أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 29th March,2001 العدد:10409الطبعةالاولـي الخميس 4 ,محرم 1422

الثقافية

قصة قصيرة
ريح عاصفة
لميس منصور
وضح جليا على قسمات وجهه الذي لوحته الشمس التعب والارهاق.. قضى الايام الفائتة يضرب الشارع ويمسح الارصفة باقدامه.
يبتسم مرغماً بوجه هذا.. ويكشر غاضباً بوجه ذاك.
لم تستوعب انفعالاته ردهات المبنى الكبير الذي استقبل طلبه ليعين باحدى الوظائف التي لا ترقى الى طموحه!!
قبلها على مضض.. شعر بغصة.. كاد أن يتعثر.. ولكن لا مناص، وظيفة افضل من لا شيء.. وافضل من الركون الى صمت العاطلين.. وشلل المتسكعين!!
واصل سيره عبر ازقة وشوارع الحي الذي يقطنه واخذ يجول ببصره المكان وكأنه يكتشفه لاول مرة.. بعين متفحصة تارة وبعين من يريد أن يودع المكان ولن يعود له مرة اخرى!
وقف عند بائع )السوبيا( تأمل وجه )العم حمزة( ذاك العجوز الحجازي الذي ترتسم على ملامحه طيبة وسماحة اهل طيبة الطيبة. ثلاثون عاماً وهو يقف بهذا المحل يبيع هذا المشروب الذي يفضله ابناء )طيبة( ولكي لا يستغرب وقفته امام محله ابتاع منه ومضى في طريقه.
ورفع يده لا ارادياً ملوحاً يحيي بائع )الفول والطعمية( الذي اعتاد مصافحة وجهه كل صباح.. وظل بمداعبته وروحه المرحة يرسم فراشات ملونة فوق الشفاه ويبدل العبوس بابتسام والنفور الى الفة.. والتجهم الى مرح وانطلاق..
وهو يردد )العمر يمر.. والدنيا ممر.. والآخرة مقر.. ولن نأخذ الا العمل الطيب(.
واثناء سيره سمع الصوت المحبب الى نفسه ينادي )يغمش منتو.. فينكم انتو( تلك الجملة التي دائما يرددها )العم علي( الذي اشتهر بين ابناء الحي بجودة محله وتميزه.. حتى اصبح مقصد ابناء الاحياء الاخرى.. واسماً معروفاً بينهم!
لم يقاوم اغراءات أكلته المفضلة فخرج من المحل محملاً بالاكياس.. كأنه يعبئ للايام القادمة!! شعر بالانتشاء وهو يجد ابخرة الاطعمة الحجازية وعبق الورد والنعناع والعطرة والدوش واللمام.. تداعب انفه.
وبعد ان اعياه المسير.. قادته قدماه الى الشارع الذي يقطن به منزله.. رفع رأسه الى اعلى.. رأى المشربيات بلونها الاخضر الذي يزهو بالجمال والبهاء.
من ثقوبها تتنفس البيوت الهواء النقي.. نقاء قلوبهم.. وصفاء نفوسهم..
فتح الباب.. تخطى العتبات بكل بطء.. وقف عند المدخل وقد بدأ عليه الذهول.. ونظرات حائرة.. وسط دهشة عائلته.. الذين تساءلوا عن سبب تأخره وسر هذه الاكياس التي يحملها!!
رد بقوله وهو يركز نظره على الباب الخارجي وكأنه ينتظر قدوم من لا يريد لقاءه : انها أثيرية الاشياء والاماكن عندما تهم بتوديعها ولن يتاح لك الحصول عليها او العودة اليها مرة اخرى!!
تبادل من حوله نظرات الاستغراب والتعجب.. وتركهم تترنح عقولهم حائرة!
اغلق عليه باب غرفته ووقف بين حقائب السفر وهو يعد نفسه لمغادرة مدينته التي لم يغادرها منذ ان ابصر وجه الحياة.. وعانقت ابتسامته اشعتها.
حدث نفسه )لماذا يقتلعوني من منبتي.. وانا النبتة التي لا تعيش الا بموطنها.. لا تحتمل جذوري ريح الغربة.. والبعد عن بيئتي!!
غادر الى تلك المدينة.. ليبدأ الحياة العملية.. ويواجه عوده الطري رياح الحياة المتغيرة.. وقسوة البعد.. ووجوها لم يألفها!
وطئت قدمه ارضاً لم تعتدها.. جفل من كل شيء، لم يكن جسوراً.. تنقصه الجرأة.. والمبادرة في كل شيء.. منطو على نفسه لم يكيف طباعه مع زملاء العمل واهل تلك المدينة.
مازال أسير ذكرياته.. ذكرى المكان.. والرفاق .. والاهل!!
واجه اولى العقبات حينما جد بحثه عن مسكن يأويه ويجد راحته فيه.. عندما يعود من عمله الشاق.
كان يقابل بالرفض حينما يعلمون انه اعزب.. رفضته الاحياء والدور القريبة من مقر عمله! حاول ان يتحايل على هذا.. ويثير شفقة ذاك حتى قبل احدهم ان يؤجره احدى الشقق الصغيرة وطلب منه الا يعلم سكان العمارة بانه اعزب.. وان يكون حريصاً حتى لا يكتشفوه، وطلب مبلغا كبيرا مستغلاً حاجته للسكن، وافق مجبراً كما وافق على اشياء اخرى ليسير مركب الحياة، حتى لو كان ذلك خارج نطاق قناعته وارادته!!
اثناء عودته من عمله.. تقسو عليه ساعات النهار.. وهو يقف طويلاً تحرقه معاناة الترقب وقد صلبته على ناصية الشارع.. يراقب مدخل العمارة ليتأكد من خلو الطريق من المارة وعدم وجود داخل او خارج اليها!!
وتمتد اليه يد المعاناة فتخنقه وهو قابع بين جدران خرساء لا يزور ولا يزار.. وعندما يهم بالخروج يتسلل وكأن هناك عيوناً تترصده.. وانفاساً لاهثة تلاحقه!!
ردد: لن ابقى على هذه الحال طويلاً.. غداً ابحث عن مكان آخر.. تنام فيه عيون الراحة.. وتطمئن نفسي هانئة.. لن اترك الغربة.. والبعد عن الاهل والخوف هاجساً يقلقني!
استسلم للنوم بعد ان اطمأن للقرار الذي عزم عليه.
استيقظ من نومه مرتبكاً فزعاً على صوت جرس الباب المتواصل والهز العنيف الذي كاد يحطمه!
جرى مسرعا فاتحاً الباب.. مالبث حتى رجع الى الخلف حتى كاد يتعثر باحد الكراسي.
وقف امامه خمسة من الرجال ارتسم الغضب والاستياء على وجوههم.. كادوا يبطشوا به وقد انتشروا بانحاء شقته الصغيرة وهم يلقون باشيائه على الارض.. وسط ذهوله وعدم فهمه لما يجري.. رافعاً يديه مستفسراً عما يحدث ومؤكدا انه لم يعمل اي شيء، وليس له صلة بأي احد ولا يستقبل اي زائر!!
صرخ به احدهم.. ليكون لديك علم.. الليلة آخر ليلة لك هنا.. ابحث لك عن مكان آخر.. أخذ يستجمع شجاعته وهو يشيح بوجهه بالاتجاه الآخر.. ولملم اسئلته وقذفها بوجههم.. من انتم.. وماذا تريدون مني.. وماهي تهمتي..؟؟نحن سكان العمارة.. وجميعنا عوائل ولدينا بنات، وتهمتك انك اعزب وليس لك مكان بيننا فارحل!!
lamesm@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved