معه أمور كثيرة، تتصل بالزمان والمكان والأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان.
لقد تيسرت أمور السفر، واختصر الطيران المسافات، وأصبح العالم قرية صغيرة، وكثر الوافدون إلى الأراضي المقدسة.. وبعد ان كانوا يعدون بالآلاف أضحوا اليوم بالملايين.. ورغم التوسعة التاريخية التي تمت في الحرمين الشريفين.. ورغم الإنجازات المعمارية الكبرى في مكة المكرمة والمدينة المنورة فإن المكان يضيق بقاصديه..
كان الحجاج في الماضي لا يأمنون على أنفسهم من قطاع الطرق.. أما اليوم فإن الحجاج يستمتعون بنعمة الأمن والأمان على انفسهم وأموالهم بفضل ما قامت به المملكة العربية السعودية من إجراءات أمنية صارمة حفظت للمشاعر قدسيتها وهيبتها..
هذه الملايين المحتشدة في وقت واحد وفي مكان واحد.. شكلت عبئاً كبيراً على المملكة، ليس على نطاق الأمن والنظام فحسب، بل على العلماء والفقهاء ومن يتصدون لتوعية الحجاج وارشادهم إلى أمور دينهم.
هذه الملايين تحتاج إلى فقه جديد.. يقوم على حل المشكلات الكثيرة التي انتجها العصر.. بسبب الزحام الشديد في أوقات الذروة عند الطواف أو السعي أو الرجم.. وفي أثناء أداء فرائض الصلاة في المسجد الحرام.. فهناك جهل كبير بآداب السلوك عند أداء النسك.. وهناك أقوام جاؤوا من مناطق نائية، وقد ضعفت صلتهم بالدين وساد فيهم الجهل بأحكامه، وهناك من يلجأ إلى ممارسات تتسم بالعنف والعدوانية، أثناء قيامهم بالطواف أو السير في أماكن الزحام أو في الجمرات، مما يترتب عليه وقوع أحداث جسام، ترتب على المسؤولين تبعات جمة.
لذلك كان لابد من توعية المسلمين وإرشادهم إلى أمور دينهم، والتيسير عليهم، وتسهيل حركتهم، وتعريفهم بآداب السلوك أثناء أداء العبادات، وتقديم النصح لهم حتى لا يرتكبوا الأخطاء المميتة القاتلة في حق أنفسهم وفي حق غيرهم، وهذا يحتاج إلى فقه ميسر، يأخذ بالأخف والأيسر، يقدم المصلحة على المفسدة.
هذا ما أدركه معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ بحسه الإنساني الكبير وبحكم شعوره بالمسؤولية الكبرى التي يحملها تجاه حجاج بيت الله الحرام، فكانت محاضرته القيمة الرائعة والتي حملت عنواناً هاماً يعالج هذه المشكلات وهو «رفع الحرج في الشريعة الإسلامية وتطبيقاته في الحج».
هذه المحاضرة عالجت الجوانب الفقهية التي تتصل بالموضوع بعمق وفهم ودراية وخبرة وموضوعية، وتبيان لقواعد الشريعة الإسلامية، بأسلوب أكاديمي علمي، يتسم باليسر والسهولة، وحسن العرض بيّن فيه معاليه ما يجب على العلماء والفقهاء والدعاة الذين يتصدون لمهمة التوعية في الحج من صفات المرونة وادراك لواقع الحال فيكون همهم هو رفع الحرج عن حجاج بيت الله الحرام، وان يأخذوا بالأدلة المستقاة من الكتاب والسنة، وان يفتوا الناس بالأخف والأيسر لهم، وان يراعوا القواعد الشرعية في ذلك، والتي منها على سبيل المثال «المشقة تجلب التيسير» و«الحرج مرفوع» و«الأمر إذا ضاق اتسع».
كان ذلك في معهد خادم الحرمين الشريفين لأبحاث الحج، حيث كان اللقاء حميمياً بين معالي الوزير والأساتذة والدكاترة والعلماء الذين شاركوا في الحضور.
لقد أوضح معاليه ان الشريعة الإسلامية اشتملت على تحقيق المصالح ودرء المفاسد، بل قامت على ذلك، وعدَّ عدد من علماء الشريعة والمتخصصين بعلم القواعد والأصول والفقه، عدوا أحكام الشريعة جميعاً مبنية على تحقيق المصلحة في الدنيا والآخرة، وعلى درء المفسدة عن العبد أو العباد في الدنيا والآخرة.
ومضى معاليه قائلاً: لهذا سارت القاعدة العظيمة «الشريعة جاءت لتحصيل المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها»، وما قاعدة رفع الحرج على اختلاف استعمالات العلماء لها إلا مثال لما لهذه الشريعة من التيسير العظيم الذي خصت به هذه الأمة.. قال تعالى: «ويضع عنهم اصرهم والأغلال التي كانت عليهم» والنبي صلى الله عليه وسلم ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، والله عز وجل امتن على عباده بأنه وضع عنهم ونفى عن تشريعه الحرج، قال جل وعلا: «ما جعل عليكم في الدين من حرج» وقال جل من قائل: «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم».
ما رأيت تحليلاً فقهياً فيه يسر وسهولة وبساطة أدق ولا أعمق من هذا التحليل الذي اتسمت به المحاضرة.
وما رأيت حرصاً من مسؤول كبير وعالم فقيه على تغليب المصلحة على المفسدة والاشفاق على خلق الله والاحساس بمدى العنت والمشقة التي يعاني منها حجاج بيت الله كما رأيت من معاليه وهو يوجه نصحه للعلماد والدعاة بتطبيق قاعدة «رفع الحرج».
لقد كنت أتوق منذ زمن بعيد إلى تطبيق هذا المنهج الرباني في أثناء أداء مناسك الحج لما كنت أتعرض له ويتعرض له كثير من الناس من المشقة والحرج..
لقد تذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يسروا ولا تعسروا.. وبشروا ولا تنفروا».
وتذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: «الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه».
وتذكرت قول الله عز وجل: «فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا».
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا يغلب عسر يُسرَيْن».
هذا منهج الإسلام العظيم.. اليسر والبساطة والسهولة.. إنه دين الفطرة.. والفطرة شفافية وبساطة ويسر وسهولة..
وما أروع قول الله عز وجل في هذا المجال: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها».
أليس هذا المنهج الرباني الذي نصت عليه الآية: «يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه، وسراجاً منيراً».
وهذا شأن الدعاة إلى الله ان يسيروا على درب نبيهم، وان يهتدوا بهديه، وان يكونوا مبشرين غير منفرين، ميسرين غير معسرين، وان يبسطوا الأمور للناس بمقدار ما وسعت أحكام الشريعة لهم ذلك، فلا يعقدون ولا يتشددون ولا يتفيهقون، بل يرفعون المشقة والعنت عن الناس بسعة صدورهم وعمق فهمهم لأمور الدين.
كم من الضحايا سقطوا صرعى ضربة الشمس، أو سحقتهم الأقدام عند الزحام، بسبب فتوى أفتاها بعض العلماء أصروا فيها على أن يكون الرمي بعد الزوال مباشرة، فكانت النتيجة ان ينفر مليون أو مليونان من الناس في ساعة واحدة، فيضيق بهم المكان، حتى درجة الانفجار، فيسقط العشرات تحت الأقدام تحت تأثير التدافع الشديد واستخدام العنف من بعض الجهلة ممن يريدون الوصول إلى الجمرات قبل غيرهم.
ومازلت أذكر منذ سنوات قليلة كيف تعرضت وزوجتي لموجة عارمة من موجات الجهل وسوء السلوك والأخلاق، فكدنا نسقط تحت الأقدام، لولا تدخل بعض من اشفقوا علينا فأنقذونا من الكارثة.
أليس من واجبنا ان نواجه هذا الخطر الداهم، والتيسير على الناس، فيمتد وقت الرمي إلى الليل وحتى الفجر..؟ وهذا ما يميل إليه عدد من العلماء، بل ان بعضهم أفتى ببدء الرمي بعد الفجر وحتى منتصف الليل كما ورد ذلك عن عطاء وطاووس وغيرهما.
أليس من واجبنا ان ندرك فوارق المناخ من بلد إلى بلد ومن اقليم إلى اقليم، ومن شعب إلى شعب، وان بعض الناس يستطيعون تحمل حرارة الشمس في النهار وفي أوقات الصيف وبعضهم لا يستطيع تحمل ذلك.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».
ودعوة معالي الوزير إلى رفع الحرج، دعوة إلى رحمة الخلق، واستجابة لدواعي العصر، ومشكلاته، وهذا من باب التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه المولى عز وجل: «فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك».
هناك الكثير من الأمور الفقهية التي تحتاج إلى مراجعة، حتى تتلاءم مع هذا التطور الذي تشهده المشاعر في هذا العصر، فيكون هناك فقه للملايين وليس لعشرات الآلاف كما كان الأمر في الماضي، ويكون هناك فقه لعصر الطائرات والسفن الضخمة ووسائل المواصلات الحديثة.. فقه يتصل بالمواقيت في الجو والبر والبحر، وهل يصلح ان نفتي باتخاذ ميقات أهل جدة لمن يصل إلى جدة بالطائرة، قياساً على من يكون ميقاته ميقات أهل المدينة إذا مر بالمدينة، وان يكون ميقاته ميقات أهل الرياض إذا جاء من الرياض وهكذا دواليك؟! شرط ان لا يتعارض ذلك مع ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحديد المواقيت بالنسبة للقادرين عبر هذه المواقيت أو من مر بها من غير أهلها.. طبعاً هذا أمر يحتاج إلى درس وتمحيص ولا نفتي به، ولكن نطرحه على بساط البحث ليس إلا؟!..
نعود فنقول: ان التشدد في أمور يمكن ان يكون فيها تيسير على الناس يؤدي إلى إرهاق الناس وإعناتهم، فلا يجوز ان نحمل الناس فوق ما يطيقون بأي شكل من الأشكال..
«ان المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».
وكم حري بنا ان نأخذ بمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع الحرج عن الناس، ومساعدتهم على تأدية الفريضة بيسر وسهولة ودون تعرض للخطر..
وهذا ما قصد إليه معالي الوزير الشاب في طرحه لموضوع «رفع الحرج».
إنه موضوع الساعة فهل نأخذ به، ونلزم كل من يفد إلى المقدسات لأداء الفريضة بهذا المنهج وإن افتاهم المفتون بغير ذلك؟!..
مفتي جبل لبنان
الشيخ الدكتور/ محمد علي الجوزو

أعلـىالصفحةرجوع













[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved