أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 20th March,2001 العدد:10400الطبعةالاولـي الثلاثاء 25 ,ذو الحجة 1421

مقـالات

البنيوية والتعددية النصية قراءة نصوصية 2/2
د. حسن بن فهد الهويمل
1/2 وكإجراء تجريبي ومحاولة أولية، شرعت في قراءة حديث في صحيح البخاري رحمه الله قراءة نصوصية مركزا على اختلاف الروايات وتعدد النص، ومايترتب على ذلك من تكثيف دلالي أو ملمح جمالي. وأملي أن يبادر المقتدرون والمتخصصون لممارسة دراسية مماثلة، لتجلية إيجابيات هذا التعدد. وكم أتمنى لو أن أقسام النقد الأدبي في جامعاتنا وجهت طلبة الدراسات العليا، ومعدي بحوث الترقية لدراسة الحديث النبوي لغويا وأسلوبيا ونحويا وصرفيا وتحرير المتغير الدلالي بتغير النص مع وضع قيمة لمشروعية الرواية بالمعنى مما يجعل النص مرتبطا بالراوي، والمعنى مرتبطا بالرسول صلى الله عليه وسلم، والعلماء الذين يقفون على نكارة لفظية وسند صحيح يعولون على هذه المشروعية، ومن ثم يتحرجون من رد الحديث، ومباشرة الدراسة النصوصية ستكشف لهم أشياء كثيرة، ولعل مما اكتشفته الدراسات السلفية للنص مصطلح )الإدراج( وله أهميته في التشريع، وكذلك في واحدية الحدث وتعدد الأحوال، وبخاصة ما يتعلق بالأحاديث التي تضمنت معطيات الإسراء والمعراج، وهي إشكالية لم يتوصلوا فيها إلى نقطة اتفاق. والعلماء الأوائل تنازعتهم مهمات كثيرة، والمشتغلون منهم بالنص وقفوا عند الشرح واستنباط الأحكام، والأقل منهم من عول على جماليات النص وملامح العدول.
وأنا في هذه المحاولة التجريبية أخذت في هذا المنحى التطبيقي حديثا واحدا، وهو الدعاء الذي خص به الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه ت 68 ه. وهي محاولة ينقهصا الجد والتخصص. قال البخاري في صحيحه: حدثنا عبدالله بن محمد قال: حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا ورقاء، عن عبدالله بن يزيد عن ابن عباس: ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء، فوضعت له وضوءاً، قال: "من وضع هذا" فأخبر، فقال: )اللهم فقهه في الدين(.
في هذا الحديث تتبدى لنا عدة ملاحظات:
الملاحظة الأولى: أن الحديث لم يكن من باب التكرار بحيث لا يتغير رواته ولا تتغير صيغه، ولا تتعدد مناسباته، وقد وهم المختصرون للصحيح فأسقطوا التكرار، وما علموا ان هناك مناسبات متعددة، وكلمات متعددة ورواة متعددين.
الملاحظة الثانية: ان بعض الأبواب التي عقدها البخاري لم تستدع النص، وإنما تولدت منه، بحيث ان صيغ الرواية حملت البخاري على توليد العناوين.
الملاحظة الثالثة: ان الدعاء جاء في الصحيح وفي غيره على خمس صيغ:
الصيغة الأولى: «اللهم علمه الكتاب».
الصيغة الثانية: «اللهم فقهه في الدين».
الصيغة الثالثة: «اللهم علمه الحكمة».
الصيغة الرابعة: في غير الصحيح بزيادة «وعلمه التأويل».
الصيغة الخامسة: في مسلم «اللهم فقهه» دون تحديد.
الملاحظة الرابعة: صياغة بعض العناونين من ذات النص، ففي كتاب ) العلم( الباب السابع عشر، عنون البخاري بذات النص ) باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : «اللهم علمه الكتاب»، وفي كتاب )الوضوء( الباب العاشر )باب وضع الماء عند الخلاء( وفي كتاب )فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم( الباب الرابع عشر )باب ذكر ابن عباس رضي الله عنه( ، وفي كتاب )الاعتصام بالكتاب والسنة(، جاء في ذات الكتاب، ولم يأت في الأبواب.
الملاحظة الخامسة: دقة الملاحظة عند البخاري وبعد المناط، بحيث يصعب في بعض الأحوال الربط بين النص والعنوان، ويشبه البخاري في استنباط الكتب والأبواب ما ذهب إليه شارح كتاب التوحيد للمصلح محمد بن عبدالوهاب وذلك بقوله : )فيه مسائل( فقد لا تستطيع إرجاع المسألة الى النص، مثلما أنك قد لا تستطيع الربط بين النص والعنوان عند البخاري، ولست أدري عما إذا كان أحد من الدارسين حدد سبق الحديث للأبواب والعناوين عند البخاري أم أنه وضع تصوره واستدعى ما يلائمها من الأحاديث المتوفرة على شرطه.
والحديث المشار إليه ورد في صحيح البخاري أربع مرات، لا في صيغ مختلفة وإنما باجتزاء أو بتوسع أو بروايات مختلفة. والبخاري رحمه الله في صحيحه انتقائي تبويبي، فهو وإن كان صحيحه محسوبا على كتب الصحاح في الحديث الى جانب المسانيد والسنن، إلا أنه إرهاص لكتب الفقه، وانتقائية أنتجت المستدرك، فهو لم يتقصَ الصحيح، وإنما اشترط ألا يكون في كتابه إلا الصحيح، وشرط الصحة لا يعني استيفاء مدخولها، والدليل على ذلك انه في )الأدب المفرد( و )التاريخ( الكبير والصغير لم يشترط الصحة، ومن ثم كثر الضعيف في كتابيه، وقد تعقب الدارسون براعة البخاري في التبويب والتقاط الدلالة العنوانية من معنى المعنى أو الدلالة الأعمق، وذلك مؤشر تفقه في الدين، فهو يلتقط النص أو يلتقط من النص ما يلائم الكتاب أو الباب الذي ينشئه، وقد لا يكون ذلك من باب التكرار، إذ يختلف الرواة وتتعدد السياقات، وتتغير الأسباب والمناسبات. فالأحاديث الأربعة وإن جاءت بصيغ ثلاث إنما جاءت بسبب واحد في رواية الصحيح، وجاءت لأسباب أخرى في غيره، والسبب ما فعله ابن عباس حين دخل الرسول صلى الله عليه وسلم )الخلاء( لقضاء الحاجة، حيث بادر ابن عباس بوضع الماء. قال ابن عباس : ) ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل الخلاء فوضعت له وضوءا(.
ومن ثم فهناك علاقة بين )الفعل( و )الدعاء( و )السن(. فالفعل مبادرة ذكية من ابن عباس على الرغم من صغر سنه، إذ كان )الاستجمار( يغني عن الماء، وآية حب الله للمتطهرين ربما حفزت ابن عباس على المبادرة بالماء، والدعاء مرتبط بدوافع الفعل، فالرسول صلى الله عليه وسلم لمح في ابن عباس ذكاء فاق غيره، إذ بادر الى وضع الماء للاستنجاء به عقب الاستجمار، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك هذا الاستعداد الفطري المبكر عند ابن عباس فقد سأل الله له: علم الكتاب، وعلم الحكمة، وفقه الدين، وعلم التأويل، وهنا ملامح دلالية: فالعلم شيء، والفقه شيء آخر. والكتاب شيء، والحكمة شيء، والدين شيء، والتأويل شيء. ومن تعقب مستويات النص الدلالية تتبدى لنا خمس مفردات لكل واحدة مغزاها:
فالكتاب: القرآن.
والحكمة: الحديث من قول أو فعل أو إقرار على الأصح.
وقد قيل ان الحكمة القرآن أيضا، ولا أرى ذلك، إن لم يكن هناك نص صارف.
والفقه: الاستحضار والاستنباط والفهم.
والدين: هو جماع المعطى النصي من الكتاب والسنة.
والعلم: المعرفة والحفظ.
والتأويل: توجيه للنص لا من خلال المدلول المباشر، أو هو توقع الحدث الموعود به قال تعالى: )فإذا جاء تأويله(.
ومن ثم فإن الدعاء ربما جاء بصيغ مختلفة من الرسول صلى الله عليه وسلم، أو جاء بصيغ مختلفة من الرواة، ومكمن التساؤل: هل من عموم وخصوص يربط بين تلك المفردات: )التعليم، التفقيه، الكتاب، الحكمة، التأويل، الدين( لقد أومأ ابن حجر الى احتمال الرواية بالمعنى، ولا أرى ذلك. فهل قال الرسول صلى الله عليه وسلم : )اللهم علمه الكتاب، اللهم علمه الحكمة اللهم فقهه في الدين( في موقف واحد، أو أنه قال واحدة من تلك، وعبر الرواة بما هو قريب من دعائه؟ هنا إشكالية نصية لا يجوز التخلص منها بالقطع أو بالتوقف. والبخاري جزأ الدعاء وفق متطلبات )الكتب، والأبواب( ومسلم على غير عادته ساق رواية واحدة. والأمر عند غياب النص القطعي الدلالة والثبوت خاضع للتخمين، ولا أستبعد ان يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال ذلك كله في موقف واحد، أو في مواقف متعددة، عندما يرى ابن عباس، أو عندما يقدم له ابن عباس خدمة، ومما هوملفت للنظر إعجاب الرسول صلى الله عليه وسلم بابن عباس، حيث ضمه إليه: أي احتضنه، وذلك فعل حركي دافعه: )الحب، والإعجاب، والفرح(.
الحب لابن عباس بسبب قربه منه.
والإعجاب به لفقهه المقاصد الإسلامية مع صغر سنه.
والفرح بنبوغ شاب سيكون له شأن في استنباط الأحكام، وتشقيق النصوص، وتوليد الدلالات.
والسؤال الوارد: لماذا لم يدع الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بطول العمر، أو بكثرة الأولاد، أو المال، أو بالشهادة في سبيل الله، وقد فعل مثل ذلك مع غيره؟ أحسب ان الرسول صلى الله عليه وسلم أدرك ان الاستعداد الفطري عند ابن عباس استعداد فقهي استنباطي تأملي استيعابي، ومن ثم أراد له تهيئة الأجواء المناسبة لهذا الاستعداد. وهو التعليم والتفقه، وعلم التأويل.
ومن روائع المعطى النصي الترابط الأعمق بين العلم والكتاب والسنة من جهة والفقه والدين والتأويل من جهة أخرى.
فالفقه لا يأتي إلا بعد العلم، والعلم بالنص طريق التفقه فيه، ولأن هناك نصين:
نص الكتاب، ونص السنة تختلف فيهما مصدرية النص وتتحد مصدرية المعنى كان لابد من تعدد آليات التلقي ونظريات المعرفة. والله حين أمر نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بذكر ما يتلى في بيوتهن جعله نوعين ) آيات الله( و )الحكمة( فتكون )الحكمة( على هذا الأساس قول الرسول وفعله وإقراره. )وآيات الله( القرآن، ومن تنوع المستويات الذهنية وتعددها عند نسائه يكون التقصي.. ولأهمية النص في مصدريه فقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بعلمهما، وبذلك ضرب لمذهب القرآنيين الذين يعولون على النص القراني في التشريع ولا يعملون بالسنة ولأن مصدرية الدين نصية ثنائية تعني الجمع بين نصين. أحدهما: وحي بالنص وهو القرآن. والآخر: وحي بالمعنى وهو الحديث، فلقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بالتفقه في الدين. وهنا يكون أمامنا أربعة نصوص: نص بالوحي وهو القرآن الكريم، ونص تمثيلي استيحائي استنباطي وهو الحديث النبوي، ونص رديف للوحي بالنص وهو التفسير، ونص رديف للوحي بالمعنى، وهو شرح الحديث. ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يشمل النصوص الأربعة. إذ جاء دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بعلم الكتاب، وعلم الحكمة، وفقه الدين وعلم التأويل. وما الدين إلا ممارسة فعلية بعد التلقي والفهم للنصين. على ان ابن حجر نظر الى العلم لا على أساس استقرار المعلوم في الذهن، وإنما تجاوز به الى الفقه والتأويل. وهو رأي ينشىء ترادفا بين العلم والفقه، وقد تعضده آية النفور للتفقه والإندار بعد الرجوع، ولن ندخل في الفوارق الدقيقة. ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس مؤشر على خطورة نظرية: التلقي والمعرفة والتأويل. وما أضل الناس وحرَّف الكلم عن مواضعه إلا اختلاف التلقي، ولهذا توسع الدارسون في استكناه )نظرية المعرفة( عند المذاهب والأشخاص، مثل )نظرية المعرفة عند ابن تيمية( أو )نظرية المعرفة عند الصوفية(، ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس تعني عصمة التلقي، وعصمة النص لا تستدعي بالضرورة عصمة التلقي والخطورة في التلقي.
ولو عندنا لتقصي دلالات )التأويل( لوجدناها تعني:
تفسير الرؤيا المنامية، وتلك من معجزات يوسف عليه السلام.
ذكر الأسباب والدوافع للأفعال المستنكرة عقلا، وذلك في قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام.
المآل والرجوع لمن يلتزم بالعدل والقسطاس.
تحقق الوعيد وظهور الغيبيات الموعود بها.
وقد تطلق ويراد بها التفسير والشرح.
ومن ثم لا يقف التأويل على )المدلول( الوضعي، وإنما يمتد الى تحققه في الواقع، وهو المقصور بقوله : ) وما يعلم تأويله إلا الله( وقد يكون برد المتشابه الى المحكم، الشيء الأهم: متى نعرف؟ وكيف نعرف؟ ان نص الحديث هو لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لقد أومأ بعض الأصوليين الى مؤشرات: كالمتواتر باللفظ، والمشهور باللفظ، والقدسي، ولكنهم لم يقفوا على حقائق حاسمة، والقراءة النصوصية تكشف المؤشرات، وتقترب من معرفة الرواية بالنص والرواية بالمعنى، وتمكن القارئ عند التعددية من تحديد مصدرية اللفظ، وسلفنا الصالح كانت لهم منهجيتهم المتميزة في قراءة الحديث النبوي الشريف، وكان نقدهم واعيا ومستكملا للآلية المؤدية الى نتائج علمية، لقد وضعوا قواعد لنقد الحديث في سنده ومتنه، هذه القواعد هي التي أفرزت مصطلح الحديث، ولعل المتخصصين على علم وثيق بمقدمة ابن الصلاح وهو من مشاهير علماء الحديث في القرن السابع.
ورغبتنا في التوسع والتجديد والإضافة في منهجية النقد والدرس لا يعني التفكير في تغيير ما توصل إليه العلماء من أحكام على الأحاديث، ولايعني التغيير في شروط الصحة ومؤشرات الضعف، ولا يعني كذلك الانصياع للمدرسة العقلية التي ردت الأحاديث الصحيحة كحديث ) الذباب( و )إلعاق اليد( وإنما يعني أن نعي هذه القواعد، وان نعيد قراءة الأحاديث على ضوئها لاكتشاف أبعاد دلالية تستجيب للنوازل التي تجتاح الأمة الإسلامية. ومن المؤسف ان نقدة المنهج يتصورون اقتصار العلماء على تتبع السند، وفاتهم ان العلماء لم يقفوا حيث يكون رجال السند، وإنما امتدت نظرتهم الى المتن، ومن ثم تحسسوا المتن، ونظروا في )المجازفات( و )مخالفة الحس( و )سماجة المعنى( و )ركاكة الأسلوب( و )المناقضة لصريح السنة والقرآن(. وقد تناول أطرافا من ذلك الشافعي رحمه الله في رسالته، وابن القيم في مناره المنيف، والمعلمي في )أنواره الكاشفة( وغيرهم كابن أبي حاتم والخطيب في الكفاية، ومثلما خبص )جولد تسيهر( في أمر القراءات، فقد كان تخبيصه اكثر في مجال الحديث، وذلك في كتابه )العقيدة والشريعة(، وإذ ينفذ نقدة المتن الى الحديث من خلال متنه فإن عقبات كثيرة تعترض سبيلهم تلك هي جواز رواية الحديث بالمعنى، وذلك يحد من قضية الإعجاز البياني للحديث النبوي، وما أحد من العلماء قال بالإعجاز البياني في الحديث، ولكنهم أدركوا في كلام النبوة الجمع والمنع وجوامع الكلم.
تلك محاولة لا أزعم أنها أتت بجديد، ولكنها تذكير وإغراء لمن يملكون القدرة والتخصص، ولا بأس من الاستعانة بما جد من آليات ومناهج لتقريب النص التشريعي واكتشاف دلالات جديدة.

أعلـىالصفحةرجوع





















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved