أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 8th May,2001 العدد:10449الطبعةالاولـي الثلاثاء 14 ,صفر 1422

الثقافية

قصة قصيرة
الممر
ورود الصلبوخ
ما انكفأ يجر خطاه متثاقلا، ويتلفت ذات اليمين وذات الشمال بين الفينة والفينة، مجتازا ذلك الممر المحاط بأشجار عارية شاحبة بفعل برودة الجو. كل شيء كان هادئا فكزن لا حياة فيه، ما عدا صوت الريح الهادئة التي تداعب وجدانه هذه اللحظة. جميلة هي الحياة كما كانت تتراءى له، وممتع الشعور بالحرية، معان لم يكن يؤمن بها ولكنها تتردد في جنبات نفسه الآن.
عذراً .. أيمكنني مشاركتك المقعد؟
انه على يقين تام ان سؤاله لا ضرورة له في مكان عام. لكنه طرحه لكسر الرتابة ولتبديد الصمت الذي يقبع مفترشا قلبه منذ زمن . يتخذ مكانه متجاهلا السيدة العجوز القابعة في الطرف الآخر مرخية رأسها الأشعث على صدرها كأنها تغط في نوم عميق. شغلته أفكاره عن كل ما حوله، وها هو يعود الى نفس المقعد.
لقد وعد نفسه ذات مرة بأنه لن يفعل ذلك . كان كلما ضاقت به الدنيا لجأ الى هذا المقعد.. ها هو يعود حانقا على نفسه.. محتقرا حظه العاثر.. أفكاره تموج وتعصف به بلا رحمة.. قطعة قماش تتحرك بلا اعتبار لمن يرتديها خيّل اليه أنه لم يكن هناك أحد سواء، هو وأفكاره، يتمنى ان ينطق هذا التمثال النائم على الطرف الآخر لتنقذه من وحشية خياله الذي يسترسل في نكء جراحه الهادئة وبراكين نفسه الخامدة . يتنهد بعمق شاحنا صدره بالهواء البارد الرطب. آه .. يا ليته لم يكن موجودا!!... أمنية طبيعية وسخيفة على وجه التحديد لشخص قد فقد حبيبا او شخصا عزيزا قريبا لشغاف قلبه، أما لشخص فقد نفسه فهي أقرب ان تكون أضعاف الضعف من الخسارة. يشعر انه وحيد ومنزعج ، يسبل جفنيه ويرنو الى الأرض بيأس. عيناه الغائرتان تجوسان في المكان تبحثان عن شخص غير موجود بالأحرى لم يعد موجودا.
بالأمس انحفرت خطاهما معا عبر هذا الممر، وعلى هذا الكرسي كان الحديث يجمع روحيهما الهائمتين في عالم من الرؤى الجميلة. كانت المناجاة أحلى مئات المرات عندما يكونان على غير وفاق .. «يوسف!!» يجيء صوتها حادا وناعما لدرجة يهتز معها جسده، يرفع رأسه على عجل مستجيبا للصوت القادم من أعماقه. كان يراها واقفة أمامه، هنا مباشرة ، تمد يديها الناعمتين برفق، وعيناها الصافيتان تحيطانه، هو طقس من طقوس ذاته الغريبة التي تنبش في خبيئته فتفضحه في كل مرة. منذ رحلت وهو يشعر بفراغ ، انه لا يحس بوجود يوسف، فيوسف كان موجودا عندما كانت هي هنا، أما وقد رحلت فلا شأن له هنا. يمد يده وقد أغمض جفنيه وتعرّق جبينه ورانت على سحنته زرقة الموت. يحس بقشعريرة . كانت يداه تمسكان بيديها، كفّاها كانتا دافئتين، أما قبضته فكانت باردة كالثلج .. يستيقظ بقوة فزعا، انفاسه تعلو وتهبط كأنه مريض يعالج سكرات الموت، صرخة طفل كان قادما مسرعا عبر الممر يلحق بكرته جعلها تختفي فجأة.
جبينه المتغضن لم يزل معرقا. يميل رأسه جانبا وكأنه لم يستوعب شيئا، ويحرر رئتيه من الهواء الذي اكتظ وتزاحم داخله ، يضم رأسه بين كفيه بحزن، يحس بضعفه يقضي عليه، يرفع رأسه متوقعا ان تكون واقفة، لكنه لا يرى سوى امرأة من بعيد تخطر في فستانها القطني، تحدجه بنظرة مليئة بالاستغراب. يلقي نظرة عفوية على العجوز التي ما تزال غارقة في سبات عميق. تهب ريح باردة، يشعر بالبرد ينخر عظامه نخرا. ينخفض متقوقعا داخل معطفه الطويل ذاته الذي راح يتمايل راقص افي حركات تحاكي الريح.
يحس بالخيال الذي كان معه.. خيالها يسير معه.. فيفترّ ثغره عن ابتسامة رضا تعكس روحه المشحونة باليأس..
يلتفت الى الخلف فإذا به يرى المرأة ذات الفستان القطني تتبعه، فيتجاهلها ويتابع سيره، وقبل ان يخطو للخارج .. يتوقف فجأة بأمر من الخيّال الجميل الحارس. يقهقه ضاحكا وهو يردد بطريقة هستيرية «أنا كذلك.. أنا كذلك!!» يسمع المرأة الشابة تهمس بأسى لرجل الأمن الواقف كتمثال عند حاجز البوابة «مسكين .. انه مجنون».
يخرج باسما ثم يعاود القهقهة تاركا الشابة ترقبه مصغية الى ضحكته المجلجلة تختفي شيئا فشيئا .. في عباب الربح.
)الدمام 1421ه(

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved