أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 17th March,2001 العدد:10397الطبعةالاولـي السبت 22 ,ذو الحجة 1421

مقـالات

العربي بشرطه!!
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري عفا الله عنه
إن في جماهير العالم الأقوا من مظاهر التخلف الاجتماعي ما يعز نظيره في مجتمعات الشعوب المغلوبة؛ فكم في مواخير العالم الأقوا من زرافات الهيبية، وعصابات اللصوصية والجرائم والوحشية.. وكم في معابدهم وهم فريقا أهل الكتاب من مظاهر الفضول والدروشة والتعاويذ والغباإ وظاهرة الانتحار والقلق والتوتر.. وكل ذالك علا قلة العنصر الصالح، والحيف علا الفطرة.
وفي المقابل أمتنا العربية الإسلامية لا تزال بخير في مواهبها ومهاراتها وأخلاقها ونظرها. إلاَّ أن فقدان المعمل والمختبر وعمال المناجم والمداخن ظاهرة عجز بسبب الضغوط التاريخية والقيادية المعذورة تارة، والفاسدة والمأجورة تارة ، وليست ظاهرة تخلف لا في الموهبة ولا في الاستعداد ولا في العقيدة ولا في التدين.. والكريم الذي تقسو ظروفه لا يوصف في أي لغة بأنه متخلف، وإنما يوصف بأنه عزيز قوم ذل.
إن ما ينقص الشعوب النامية إنما هو إرادة، وقدرة، وابتهال إلا الخالق، ثم إهابة بالمخلوق ليضم صوته.. وما أبعد دعوا التخلف والرجعية عن أمة تهتدي بهدي خالق الحقيقة والموهبة والمهارة.. إن هاذا العجز لا يعني الانهزام في المجال الآخر الذي تعمل فيه موهبته، ولا يعني اليأس من كسر حاجز العجز أو التعجيز، فالبلد الذي يصنع لنا السيارة بمهارته ليس من الضروري أن يصنع لنا أفكارنا في لغتنا وشريعتنا وإدارتنا.. إلخ، لأن موهبتنا تقدر علا ما لا يقدر عليه في هاذا المجال، وإن وثقنا بقدرته فلا نثق بأمانته، فلنأخذ بالميزة ولا نلتزم بالمجمل!.
إن الخواجي يحصر موهبة الإبداع العربي في خيال مربوط بمشاهدتهم الحسية، ويزعم أن البدايات الخيالية الرائعة عندهم مستوردة من الأمم المجاورة، وأن الجمال عندهم جمال قوة لا رقة.. وهاذا واقع أمة فطرية علا قدرها بالشرط الإسلامي الذي أخرجها من الأمية، وفجَّر طاقاتها التي كانت في عهود الأمية وجوداً بالقوة.
وهم يردون شجاعتنا إلا السبعية والهمجية وتعطيل سيادة القانون، ويردون صبرنا وكفاحنا إِلاْ صراع الحيوانات، لتعيش كفافاً.. نطلب بُلْغة اليوم ولا نخطط للمستقبل.
والكفاح الصحيح بالأناة الفكرية، وبذل التجربات لفهم الكون والإحاطة بقوانينه وتفسير ظاهراته.. وكل هاذا واقع صحيح، لأن قوميتنا العربية مشروطة بدينها منذ بعث محمد صلاَّ الله عليه وسلم، وبتاريخا الذي أنتجته التربية المحمدية.
إن لسان حال عشرات من المستشرقين تكلم عن العروبة المعتبرة منذ كانت ذات حضارة وتاريخ ورقعة شاسعة يقول: إن دين المسلمين لا يصدُّ عن العلم الذي بوأنا السيادة علا هاذه المعمورة، بل كان يحث عليه.. ولو نشأ العلم الحديث في بلاد المسلمين لما حصلت الجفوة بين علماإ الكون والعلماإ بالدين.. إن الكنيسة تحارب العلم، وتنصب محام التفتيش؛ فاقتحمنا حجز الكنيسة، وأبقينا طقوسها في روحانية خاوية.
لقد حَلَّ العربي في دولة أوروبية كالأندلس فتبجح بين الخضرة والنضرة والنوافير والهندسة المعمارية والتشكيلات الزخرفية، ولكنه لم ير بذالك بأساً، لأن مصمم النافورة والزخرفة.. إلخ ابن عمه، فإن ساعده علا ذالك خواجي فلن يقلق، لأن الغريب بينهم أديب.
ووقا الله عثرة القوم بوعي سياسي بينهم؛ فلم يعرف تاريخ العرب عربياً بينهم كان جاسوساً أو عميلاً أو متربصاً أو مهادناً، وكان هاألاإ الصيد يقولون عن المصلي والمجلي: أقل معارفه الأدب.. فإن كان أديباً محضاً رحموا موهبته، وتظرفوا به، وقالوا: أدركته حرفة الأدب.. مع أن أديباً محضاً مفلساً كابن حجاج وابن سكرة في قاذوراتهما، أو كأبي نواس وصريع الغواني في لهوهما: يُعَدُّ من العلماإ الفحول بميزان عرف العصر الحديث بين مستورين أصبحوا طليعة في الصحافة.
ثم دب فينا الوهن من معتزلي يُكِّذب ربه جهاراً، وعابد لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يلعن خيار الأمة جهاراً، ومتصوف يقضي وقته في الخلوة والمكيِّفات المحرمة ويتخذ الرقص عبادة، وآخر يعبد القبور ويتمسح بها.. وهاكذا كان ضعف المسلمين حجة علا الإسلام عند أعداإ أمتنا ومصيرنا.. ونسي هاألاإ أن الإسلام في مصادره الصحيحة لا يستهلك الأمة في العلم التام به، والتفرغ له، فالمطلوب من القلة أن يكونوا علماأ عاملين يتفرغون للإفتاإ للناس، والمطلوب من الكثرة أن يكونوا عاملين بدينهم متفرغين لشأون حياتهم، وقد نهينا أن ننسا نصيبنا من الحياة الدنيا، وأمرنا بالتدبر والتفكر والسعي في مناكب الأرض، وتحقيق القوة للأمة، وقال رسول الله صلاّ الله عليه وسلم: أنتم أعلم بشأون دنياكم.. وقال صلاَّ الله عليه وسلم: وفي بضع أحدكم صدقة. وعلا هاذا فالمسلم العامي الجندي الذي يرابط في الثغور لبنة في بناإ حياة الأمة، ولكن رباطه له من الأجر عند الله ما لا يعلمه إلا الله.. ونسي هاألاإ أن الأخذ بالدين. أو التجرد عنه لا ينافي بناأ الحياة الدنيوية القوية؛ فهذا ماو تسي تونج أقام أعظم دولة بتعليماته الحمراإ الخارجة عن كل دين، وهاألاإ اليهود الملاعين ذوو دين رباني حرفوه وبدلوه وهم أشد الناس تمسكاً بدينهم المحرف، وأسرع أهل الملل إِلاْ التأويلات المستحدثة لتوراتهم وتلمودهم، ولا يشك في عبقريتهم واختراعاتهم إلا مكابر للعيان، مدافع للبرهان.. ولاكن الفارق أن المسلم المتمسك بدينه الآخذ بأسباب العلم والقوة مضمون له النصر بمدد إلاهي، وأسباب لا يملكها.. ومن كذب فليسأل التاريخ في الماضي. وليجرب في المستقبل.
والفارق الآخر أن المسلم العالم بأمور الدنيا يرجو من الله ما لا يرجوه الملحد العالم بأمور الدنيا.. نعم إن الإسلام يعترض عليك أن تستهلك عمرك في علم لا يضر ولا ينفع، والإسلام ينهاك عن بعض الملذات التي تميل إليها بطبعك كالفجور والقمار والمكيفات، وييسر لك من المتعة واللذة طرقاً شريفة لا يدعم البرهان غيرها.. ولاكن الإسلام لم يمنعك من ممارسة الأسباب التي تملك بها علماً مغيباً عنك.. لقد أعطانا ربنا من الأسباب العلمية ما نصل به إلا مغيبات لا حصر لها ولا عدد، ولاكن ذالك لغاية محددة أذن بها؛ لأن لله غيباً لا يُطلع عليه أحداً. كما أنه وظف علمنا اكتشافاً واختراعاً لمبادإ الحق والخير والجمال.. ومهما كان تباهي العلم الحديث وأسبابه فلن يتعدًّا قدرة الله الكونية وإذنه الكوني؛ لأن علمه الكوني وأسبابه ما زال ولن يزال محجوباً عن غيوب كثيرة لم يأذن الله باكتشافها، ولم يجعل إلا أسباب البشر اكتشافها.. إن الإسلام لا يعترض عليك أن تكون طبيباً، أو طياراً، أو راصداً.
ومن ظروف العرب السيِّأة التي بددت موهبتهم وعبقريتهم: أن طلائع التجديد في بلادنا لم تكن رائدة في العلوم التطبيقية والتجريبية، وإنما كانوا )مؤمنهم، وملحدهم( رواداً في الأمور النظرية: في الفلسفة، والتاريخ، ونقد الأديان أو الدفاع عنها، والقانون، والاجتماعيات، والأدب، والنقد، والفن!!.. والذين كانت دراستهم علمية تطبيقية كانت ريادتهم نظرية مكتوبة، وفي العالم العربي أحمد زكي صاحب مجلة العربي، والفندي، وطوقان، وغيرهم خير أنموذج لذالك، والسبب أن بلاد العرب لا توظف أبناأها العلماأ في مجال تخصصهم، لأن بلادهم غير مهيأة لذالك!.
ورواد العلوم النظرية في بلادنا كانت دراستهم أجنبية.. أخذوا في دراستهم المرحلية في بلادهم مسحات طفيفة من الدين الإسلامي، وحطوا رحالهم في بلاد أجنبية متطلعين إِلاْ المعارف النظرية الأجنبية بعطش، واثقين من أنفسهم علا أنهم أحاطوا علماً بتراثهم، ثم يدرسون عن تراثهم خارج بلادهم النواحي السلبية. . يدرسون الشبه حول عدالة الإسلام، وسير سلفه الصالح، ولا يُنصُّ أمامهم من براهين المسلمين إلا أضعفها، ثم يثيرون حولها المغالطة والتمويه.. والذي يأخذ السلبية نقداً ويترك الإيجابية نسيأة: فالمعتاد أنه لا يدرك الصواب ويفضح المغالطة إلا بعد نضوب معينه، وشيخوخة ملكاته، وتعطل إنتاجه. هاذا إن أراد الله له حسن خاتمة، وهاكذا كانت هاذه الظاهرة في التاريخ في حياة علماإ المسلمين منذ معالي الدين الجويني.. إِلاْ طاها حسين، وإِلاْ أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فإذا رجع العلماأُ من البلاد الأجنبية جندوا صحافتهم وكتبهم ومنتدياتهم في نقد دينهم وسلفهم وتراثهم، ثم ينشبون في صراع مع أبناإ بلدهم المحافظين الغيورين.. وهاكذا تذهب ريح المسلمين، ولا تنس بعد هاذا أن أساتذة الكراسي في البلاد الأجنبية: إما ملاحدة، وإما صهاينة، وإما شعوبيون، وإما صليبيون.. وأكثرهم من المستشرقين المنصِّرين، وليس في هاألاإ الأساتذة مسلم واحد أو عربي واحد بالمعنا الحقيقي للانتماإ العربي؛ ولهاذا شجع هاألاإ الأساتذة الأجانبُ علا الدراسة في الفرق الإسلامية، لأن ذالك من الحرص علا نشر الإسلام!.. وقالوا: الفرق الإسلامية أمة واحدة، ويجب المقاربة بينها بالروح الرياضية، فالمسلم السلفي يجب ان ينهزم هزيمة روحية، فيقبل الأوشاب في دينه!!.. قالوا هاذا وهم يعلمون أنه غير ممكن، وما دام غير ممكن فمعنا ذالك أن يشتد النزاع بين المسلمين.. ولقد أحيوا بخبثهم جمع التراث للفرق الناكبة.. هاذه قصة العبقرية والموهبة في حياتنا، وهاذه قصة الظروف السَّيِّأة الي حرفت موهبتنا عن مجالها.
إن في تراثنا ما هو موهبة من الله لم يكن من اكتشافنا وأسبابنا، ولاكنه عطية من الله الذي خلق الحقيقة، وخلق أسباب اكتشافها.. أعني بذالك عقيدة الإسلام وشريعة الإسلام الثابتتين بما لا احتمال في دلالته وثبوته، فهاذه حقائق نهائية جاهزة مطلقة نُأْمِن بصدقها بدون نظر، لا نقارن بها علماً حديثاً أو قديماً ولا رأياً جماعياً أو فردياً، ولانزن علماً ولا رأياً إلا بها، لأن خبر خالق الحقيقة وخالق أسباب اكتشافها: ليس كظنون من يطرح التجارب في سبيل اكتشاف الحقيقة!.. ونحن لم نقبل الجدل في عقيدتنا وشريعتنا تفصيلاً، لأن وسيلتنا في المعرفة هي التي دلَّتنا علا وجود الله وربوبيته وألوهيته وكماله وصدق وعصمة شرعه، فإذا كان هاذا هو إيماننا بكل وسائل معرفتنا بهاذه الأمور جملة فمالنا والنظر في صدقها تفصيلاً؟!!.. إذن إذا تصادم إيمان العقل جملة مع إيمانه في التفصيل: تناقض العقل وتاه، والتناقض محال يموت جهد العقل دونه، وهاذه هي فكرة الإيمان لا تزال في وجدان كثير من رجال العلم الحديث في الأمم القوية والكافرة بالله.. وبحمد الله لم يناقض نظريات العلم الحديث النهائية أي نص شرعي من النصوص الكونية القليلة المجملة، وبحمد الله لم يكن مفكرو العلم الحديث أسعد بالبرهان في الأمور النظرية والعملية غير التطبيقية البحتة التي صادمت نصوص الإسلام الكثيرة المفصلة!.. وقوانينهم التي وافقت الإسلام كانت تختال بالحجج والبراهين.
وأما قوانينهم ونظرياتهم التي خالفت الإسلام فقد ظهر برهان بطلانها من واقع المجتمعات البشرية.
وفي أمتنا عبقرياً كابن تيمية من لا يقارن به عبقري كنيوتن.. إلا أن عبقرية ابن تيمية ظلت نظرية، وعبقرية نيوتن تحول إِلاْ ثمرة دنيوية لا يستغني عنها أكثر علوم المادة المحسوسة.. وهاذا يعني أن العبقرية العربية فذة شامخة، ولكنها مجندة لأمور الآخرة، وأمور الحياة النظرية كالأدب والفنون.. والأمور التطبيقية البحتة وقفوا عندها إِلاْ حد النظرية العلمية وحسب.. وهاذا دليل علا الارستقراطية العربية المدللة، والغطرسة العربية البغيضة. أرادوا أن يكونوا أمراأَ ورؤسا وتجاراً وشرطاً يأمرون وينهون، ولم تسمح أنفسهم باستنشاق دخان المصانع.. إن المداخن والمناجم ليست من عمل هاذا العرق الطاهر!.. ولهاذا السبب كان العرب أميين في بدايتهم.
والمستشرقون لم يمجدوا تراثنا، ويُعنوا بنشره في الأعم والأغلب إلا ليصدونا عن المنجزات الحديثة، ويدربونها علا منهج : )كان أبي!!..( .. ونحن لا نمجد تراثنا وموهبتنا منخدعين بحيلة المستشرقين هاذه، وإنما نقول: يجب أن نفرغ قلة تفهم تراثنا، وتستكمل كل جوانبه النظرية من منجزات العلم الحديث.. ولاكن يجب مع هاذا أن يُفرَّغ العدد الأكبر إِلاْ خوض الحياة العلمية العملية التطبيقية البحتة؛ لأنه الجانب الذي ينقص تراثنا.
وفي تراثنا أصول ثابتة لا متغيرة؛ فعلينا في تحركنا العملي ان نلتزم بها، لأننا لا نفرط فيها إلا بعلوم نظرية لا تنتهي إلاَّ إِلاْ الاستمرار في النظرية!.. ولسنا نحس بجوع إِلاْ النظريات، ولسنا نحس بفراغ في العقيدة والتصور، وإنما حاجتنا إِلاْ أمور دنيوية عملية.. إن العربي غير مغبون في موهبته ومهارته وجلده وصبره، ولاكنه مُآخذ علا ترفه في حقب القهقرا، وذالك يعني التشمير، ولاكن عكس ذالك هو واقعنا اليوم، لأننا السوق الرابحة لمن يستهلكنا بالمتعة؛ لأن العربي اليوم يركب المركب الوثير الفاره المكيَّف.. لا يعرف شيأً اسمه ميلان الحمل، ولا يعرف الحفا والوجا والمنقاش، ولا المورد الآسن، ولا يستنير بالجدي وسهيل وبنات نعش إن تاهت به الموالج، فهاذه حضارته المستعارة.. ولا تقل: إن ذالك المركب من صنع بني الأصفر وليس من صنع بني قيس عيلان.. بل قل: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين» )سورة الزخرف/13(.. وعربي اليوم لا يعرف في دربه غولاً ولا سَعْلاة، لأن ليله كنهاره... وعربي اليوم مستمتع غاية المتعة بكل ما عملته أيديهم، لابس ما لم ينسج، متفكهٌ بما لم يغرس، متمنطق بما لم يقترح. وجسم العربي اليوم الرقيق المترف، وعمره المحدود، وعزيمته الناحلة.. كل ذالك وَسِع مباذل الدنيا ومباهجها ومتعها، ولاكن الدنيا كلها لم تسع غروره واستعلاأه.. أليست هاذه حضارته الآن؟!.. ربما كانت حضارة؛ لأن الذي ينطق بلغة مُأنَّثة ممالة مخارجها أرق من عامي في منحاته لا يتكلم إلاْ بحوشي ملحون، والذي يجر ثوبه إَِلاْ بطن خفه أمتع من متورع يرفع الإسبال ويرا أن ما تحت العقب في النار، ويقول مع ابن عمر رضي الله عنهما :)فإنه أنقا لثوبك وأتقا لربك(.. إن )يوري قاقارين( لو عاش اليوم بدمامة )نفطوية( ورثاثته لقيل: إنه رجل غير حضاري، أو درويش، أو متخلف.. وإن من يسافر إلى بلدة نائية ) ولنفترض أن وسيلته مطية من البزل القناعيس( ليس مطلوباً منه إذا ضحَّا أو عشَّا أن ينصب له خيمة، ويستجلب الوصائف والجواري والعطور، ليسمع طرباً، ويشم عبيراً، ويلتمس مهب الشمال ليستروح، ويضع نوافير لا يستمتع بها بمقدار ما يضعها، ثم هاكذا يفعل في كل ثنيَّة.. إنما عليه أن يختلس اللحظة إن عجز عن المواصلة ليشرب ماأً آسناً، وحسبه لقيمات يقمن صلبه إِلاْ أن يقطع الرحلة، ويقر قراره؛ فيستمتع كيف شاأ.. والعربي اليوم لم يصنع شيأً يستمتع به هو في رحلته الشاقة للتصنيع، فعليه ان يتعب إِلاْ أن يرتاح؛ فالاستمتاع مع الفراغ، والاستمتاع للترويح.. ولا ترويح بدون عمل.
إن العربي اليوم يتزيا بزي الأقوياإ وهو ضعيف، وذالك هو الزبد الحضاري، ولهاذا أقول لأصحاب الخطاب الحداثي: إنكم ولو بلغتكم الخواجية عرب حضاريون بزي استعرتموه في سلوككم.. أما مجال عمل الموهبة الموجودة بالقوة فمعطّل.. إن الخواجات اكتشفوا محيطات وقارات الكرة الأرضية.. ثم دخلوا عصر الاكتشاف الثاني منذ أطلق الرواد مركبتهم الفضائية أبولو )11(.. وأبناأ يشجب بن يعرب في عصر الاكتشاف الثالث.. اكتشفوا الشعر العمودي، ثم الشعر الحر، ثم حر الحر بلا وزن ولا قافية ولا لغة.. ولم ينل أحد من بني سبإ بن يشجب جائزة عالمية كجائزة نوبل للعلوم في بحث علمي حسي.. أما في النظريات فقد نال ميشيل عفلق وسام )البابا(، و)سعيد عقل( أحرا الناس بأعظم جائزة لِلَتْنَنَة اللغة.. وفي ميدان الإعداد العلمي قال الباحث الفلسطيني )وصفي حجاب( : إن في العالم )1500( مجلة علمية من بينها مجلة واحدة فقط للكيمياإ تصدر في مصر، وفي ميدان المهن العلمية لم يُعقد أي مؤتمر علمي في أي عاصمة عربية، وفي ميدان الحضارة الخلقية أخشا أن يحلّ يوم لا يوجد فيه بين الشباب: من يميط الأذا عن طريق، ويبدأ السلام، ويرده، ويعود المريض، ويشيع الميت، ويهدي الضال، ويستضيف الوافد، ويحفظ غيبة الصديق والجار.
ودول الخواجات حققت إعجازاً في حضارة القرن العشرين من خلال اكتشافها وصناعتها الدقيقة والثقيلة؛ فهل يعني هاذا: أن أي مفكر خواجي ولا سيما في الأمور النظرية يفرض علينا رأيه وحكمه لأجل أن دولته عظيمة؟.. أي هل يجب أن يكون المفكر من أفرادهم حجة علا أحكامنا، غلاً لأفكارنا؟.
قال أبو عبدالرحمان: ليس كل ذي أنامل ماهرة في صنع آلة معقدة أعظم عبقرية من ثعلب من ثعالب الدبلوماسية وهو لا يحسن صنع إبرة، بل قد لا يسمو إِلاْ عبقرية ابن تيمية وكل فكره نظري أو عملي؛ والسر في ذالك أن العلم التجريبي علم نظري في بدايته.. ارتاده علماأُ نظريون قلة، ثم اكتشفت لهاذا العلم النظري ظاهرة تجريبية.. ولم يبق إلا تطبيق هاذا العلم بيد آلاف العمال الذين قد لا يكونون عباقرة في أفكارهم، وإنما أكسبتهم الحرفة والممارسة مهارة في تطبيق نظريات العلم، ومن كثرة الممارسة والمهارة يكثر الإنتاج ويجود.. وقد يكون الإنتاج لتَّسلية، أو القوة، أو الكفاف، وبهاذا تكتسب الدولة في جملتها صفة المهارة والقوة والغزارة لا صفة العبقرية.. إن العبقرية في حقيقتها ذكاأٌ فطري، وجهد فكري نظري، والعرب اليوم إن لم يكونوا من الدول المتخلفة في القوة والمهارة فهم من الدول النامية.. ولكن لو جمع المفكرون من الخواجات: لما تخلف عنهم كماً وكيفاً عباقرة من العرب كان علمهم فكراً نظرياً.. إن لنا في أصول الفقه علا سبيل المثال عظمة لا تقل عبقرية وجبروتاً فكرياً عن مجهود عالم غربي في علم نظري بات علماً مادياً بحتاً.. إنه ليس كل من يصنع الطائرة اليوم يعدُّ مخترعاً لها، وإنما هو مطبق لنظريات سبقت وجوده.. والدولة تكتسب عبقريتها من أفرادها، فإن عقمت من العباقرة اعتبرنا مهارتها وقوتها مجرد حرفة تمارسها لريادة سبقتها.. وتخلُّف الفتا العربي في لحظتنا الراهنة إنما تحويل لمجال نشاطه، وليس تخلفاً في وعيه وعبقريته وقدرته ومهارته.. وقد يكون هاذا التحوير مفروضاً عليه: إما من دول العالم، وإما من دولته، وإما من مجتمعه، وإما من شعور بالنقص أورثه الزهادة في قدرته، إذن فليس رأي الخواجي إنجيلاً لم تعرفه المجامع، وقد لا يبلغ الصواب فيه.. ودعك من القول بعصمته.. إنه علا المحك وإن كانت دولته عُظما.. ولابد للفتا العربي اليوم من أن يعرف موضع قدمه.
والأستاذ عبدالله القصيمي أراد تحريك العربي بتحطيمه في كتابه )العرب ظاهرة صوتية(. إِلاْ أن المنهج الذي اتخذه صالح بأسلوب المغالطة لأي أمة حضارية، لأنه أخذ من الزوايا والعتمات شواذ السلوك لمن ينتسب إَِلاْ العرب، وعمم الجزئي المحتَمل علا الكلي غير المحتمل كما فعل شيوعي اصطنع هاذا المنهج، فألَّف مجلدين عن خديجة رائدة الاشتراكية؟!.. كما أنه تجاهل معايير النقد التاريخي التوثيقية، وبالغ في استمداد الشواهد المسرفة المختلق أكثرها من حياة هارون الرشيد.. وأسوأ ما في كتابه محاكمته لكلام رب السموات والأرض إذ يقول:«كنتم خير أمة أخرجت للناس» )سورة آل عمران/110(.
وأما مفاخر أمثال ابن كلثوم : )ملأن البر حتَّا ضاق عنا(: فذالك ظاهرة صوتية حقيقية.. إِلاْ أن العروبة التي نعتد بها، ونرجِّح بها الميزان: ما كانت بشرطها الإسلامي الذي تمم مكارمها، وهذب رذائلها.. وبالشرط التاريخي الذي جعلها ذات دول وعواصم.. وبالشرط الحضاري الذي رفعها ببركة الإسلام من الأمية إِلاْ الكتاب المدون، والعلم المحرر، والفكر المنظم، والجمع بين الذكاإ والزكاإ في الاصطفاإ من المأثور الإنساني، وابتكار المأثور العربي.
وأما الشعرة في مفرق أبي الطيب فتلك عنجهية شاعر علا هامش النحل، مستهلك بالمدائح بالنوال والدعوة الباطنية.
قال أبو عبدالرحمن: ولا أنكر أن في أعلامنا التاريخية كثرة القاصرين في تفكيرهم، ومن ذوي التزمت أيضاً.. وأن في مأثورنا كثرة من الكذب والخرافات سببه بعض المسلمين القاصرين عن رتبة الاجتهاد، فتفسير الثعلبي تفسير رجل مسلم يدعي العلم، ويُحسب في عداد علماإ المسلمين، ولاكن فيه من الهذر والجهل والخرافة والكهانة ما يصلح للتمويه والثلب لتراث المسلمين.. هاذا نموذج من عشرات النماذج، ولاكن إدلالنا بديننا الصحيح، وقوامة العربي الجبارة في امتثاله، وعظمة أصول التوثيق والدلالة في معارفنا، مما جعل أمتنا أسبق إِلاْ فضح الكذب والخرافة وتمييزهما من كل خواجي ومتفرنج يستأنف هاذا النقد مدعياً الأسبقية، معمماً علا تراثنا كلَّ الزوايا التي سلط عليها المجهر أكابر رموزنا التاريخية.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved