أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 13th April,2001 العدد:10424الطبعةالاولـي الجمعة 19 ,محرم 1422

محليــات

لما هو آت
في معيَّة الضمير
د. خيرية إبراهيم السقاف
يَتَنَازَعُ حبُّ «الحياة» قُلُوب البشر..، وفي هذا الأمر تَصْطَخِبُ من حول الإنسان تيارات، وأمواجٌ، وكثيراً ما تَغْلِبُه، وقليلاً ما يَغْلِبُها..
وهو في هذا يَلْهَثُ، ومن أجل البقاء يجري، ولكي يُحَقِّق لنفسه ما تْصَبُو يُغْلِقُ على ضميره بأسوار من حديد، يدعه ينام، يُغَذِّيه، ويكسيه، ويوسده الأحلام، ثم يدعه نائماً داخل حجرة خلف تلك الأسوار..
هذا اللاَّهِثُ يصارِعُ التيارات والأمْوَاجَ في منأى عن ضميره... يذهب كُلَّ مذهب من أجل الوصول إلى «غاياته».. يَتَسَلَّقُ إليها كافّةَ الطرق بكل مُنْعَرَجَاتِها ووُعُورَتِها.. يَكْذب، يُمَثِّلُ، يستضعف، يتفانى، يدَّعِي، يَتَلَوَّنُ، يتقَرّب، يجامل، ينافق، يَلْبسْ لِكُلِّ موقف لِبَاساً، ويرصد لكل موقف جملة من العبارات والألفاظ.. تجده يَقِظاً.. لا ينام، بينما ضميره في كل اللحظات نائم لا يفيق..
من هؤلاء الكاذبين، السارقين، الوصوليِّين.. ولأولئك نماذج تَنْدَسُّ بين الناس، وتتعايش معهم..، وتمارس استلابهم بكافة الطرق..
قبل زمن قصير تعرَّفْتُ إليها مُسِنَّةٌ أرملة كان لديها من الصغار مالا يستطيع كاهلها أن يتحمَّل جهد الكفاح من أجل معاشهم، ومُؤْنَتِهم.. لكنها بالجهد الفائق ضِمْنَ أجواء اجتماعية وصحية وأسرية قاسية كانت ترى أنها في «رغد» ذلك لأن الله تعالى لم يخلق أحداً إلا انزل معه رزقه.. وبكل عَفْوِيَّتِها وإيمانها وصدقها تؤمن إيماناً مطلقاً بذلك، لهذا فهي على شَظَفِ العيش رغيدة هانئة مُطْمَئِنَّة.. حدَّثتني حديثاً عن شخص طَرَقَ باب بيتها حين كان زوجها قد انتقل إلى رحمة الله، وفي ذلك اليوم نفسه، ظنت كما حسب الجميع معها أنه جاء مواسياً أو مُعَزِّياً، وربما يكون أحد «معارف» الزوج.. غير أنه لم يفعل لذلك، بل إنه تقدَّم بكلِّ قول يمكن أن يجعلها «تُقَدِّمُ له» بأية وسيلة مبلغاً من المال كبيرا ادَّعى أنَّ زوجها أخذه منه دون إثبات إلاَّ ما بينهما من شرف القول.. ولأنَّ ما تعارف الناس عليه من أمر الإسراع في تسديد الدَّيْن ضرورة يُحَتِّمُها الوفاء إلى ما يحقِّق إبراء ذمة المُتَوَفَّى فقد طفقت حينها تَبحث عَمَّن يُقْرِضُها المبلغ المذكور الذي يفوق حدَّ القدرة، بعد أن فُجِعَتْ بذلك الأمر حيث لم تكن تعلم شيئاً عنه، وهي على ثقة في أن زوجها كان عفيف النفس، حَييًّا لا يَجْرُؤُ على «الاستدانة» كريماً، صادقاً، أميناً، فكيف لا تدري؟
ولم يستطع رجاء ابنها الأكبر الذي لم يتخطَّ في ذلك الوقت ربيعه السادس عشر أو محاولاته شيئاً في أمر تأجيل السداد، أو تجزئته لما بعد «العزاء» وأمام إِصْرَار الرجل اجتمع الحزن والفجيعة والعَجْز عليها وعلى ابنها ومن ثم بقية أفراد بيتها..، وعلى وجه الخصوص أمام استعراضه كَافَّة المبادىء الدينية الَحاثَّة على ضرورة المبادرة بالدفع إذْ حَرَّك مع الألم والحزن، الخوف والحرص على أمر الوفاء للمُتَوَفَّى العزيز، ذهبت تبيع كلَّ ما تملك، واقْتَرَضَتْ مِمَّنْ تعرف، ورَهَنَتْ جهد ابنها عند صاحب الفرن الذي يتاخم بيتها لمدة خمس سنوات قادمة مقابل بقية المبلغ.. وتعطَّل الشاب عن مواصلة دراسته كي يفي بجهده عملاً في الفرن من أجل تسديد دَيْن أبيه..
وبعد معاناة أليمة سُدِّد المبلغ له..، ومضت الحياة.. كبر الأبناء، درس مَنْ درس، وتعلَّم من تَعَلَّم، وعمل من عمل، والمؤسس الأول هي الأم والأخ الأكبر الذي أصبح صاحب أفران وليس فرناً ودرَّت أبواب الخير عليهم.. وتَحَوَّلَتْ العائلة الفقيرة إلى ذات ثراء وجاه... و..
أشارت إليَّ هذه السيدة كي أنظر في شعر رأسها القطني وقالت: كل شعرة يا بنيَّتِي فيه لها قصة كفاح.. ثم واصلت: أتدرين ما الذي حدث؟.. جاء رجل مُسِنٌّ ذات يوم يطرق باب مكتب ابني صاحب الشركة الكبيرة يَسْتَجْدِيه أن يُوَظِّف له ابناً فيه شيء من الإعاقة...، وعندما ركَّز في قراءة اسم ابني فوق مكتبه، شَهِقَ هذا الرجل.. ثمَّ بكى.. ثم قال: «إني أطلب منك السماح..» ذلك في اللقاء الثاني له مع ابني بعد أن جاء يشكره أن ألحق ابنه بالعمل في شركته..
ثم قال: «لقد ظَلَمْتُكُمْ وَظَلَمْتُ أباكم قبل ذلك» ولم يفهم ابني الأمر إلاَّ بعد أن أَوْضَحْتُه له.. لذلك عندما عاد للمرة الثالثة ومعه شيء من المال زهيد لا يفي بذلك المبلغ الكبير يعرضه على ابني مقابل ما أخذه كذباً وافتراءً.. رفض ابني أخذه بل مدَّ إليه يده بأكثر مما تَتَخَيَّلِيْن...
هذا الإنسان..
متى يصحو ضَمِيرُه، ومئات القصص تمرُّ في حياته.. بعضها يترك آثاراً سيئة وسالبة.. وبعضها يكون حافزاً إلى النجاح.. فهل في كلِّ قصة نهاية مفرحة مثل هذه؟..
تقول المُسِنَّة الثرَّية الأرملة المكَافِحَة: يا بُنَيَّتِي، قليل من المقرَّبين يعرفون قصة كفاحي وابني الأكبر، وَغَالِبِيَّة الذين يعرفونني يحسبون أنني منذ خُلِقْتُ في فمي مِلْعَقَةٌ من ذهب فهل تَتَخَيَّلِين أنَّ الناس الآن سوف تظل تهاب هذا الجاه فيما لو عرفت هذه القصة، وهم يَتَملَّقُونَنِي، ويتقرَّبون إليَّ، ويجاملونني كثيراً؟.. إنني لهذا السبب أَلُوذُ إلى الصمت ولا أعبِّر إلا تَبَسُّماً.. إنها حكمة التجارب التي مرَرْتُ بها.
ترى..
متى يَسْتَيْقِظ ضمير الإنسان؟! سارقاً أو منافقاً؟
ولماذا لا يصحو إلا متأخراً؟
ثمَّ.. متى يُخْرِج الإنسان ضَمِيرَه من الحجرات المُسَوَّرة؟...

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved