أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 9th March,2001 العدد:10389الطبعةالاولـي الجمعة 14 ,ذو الحجة 1421

مقـالات

رعاية الحجاج والخدمات المقدمة
د. محمد بن سعد الشويعر
لقد كان الاهتمام بالحجاج، وتسهيل أمورهم: رعاية وخدمة، بين نصبي أعين الملك عبدالعزيز رحمه الله منذ أعانه الله، وسهل له دخول مكة، في لباس الإحرام، عام 1343ه، فقد وجه للعالم الإسلامي نداءً، في أول يوم من شهر شعبان سنة 1343ه، حيث وزع على أوسع نطاق في العالم الإسلامي كله، وتعهدت فيه حكومة ابن سعود بحماية الحجاج، وأن بلاده ستستقبل الحجاج، في هذا العام وتوفر لهم الأمن الذي كان عديماً خلال عشرات السنين.
وقد جاء في ذلك البيان الذي: ألصق على أبواب الفنادق في بلدان المسلمين، وواجهات المحال التجارية، وأبواب المساجد وجدرانها، وفي الطرقات بمختلف اللغات، لأنه موجه إلى كافة المسلمين إخواننا في أقاصي الأرض ودانيها. وقد بدأه بحمد الله والثناء عليه والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.. وتوضيح ما وصلت إليه البلاد المقدسة، وما حرص على توفيره الملك عبدالعزيز من أمن ونظام، حيث عمت السكينة والطمأنينة سائر الأرجاء بصورة لم تعهد من قبل.
وقال: إننا نرحب ونبتهج بقدوم وفود حجاج بيت الله الحرام، من المسلمين كافة، في موسم هذه السنة، ونتكفل بحول الله بتأمين راحتهم، والمحافظة على جميع حقوقهم، وتسهيل أمر سفرهم إلى مكة، من أحد الموانىء التي ينزلون إليها، وهي: رابغ أو الليث أو القنفذة، وقد أحكم فيها النظام، واستتب الأمن استتباباً تاماً، منذ دخلتها جيوشنا، وسنتخذ من التدابير في هذه المراكز، جميع الوسائل التي تكفل تأمين راحة الحجاج إن شاء الله تعالى.
وبعد أن ذكر أحمد عبدالغفور عطار البيان كاملاً، قال: وفرح المسلمون من هذا النداء، وأقبلت بواخرهم إلى ميناء رابغ، فاستقبلهم موظفو الحكومة السعودية بحفاوة وتكريم، وكانت عشرات الألوف من الجمال تنتظرهم لتنقلهم إلى المدينة، ثم إلى مكة المكرمة، ووجدوا في حلهم وترحالهم الأمن والعناية التامة.
وكان مئات منهم ممن سبق لهم الحج، في العهود الماضية، وعجبوا مما شاهدوا.... وكان بين الحجاج علماء ورجال فكر، فقابلوه في «منى» ثم في مكة المكرمة، وتحدثوا إليه، وتحدث إليهم، فغادروا مجالس عبدالعزيز المفتوحة، وهم شديدو الحب والإعجاب، بشخصيته الفذة، ولم يجدوا شيئاً مما سمعوا عنه، مما نشرته الدعايات المضللة، بل وجدوا النقيض، وجدوا حاكماً صالحاً، عادلاً رشيداً متواضعاً، ومسلماً حقاً.
وعندما عرض عليهم معتقده، وجدوه معتقدهم، وعندما كان يذكر في حديثه أو خطبه اسم الرسول الكريم، مسبوقاً بكلمة «سيدنا» ومختوماً بكلمة صلى الله عليه وسلم، أو عليه صلوات الله وسلامه، أدركوا ما قيل عنه، إنما هو حديث مفترى.
ولأول مرة بعد عشرات السنين، يؤدي وفود بيت الله الحرام، فريضة الحج آمنين مطمئنين، ويعودون إلى أوطانهم سالمين غانمين معززين مكرمين بفضل الله عز وجل، ثم بفضل ابن سعود.
هذه مقتطفات من الرعاية والخدمات، التي استقبل بها الملك عبدالعزيز رحمه الله وفود الرحمن، منذ الأيام الأولى لدخول الأماكن المقدسة، ضمن أجزاء البلاد، التي توحدت تحت قيادة الملك عبدالعزيز، أوردناها باختصار من تاريخ العطار، الذي سجل فيه الوقائع، ورصد الأحداث التاريخية، التي حرص عليها عبدالعزيز، وبثها وعوداً للمسلمين في كل مكان وحققها عملاً، في أول موسم حج تم تحت إدارته للأماكن المقدسة، فوجدوا منه صدقاً في القول، وإنجازاً في العمل، واهتماماً بشؤون المسلمين، ورعاية لشؤونهم، منذ وطأت أقدامهم أرض البلاد، حتى غادروها بعد حجهم، وبإدارة حازمة.. )لراغب الزيادة مراجعة صقر الجزيرة للعطار 4:681 877(.
فكان عددهم زائداً من أول فريضة أديت في عهد الملك، وكان كل فرد يبلغ مَنْ وراءه بعدما رجع إلى بلده، بما شاهد وما تمّ..
فكان من فضل الله على هذه البلاد وأهلها، أن جعل الأماكن المقدسة في الإسلام بين ظهرانيهم، وأقدس ذلك وأكمله، بيت الله الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً، الكعبة المشرفة التي هيأها الله في أفضل وأقدم مكان على وجه الأرض.. حيث خصَّ سبحانه هذا المكان بالفضل وبالرحمة.. وبارك فيه، وبمن قصده للعبادة والحج والعمرة، وجعله جل وعلا، بوادٍ غير زرع، لحكمة بالغة، قد تدرك منها: أن يكون بعيداً عن مطامع أعداء دين الله، حتى لا تطؤه أقدامهم، ولا يدنسون قداسته، ولا تشرئب إليه مطامعهم، في فترات ضعف فيها المسلمون، وطمع أعداء الله في ديارهم، وأخذ ما تحت أيديهم.
يقول الله سبحانه: «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً، وهدى للعالمين، فيه آيات بيِّنات مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمناً» )آل عمران الآيتان 96 97(.
وقد جعل الله الكعبة، قبلة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أحياءً وأمواتاً، في صلاتهم يتجهون إليها، في اليوم والليلة خمس مرات، وحين الوفاة شرع للمسلمين أن يوجهوا موتاهم شطر بيت الله الحرام، وفي ذبحهم يوجهون ذبائحهم وأضاحيهم وهديهم، تجاه الكعبة ويذكروا اسم الله عليها.
وقد تأدب الملك عبدالعزيز بآداب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما دخل مكة عام الفتح، وكان حريصاً على المحافظة على أهل مكة، والمجاورين بها، حتى لا ينالهم أذى، ولا يمسّهم جوع لأن المؤنة والأرزاق، توقفت عن طريق جدة. فجاءت الإمدادات التي اهتم بها عبدالعزيز، لأهل مكة، وللحجاج الذين استجابوا وفرحوا بندائه، لما فيه من إراحة للوافدين، وضمان لأدائهم شعائر حجهم براحة وأمن.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة، أذن الله له بإخراج المشركين عند مجاورة بيت الله الحرام، فقال صلى الله عليه وسلم في نداء عام: من دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيته فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، لأن الله سبحانه، حرَّم بيته الحرام، ولم يؤذن في مكة بقتال، الا ساعة من نهار لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم كما جاء في خطبة الوداع ثم عادت حرمتها كما كانت.
وكان مما جاء في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم واعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا».
وقد حرص الملك عبدالعزيز رحمه الله ثم بنوه من بعده، على رعاية هذه الحرمة وحماية الأماكن المقدسة من أن يمسها دنس، وتطهير الحج وأعماله من البدع الدخيلة، والمنكرات التي جاءت مع الجهل، وهذا من أهم الخدمات التي تقدّم للحجاج، إذ هي لهم أمسُّ من التسهيلات في الطرق والمصالح الأخرى.
فرعايتهم في دينهم، وتصحيح ما أدخله أدعياء العلم، وتوزيع العلماء في كل موقف ليفتوا الناس، والدعاة ليرشدوهم لأهم ما يحتاجون إليه، من المصالح التي جناها الحجاج، وحرص عليها تعليماً وإرشاداً الملك عبدالعزيز، واستمر الأمر حتى اليوم، تأصيلاً ومتابعة.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه من بعده، وعلماء وخلفاء الإسلام من بعدهم، قد اهتموا بالحج، بأن يكون من مدرسة يتعلم فيها الحاج أمور دينه ويتفقه في عباداته ومعاملاته.. ودرج الملك على هذا الدرب اقتداءً وعملاً واهتماماً بأمور المسلمين وتنقية للديار المقدسة مما أراد أعداء الله إقحامه فيها تضليلاً.
هذه الحرمة، وتلك القداسة التي جعلها الله لبيته المحرم، والمشاعر المقدسة، التي يمر بها كل حاج، قد حرص عليها الملك عبدالعزيز رعاية ومحافظة، ويجب أن يرعاها كل مسلم، وأن يهتم بها شعوراً وإحساساً وعملاً، ويتعاونوا مع ولاة الأمر في هذه البلاد الذين ساروا على خطى الملك المؤسس، عبدالعزيز، الذين يبذلون من جهدهم وتخطيطهم، مع الإنفاق المالي في شتى المجالات، إصلاحاً وتحسيناً، وطرقاً وأنفاقاً، ومواصلات وإعماراً للمسجدين الشريفين: الحرم المكي والحرم النبوي، إلى غير هذا من أمور في شتى المرافق، حيث تيسرت كل الأمور التي كانت عقبة في السابق أمام الحجاج وتكاثر عددهم.
فالحجاج الذين تقاطروا على مكة المكرمة، ثم المدينة المنورة من أنحاء الدنيا: براً وبحراً وجواً، وجاؤوا من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم، ويذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، جاؤوا وقد خلّفوا وراءهم الأهل والأملاك والديار، ملبّين مسرعين لدعوة إبراهيم الخليل عليه السلام عندما أذن في الناس بالحج، استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، عندما وجدوا القدرة وحسن الاستطاعة على أداء هذا الركن الخامس من أركان الإسلام، الذي رحم الله عباده، عندما فرضه عليهم، وجعله مرة واحدة في العمر: إلزاماً للمستطيع، وتخفيفاً على من لا يستطيع، نفقة أو قدرة، أو غياب عقل أو عدم أمن الطريق، وغير هذا من أمور حددها الفقهاء، والمفسرون لدلالة الاستطاعة.
هؤلاء الحجاج عندما وصلوا البلاد المقدسة، وهذا إحساسهم، منذ كانت الديار متحدة بقيادة عبد العزيز، منذ عام 1343ه، فقد وجدوا صدوراً مفتوحة لاستقبالهم، وألسنة ترحب بمقدمهم، وأعمالاً متتابعة تزيد عاماً بعد عام يسرت لخدمتهم، ورعاية شؤونهم.
يرون هذه الأعمال: طرقاً تعبد، ومواصلات تيسر، وخدمات تهيأ، ومشروعات متتالية، توجد من هنا ومن هناك، يبذل فيها المال الوفير والتخطيط الحسن، والتنظيم والتجديد، مما جعل الأعداد تتضاعف عاماً بعد عام، ومع تضاعفها يزداد العطاء وتتوسع المشروعات المقدمة لهؤلاء الحجاج، الذين يعتبرهم الكل في هذه البلاد، من القيادة إلى القاعدة، إخواناً حلّوا بين أهلهم، وضيوفاً أحسنوا وفادتهم، لأن الهاجس الذي يعتمل في صدروهم: أن هؤلاء الوافدين، جاؤوا للعبادة، في رحاب بيت الله الحرام، هم إخوة في الدين والعقيدة، شرفنا الله بخدمتهم، حيث سخرت الإمكانات لراحتهم، حتى يعود كل فرد منهم لأهله وذويه سالماً غانماً.
ولذا فقد حرص المسؤولون بالمحافظة على الصحة لكل فرد منهم، والعناية بالرعاية لهم، وتيسير ما يعين على ذلك منذ كانت الموارد شحيحة، والبلاد تعاني من شظف العيش، إلى أن يسر الله نعمه الكثيرة على هذه البلاد، وفي الحالين كان ولاة الأمر، يقدمون ما يتعلق بخدمات ضيوف الرحمن، على الأمور الأخرى، ويهتمون بما يريح نفوسهم أثناء تأديتهم مناسكهم، حتى يكفلوا لهم الراحة والاطمئنان، ليتفرغوا لعبادة ربهم التي جاؤوا من أجلها.
لقد غرس الملك عبدالعزيز رحمه الله خصالاً حميدة، ورسخ طباعاً كثيرة، من أجل رعاية حجاج بيت الله الحرام، والمحافظة على سلامتهم، حتي يؤدوا مناسكهم في يسر وسهولة، ومن ثم يعودوا لبلادهم سالمين غانمين، ونمَّى هذا العمل في المحيطين به، حيث حقق أبناؤه أموراً كثيرة، كان قد بدأها أو نادى بها، ثم تزايدت الجهود من كابر بعد كابر حتى أن كل وافد يرى في كل عام أموراً مستجدة، وأعمالاً بارزة ومشروعات جبارة، كلها بذلت من أجل أخ مسلم في أطراف الدنيا جاء ليعبد ربه في بيته العتيق، وليؤدي ركناً فرضه الله عليه.
فيرى ذلك الحاج أعمالاً كثيرة في مجالات متعددة، تتم بهدوء وصمت، وبدون طلب أجر إلا من الله سبحانه، ولا يمارون في ذلك، حيث تتحدث الأعمال عن نفسها، وكأن كل واحد منهم يردد مع موحد هذا الكيان الذي جمع الله به الشمل وأحبه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، لصدقه وإخلاصه هذا البيت، كما قال الريحاني:


نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونعمل «فوق» ما عملوا

فمنذ ما يقرب من ثمانين عاماً والأعمال تكبر، والجهود تتواصل، والقيادة تنظم وتلاحق، بإخلاص وتفانٍ مستمرين، والقاصي يعرف قبل الداني، أن القادة هنا لا يمنُّون بعملهم، وإنما يعتبرون ذلك أمانة تؤدى، ونموذجاً من الوفاء، يقدم، تحية وترحاباً بضيوف الرحمن، الذين يتكرر اللقاء بهم كل عام، بصدور رحبة، ومحبة في إحلالهم ما يستحقون من العناية والرعاية، رغبة فيما عند الله، وشكراً للنعمة ولقدظهرت بفضل الله، بوادر شكر النعمة في هذه البلاد: فدفع عنها البلاء في مواطن عديدة، وصرف عنها بفضله وكرمه كثيراً من الشرور التي تقع على البشر بما كسبت أيديهم، عندما لم يراعوا حق الله، أو لم يستجيبوا لشريعته.. والله سبحانه يقول: «إن الله يدافع عن الذين آمنوا» )الحج 38(، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما تنصرون بضعفائكم».
وهذه البلاد من نعم الله عليها وعلى أهلها، وبتوجيه من ولاة الأمور: ترعى الضعيف، وتؤوي العاجز، وتشبع الجائع، وتؤمن الخائف، وترعى حق الجوار، وتعلِّم الجاهل، وتحافظ على العهود، وغير ذلك من أعمال خيِّرة، تنمى وتكبر مكانتها، وأهم ذلك الحرص على تطبيق شرع الله، وإقامة الحدود التي أمر بها أن تقام.
وهذه الأعمال جزء من الترحيب بضيوف الديار المقدسة، ممن جاء للحج أوالعمرة، أو ممن ضاقت به الأرض بما رحبت، تقدم لهم تقرباً إلى الله، ورجاء قبوله وإحسانه، وعليهم أن يرعوا حق هذه الكرامة بالأدب، وحسن السلوك، والسمعة الحسنة.
لقد نقل خيرالدين الزركلي، عن الملك عبدالعزيز ما يدلّ على الصدق والإخلاص في العمل، والدعوة نرى أثرها الآن ماثلاً للعيان، لأنها دعوة خرجت من قبل رجل يعى ما يقول، ويؤكده بثبات ذلك في قلبه. يقول الزركلي: لقدرؤي الملك، وهو يدعو بقلبه الخاشع في الثلث الأخير من الليل، وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: يا رب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر وهو يعني به الملك فيه خير للإسلام والمسلمين مني ومن ذريتي، فيسِّره لي وأعنِّي عليه، وإن كنت تعلم أن فيه شراً مني أو من ذريتي فاصرفه عنا واصرفنا عنه واجعل الخير لصالح الإسلام والمسلمين، هذا هو معنى ذلك، ولكن نصه كما قال الزركلي: أخبرني أحد ضباط القصر الملكي قال: رأيت الملك عبدالعزيز في الهزيع الأخير من الليل، عند صلاة الفجر،يتمسك بأستار الكعبة، ويدعو قائلاً: اللهم إن كان في هذا الملك خير لي وللمسلمين فأبقه لي ولأولادي، وإن كان فيه شر لي وللمسلمين، فانزعه مني ومن أولادي.
فقد أجاب الله دعوته واستمر في ذريته، وتباروا في الأعمال النافعة للإسلام والمسلمين في الداخل والخارج.
عند النجاشي:
جاء في الروض الأنف للسهيلي: أن عمرو بن العاص قال: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق، جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي، ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون والله إني أرى محمداً يعلوا أمره، وإني قد رأيت أمراً فما ترون فيه؟.
قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي، فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا الخير، قالوا: إن هذا لرأي. قلت فاجمعوا لنا ما نهديه للنجاشي، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم أي الجلود .
فجمعنا له أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده، إذ جاءه عمرو بن أمية الضُّمْري وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه، ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمر بن أمية، لو قد دخلت على النجاشي، فسألته إياه، فأعطاني إياه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك، رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد.
قال: فدخلت عليه، فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي، أهديت إليَّ من بلادك شيئاً؟ قلت: نعم أيها الملك، قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قرَّبته إليه، فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك، وهو رسول رجل عدٍّو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.
قال عمرو: فغضب، ثم مدّ يده فضرب بها أنفه، ضربة ظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها، فرقاً منه، ثم قلت له: أيها الملك، والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه.
قال النجاشي: أتسألني أن أعطيك رسول رجل، يأتيه الناموس الأكبر، الذي كان يأتي موسى لتقتله؟
قلت: أيها الملك، أكذلك هو؟؟!.
قال: ويحك يا عمرو، أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن َّعلى من خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: افتبايعني له على الإسلام؟. قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ثم خرجت إلى أصحابي وقد حال أي تغير رأيي على ما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي.
ثم خرجت عامداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت خالد بن الوليد، وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة فقلت إلى أين يا أبا سليمان؟. قال: والله لقد استقام الميسم، وإن الرجل لنبيٍّ، اذهب والله فأسلم فحتى متى؟. قلت: والله ما جئت إلا لأسلم.
فقدمنا المدينة، على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقدم خالد بن الوليد، فأسلم وبايع، ثم دنوت فقلت: يا رسول الله، إني أبايعك على أن يغفر لي، ما تقدم من ذنبي، ولا أذكر ما تأخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمرو.. بايع فإن الإسلام يجبُّ ما كان قبله، وإن الهجرة تجبُّ ما كان قبلها، فبايعته ثم انصرفت )2:112(.

أعلـىالصفحةرجوع














[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved