أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 16th March,2001 العدد:10396الطبعةالاولـي الجمعة 21 ,ذو الحجة 1421

شرفات

شخصيات قلقة
تشايكوفسكي «1840 - 1893 م »
موسيقار حزين ونشيد للسعادة
دائما يُنظر الى تشايكوفسكي كمؤلف موسيقي على أنه تشاؤمي مبالغ في التشاؤم.. وانه مريض نفسيا يدعو الى الكآبة والتخلف العاطفي في ألحانه.. والحقيقة ان أزمة تشايكوفسكي الانسان لا تنفصل عن أزمته كفنان .. فالعزلة والاضطراب النفسي والفقر هي العوامل التي شكلت وجدان هذا الفنان وجعلت ألحانه ثائرة، حزينة، مضطربة..فهو يعتصر المستمع في قبضته ويعتصره في ذروة الانفعال ثم يتركه منهكا، مسترخي الأعصاب.. ومتفلسفا مع الحياة .. خاصة فيما يتعلق بالموت والعدم!ينطبق على حياة بيتر إيليش تشايكوفسكي القول المأثور «أكرموا عزيز قول ذل» فهو كان ابنا مدللا لأب يعمل مفتشاً بمناجم المدينة، وهي وظيفة مرموقة أتاحت للأب ان يوفر لطفله الصغير مربية فرنسية، ورغم ان تشايكوفسكي كان خالياً من العناصر الوراثية التي تنبئ عن موهبته الموسيقية إلا أنه بدأ منذ السابعة تقريبا في تعلم العزف على آلة البيانو، واستمر في تلقي دروس الموسيقى على نحو منتظم بالتوازي مع دراسته للقانون التي أهلته لأن يصبح كاتبا من الدرجة الأولى بوزارة العدل 1859م.
وكأن ثمة خيطاً يجذبه لكي يعيش حياته موظفا وابن موظف في خدمة روسيا القيصرية!! لكن تشايكوفسكي لم يبال بالمجد الوظيفي وآثر ان ينفلت بعيدا بحثا عن الأنغام، او ان يحيا في عزلة مختارة مجتهداً في تأليف بعض الأغاني والرقصات الموسيقية البسيطة. كانت الموسيقى تأخذ كل وقته وفكره وكيانه بغض النظر عن كونه قد تجاوز العشرين دون ان يحقق اي نجاح يُذكر . ولأنه ليس ناجحاً كموسيقي وليس ناجحاً كموظف .. ولأنه ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، قرر تشايكوفسكي ان يكتب ورقة طلاق أبدية مع الوظيفة رغم ما تدره من دخل منتظم يحميه من مخاطر الحياة.
الآن يواجه حياته الجديدة كموسيقي محترف لم ينجح بعد .. او لنقل «فاشل» ! لم يكن في هذا ما يصدمه انما الصدمة الموجعة والمباغتة تمثلت في موت أمه أعز انسان على قلبه بوباء الكوليرا .. ليس هذا فحسب، بل ان دائرة الأحزان استحكمت بان فقد الأب ثروته ولم يعد قادراً على تقديم اي معونة لابنه الشاب، باستثناء ان يقيم مجانا في المنزل!!
كان تشايكوفسكي يشعر بانه يقف عاريا بلا سند في مواجهة حياة مجهولة، لا يلتمع في ظلمائها بريق أمل، ولا يملك إلا أن يرفع شعار الكفاح ويحصر طاقته في الدراسة والتأليف واعطاء دروس في الموسيقى، وكان يردد بينه وبين نفسه: «لا بد أن أكون موسيقياً مجيداً، وقادراً على كسب القوت اليومي». ورغم هذه الآلام على شاب في العشرينيات من العمر الا انه تخرج من الكونسرفتوار عام 1865 والطريف ان اللحن النهائي الذي قدمه للجنة كان بعنوان «نشيد السعادة»!.من لحظة التخرج من الكونسرفتوار بدأ تشايكوفسكي حياته العملية التي اختارها لنفسه، فعمل مدرساً لمادة الهارموني رغم ضعف الأجر، وبدأ في التأليف الموسيقي على نحو جاد، حيث عرضت أعماله في عدة حفلات متفرقة دون ان تسفر عن نجاح حقيقي . وفي خاتمة المطاف غادر صاحب لحن «نشيد السعادة» مدينة بطرسبورج متوجهاً الى موسكو بحثاً عن حظ أوفر.
وفي موسكو كتب تشايكوفسكي عددا من الأعمال الكبيرة منها سيمفونيته الأولى «أحلام الشتاء» ويتضح من عناوين مقطوعاته هذا الحس الرومانسي الجارف والعواطف الفياضة . كما يتضح من يومياته التي يسجل بها ملامح حياته اليومية انه كان يعاني من اضطرابات عصبية او أزمات نفسية عنيفة.. وربما تضاعف ألمه النفسي من جراء الهجوم العنيف على موسيقاه من قبل النقاد، الذين وصفوا مؤلفاته بأنها ضعيفة في بنائها الموسيقي. كما هاجمه النقاد لأنه لا يعبر عن الروح القومية الروسية وبالتالي تم اسقاط اسمه من الخمسة الكبار الممثلين للموسيقى القومية ومن أبرزهم رمسكي كورساكوف.
الحقيقة ان تشايكوفسكي وان لم يتزعم المدرسة القومية في الموسيقى الروسية الا انه كان يحب وطنه بطريقته الانفعالية المضطربة.. حب بلا شعارات وبلا أهداف مباشرة.. فهو لا يختار لحنا شعبيا لابراز قوميته بقدر ما يختاره لأنه يحبه ولأن التعبير الجمالي لديه يفوق اية اهداف اخرى. وهذا لا ينفي تأثره واستفادته من الخمسة الكبار وخاصة كورساكوف وبالاكييف.
وفي عام 1868 تعرف تشايكوفسكي على السوبرانو البلجيكية «ديزيريه آرتو» التي كانت تكبره بخمس سنوات وتعد من أشهر مغنيات الاوبرا في عصره.. ورغم انها أبدت الإعجاب به وتقربت اليه دون غيره من المعجبين الا انه تعامل معها بخجل وحياء شديدين، وفي نهاية الأمر تعلل بأنه يخشى على حياته الموسيقية من الزواج، كما انه لا يريد ان يكون زوج الشهيرة.. فهي مغنية أوبرا شهيرة وهو موسيقي مبتدئ.
مرة اخرى يعكف تشايكوفسكي على عالمه الذاتي والمحدود .. الموسيقى ولا شيء سوى الموسيقى، الى ان اصيب في شتاء عام 1875 باكتئاب شديد وانهيار عصبي اضطر معه للسفر الى فرنسا للعلاج. وهناك زادت أوهامه النفسية وكتب يقول: ان النهاية اوشكت لا محالة! ولا يمكن ان تستمر الحياة بي أكثر من ذلك. لم يمنعه هذا التشاؤم من ان يستغل وجوده في فرنسا ويقوم بجولة في مدن اوروبا يستمع الى موسيقى فاجنر في بايرويت ويقدم موسيقاه في فيينا .. وفي خاتمة المطاف كانت محصلة التجربة لا تزيد عن «صفر» كبير وتشاؤم أكبر.. ففي فيينا موطن الموسيقى الأشهر في العالم وقف جمهورها الكلاسيكي يصفر استخفافا بموسيقاه الرائعة «روميو وجوليت».
بعد هذا العمر، ورغم انه يقترب من الأربعين ، لم ينجح تشايكوفسكي في اي شيء.. ما زال كما يقولون على خط البداية مضطربا ومنهكا. ثم تأتي حماقته الكبرى في صيف عام 1877 حين يتزوج فجأة وبمجازفة غريبة متعللا بأنه يريد ان يعالج نفسه مما يعانيه من الأمراض النفسية والعصبية، لكنه هرب من زوجته بعد تسعة أسابيع فقط.. هرب في حالة من الرعب والهلع الى ان وصل الى مدينة بطرسبورج في حالة يرثى لها من التمزق العصبي، ثم سرعان ما أصيب بحمى شوكية أصابت مخه وعرضت حياته للخطر.
كأن الأم والحبيبة والزوجة كانت دائما مصدرا لتعاسته واضطرابه النفسي، الأم ماتت بوباء الكوليرا وتركته فجأة للوحدة والحبيبة التي تكبره بخمس سنوات لم يكن ناضجا معها بما يكفي والزوجة التي ارتبط بها بغتة لم يشعر تجاهها بأي ذرة حب . كأنه يكتب الشقاء على نفسه ثم يبحث عن نشيد السعادة في موسيقاه الجارفة، او في هروبه الى الريف والهدوء في منزل أخته الكسندرا التي كانت عواطفه مرتبطة بها وبأبنائها.
ويأتي التحول الحاسم في حياة تشايكوفسكي حين تعرف على السيدة ناديا فون ميك من خلال المراسلة.. ورغم انهما لم يلتقيا أبدا الا انها اصبحت أمه الروحية وملهمته وأقرب الناس اليها .. كانت تلك السيدة النبيلة أشبه بأسطورة مختفية عن عينيه وكانت تدرك أبعاد مأساته.، ورقة حاله، فبادرت بشراء مؤلفاته نظير أجور كبيرة كوسيلة مهذبة لمساعدته ثم اتفقت على ان تمنحه مبلغا سنويا يكفي للتفرغ للموسيقى والتنزه. كما ساهمت في علاجه في بعض المستشفيات والمصحات وارتبطت معه في قصص تصل الى حد الخيال دون ان تراه أبدا. واستمرت هذه العلاقة الحميمة والداعمة الى ان غدا تشايكوفسكي مؤلفا مرموقا تباع أعماله بمبالغ كبيرة، وتبتسم له الحياة من جديد ليتحول في لمسة سحرية الى انسان آخر كريم وسخي مع الآخرين.. محب للورود وللحياة وللموسيقى.. ينفق المال بسهولة غريبة لدرجة انه كان يعيّن جميع الموسيقيين في موسكو بلا استثناء حتى لا يترك بينهم جائعا واحدا.وبلغ ذروة المجد من خلال جولاته الناجحة في اوروبا، ومن خلال تلقيه عرضا نادرا لقيادة مجموعة من الحفلات في ست مدن امريكية رئيسية، وهو عرض لم يحظ به اي موسيقي روسي من قبل.. وفي ذروة هذا النجاح يأتيه خطاب مشؤوم من أمه الروحية «ناديافون ميك» تخبره بأسلوب جاف انها على وشك الافلاس وانها لن تواصل ارسال مكافأته السنوية وكانت آخر كلماتها «لا تنس! وفكر فيّ كلما سنحت الفرصة ». كان هذا الخطاب كارثة .. فالشيء الوحيد الذي يسعده تخلى عنه فجأة لينقلب مرة اخرى الى اضطراباته النفسية واحساسه بالنقص والعجز الذي ينهش في نفسه وعقله .. ويبدأ كالموتور في عزف لحنه الأخير ، وهو حائر.. هل يسميه سيمفونية الدموع ام السيمفونية المأثورة.. كان يبحث في تلك السيمفونية عن أغنية وداع لصداقة أسطورية .. عن لحن جنائزي يليق بحياته .. وكتب لأحد أصدقائه قائلا:
«كان النجاح كاملا، لم أتمن اكثر من ذلك .. ولكني مع ذلك أشعر بالكآبة تغمرني، ولا أحس بغير الحزن والمرارة».
ومع اعداده لمرثية الذات ينهش وباء الكوليرا قلب المدينة ويستسلم هذا الفنان البائس لهذا الخطر دون ان يأخذ الاحتياطات المعروفة، متخليا عن حياته في رعونة وخفة أدت لاصابته بالمرض القاتل الذي أصاب أمه الحبيبة من قبل. ويعلق أخوه مودست قائلا: «ان سر معاناة أخي وآلامه يكمن في رد الفعل الذي يشعر به عند الحصول على نجاح وشهرة» حتما كان يشعر بالحزن والكآبة!
شريف صالح

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved