أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 13th March,2001 العدد:10393الطبعةالاولـي الثلاثاء 18 ,ذو الحجة 1421

الثقافية

قصة حلم مؤجل
وفاء العمير
جاء «أبو سعد» من بعيد يرقص من خلفه شعاع الشمس الباهت، كان يسير موازياً لقامة الحزن في أعماقه، يميل رأسه إلى الأمام ويكاد أن يسقط بالجزء الأمامي من جسده إلى الأرض، هكذا اعتاد ولوج الطرقات، وهكذا كان يقترب من أجساد الشيوخ المركونين على قارعة الطريق بانتظار شيء ما قد يحدث!..
مساكم الله بالخير.
مساك الله بالسرور، الله يحييك، تفضل اجلس.
ويدني منه الصوت المحتفي كرسياً من الحديد أكلت أطرافه شمس حارقة، بحبور الشيخ الذي أرهقته سنواته عبوراً فوق جسده الترابي المتغضن يقول:
يا أبا سعد، إلى أين وصلت أسعار الأراضي؟!
يهيىء «أبو سعد» نفسه للحديث فيمسح شعر لحيته البنيّة الخشنة ويشخص ببصره إلى السماء وكأنه يتذكر كلاماً كان قد كتبه في الليلة الماضية ويحاول الآن استعادته.
الأراضي يا أبا صالح تزداد أسعارها ارتفاعاً مع مرور الوقت، وصل المتر الواحد في المناطق غير التجارية إلى مائتي ريال!
يتبع حديثه هذا بتنهيدة محترقة تطفح بالمرارة والندم، كان يحلم دائماً بامتلاك قطعة أرض يقيم عليها منزلاً فخماً مجهزاً بأثاث فخم غير أنه كان يؤجل حلمه هذا على أمل أن تنخفض أسعار الأراضي،.. كانت السنوات تمر وجسده يزداد تقوساً، أولاده يكبرون فوق قامة أحلامه الضامرة وكلماتهم التي تتردد في رأسه، تحفر في جوفه ألم الأب العاجز أمام تحقيق طموحات أبنائه، ووجه زوجته المحزون الذي ينفر منه الصبر ويتسلق طوابق تردده بإلحاح يهز أغصان جموده ليتحرك، لكنه ثابت كجذور الأشجار الممتدة في أعماق الأرض..
طيب والمناطق التجارية إلى أين وصلت بها الأسعار؟!!
كان أبو صالح يتحدث بلسان من يمتلك بيتاً عامراً بالرفاهية وبزوجة تهبه كل يوم دعاء محبباً يسلمه إلى الشعور بالارتياح والثقة، وكان يدرك أن هذا الحديث ينتزع أبا سعد من صمته الثقيل غالباً ويخرجه من شرود عينيه الضيقتين اللتين تشيخان برحيلهما الدائم خلف تتبع أسعار الأراضي والبيوت الحديثة المهيأة لمن يملك مالاً طافحاً من جيوب أصحابه!
يحب أبو سعد اجترار مثل هذا الحديث كمن يسرق الحلم من صندوق الآمال العريضة في أعماقه ليراها أمامه وقد تشكلت بنياناً من الوهم. كأنه بذلك يمنح نفسه المتحسرة عذراً مقبولاً لعدم أخذ زوجته وأبنائه وعوده المتكررة لهم بامتلاك فيلا واسعة في القريب العاجل على محمل الجد!
قد لا تصدق إذا قلت لك إن أسعارها الآن قد وصلت إلى الأربعمائة والخمسمائة ريال للمتر الواحد!!
أطلق أبو صالح من فمه العريض ذي الشفتين الغليظتين صوتاً كالصفير مختلطاً بالضحكات المرحة، وتحرك قليلاً فوق كرسيه وهو يضع العكاز بين ساقيه ويلمّ رأس العكاز بيده ويسند ذقنه الملتحي فوقها.
إذن لن يكون بإمكانك اقتناء أرض أو فيلا ولا بعد مضي عشرين سنة!
كمن تكسرت فجأة في داخله آنية أحلامه الفضية، رمق أبا صالح بنظرة أرعبته!
نهض واقفاً وكان المساء يقبل نحوهما حاملاً معه صوت أذان المغرب، رمى أبو سعد صوته العتيق فوق هامة أبي صالح المزينة بالغترة البيضاء والعقال الأسود الجديد قائلاً:
كله بأمر الله، هيّا إلى الصلاة.
دخل الجسدان يحملان سنواتهما السبعين في ظلام المساء.. تتقاطع أحلامهما السبعينية، وأصواتهما الخريفية تمضي مع امتداد الطريق.

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved