أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 22nd May,2001 العدد:10463الطبعةالاولـي الثلاثاء 28 ,صفر 1422

الثقافية

السَّيّد «لا»
حمد حميد الرشيدى
عانس أشرفت على الاربعين من عمرها أوكادت في هذا البيت الذي هو أول ما تفتحت عليه عيناها منذ أن رأت هذه الدنيا، ليس لها اخوة من الذكور، بل لها أختان تصغرانها سناً لم تكونا بأحسن حالاً منها، وأب وأم بلغا من العمر عتيا «خالدة» لم تكن تحلم بعد هذا العمر الطويل بأكثر من رجل يتقدم لخطبتها ويخرجها من «سجن» عنوستها الذي أمضت بين جدرانه المظلمة سنين طويلة من حياتها، حتى كادت تنسى طبيعتها كأنثى من حقها أن تتزوج، وتنجب أطفالاً، وتربيهم كما تقتضيه سنة الحياة وطبيعة المرأة التي فطرها الله عليها، وليس لأحد من كان أن يحرمها هذا الحق الانساني المشروع، أبوها، ذلك الشيخ الهرم، القاسي الفظ هو مصدر تعاستها الأول فما أن يتقدم إليه أحد لخطبتها إلا ويرفض تزويجها رفضا قاطعاً وكأن لسانه قد عقد على كلمة «لا» التي لا يعرف غيرها حتى صار بعض جيرانه ومن يعرفونه عن كثب يلقبونه فيما بينهم ب«السيد لا»؟ على سبيل ازدرائه والسخرية منه.
ولا يخفى على أحد من جيران هذا الشيخ الفظ وأسرته سر تمسكه ببناته الثلاث، والحيلولة دون زواجهن، فهو حريص على جمع «مرتباتهن» الشهرية التي يتقاضينها من عملهن كمدرسات، وأنه في هذه الحالة يعمل «محصلاً مالياً» أو «كاشير» لصالح احدى الشركات التجارية وليس أبا توجب عليه انسانيته الرفق بأهله وبيته، والرأفة بهم، ومراعاة مصالحهم وشؤونهم الخاصة.
أما الأم فإنها وإن كانت تلتمس بعض ما تشعر به بناتها، وما يعانينه من مأساة عنوستهن، وتتعاطف معهن كلما نظرت إلى تلك الوجوه البريئة البائسة الشاحبة كأوراق الشجر الخريفية، فإنها قد وقفت طرفاً محايداً من موضوع عنوسة بناتها لزمن طويل، وكأنها لا ترى ولا تسمع ولا تتكلم، والسبب في ذلك هو أن الأب لا يريد أن يسمع من أحد شيئاً.. لا من زوجته، ولا من بناته ولا من غيرهن، خاصة عندما يتعلق الموضوع بزواج احدى البنات فإنه سرعان ما يلوي عنقه على نحو يوحي بالتضجر والتذمر والانزعاج.
والنتيجة....؟... ما هي النتيجة؟... النتيجة:لا.
ليت هذا الرجل الهرم جرب أن يقول «نعم« ولو مرة واحدة في حياته فهي مفتاح السجن الذي تقبع خلف قضبانه بناته البائسات!!
ولعل الهاجس المأساوي الذي يسكن «خالدة» منذ زمن بعيد هو تحاملها على نفسها وشعورها أحياناً بأنها هي احدى العقبات التي تعترض طريق اختيها دون الزواج، وذلك لكونها هي الأخت الكبرى وهي أولى بأن تتزوج قبلهما، كما تقتضيه عادات مجتمعهن الذي يعشن فيه وتقاليده.
يا للمأساة!!.. أب فظ غليظ القلب وأم صنم لا تحرك ساكناً ولا تسكن متحركاَ!!
وها هي «خالدة» تنزوي في أحد أركان منزل أبيها بل «سجنه» ذات مساء تصحح بعضاً من دفاتر الواجبات المنزلية لطالباتها في المدرسة ويرتسم على قسمات وجهها الذابل تاريخ حافل بالعنوسة البائسة.
ويبدو أنها كانت تعاني شيئاً من الارهاق والقلق النفسي لكونها لم تنم جيداً الليلة البارحة حين صحت مذعورة من فراشها إثر حلم مزعج أقض مضجعها، وفسرته تفسيراً متشائماً.
حينها نبذت الدفاتر جانباً، واحتضنت رأسها بين كفيها لحظات ثم أسندت ظهرها إلى الحائط، حيث جرفها تيار النعاس.
وقد رأت فيما يرى النائم أن الباب الخارجي لمنزلهم يدق، في حين وقف أبوها متصلباً كالصنم دون أن يفتح للطارق،وكانت تسمع وهي في الطابق العلوي طرق الباب.
وما يدور بين أبيها والطارق من حديث دون أن ترى شيئاً، حيث كان الطارق يجأر بصوته:
افتح يا أبا «خالدة».
لا.
لماذا لا تفتح؟
لا شيء.
أنسيت أنك قد حددت لي موعداً الأسبوع الماضي بشأن خطبتي ل«خالدة»؟
لا لم أعدك بشيء.
حسناً.. حسناً.. افتح الباب إذن كي نتفاهم.
قلت لك لن أفتح.
وأثناء توسلات الطارق «الخاطب» خارج الباب الرئيسي للمنزل وفي خضم «لاءات» أبيها المتكررة خيل ل«خالدة» في منامها أنها تتقدم إلى غرفة نومها وتجلس أمام «المرآة» ترتدي فستاناً جميلاً بألوان زاهية وتسرح شعرها وكانت بالقرب منها علبة «ماكياج» صغيرة مدت يدها إليها بلهفة وشوق عارمين، إلا أن يداً سوداء قذرة لا ترى وجه صاحبها، مكسوة بشعر كثيف يبعث منظرها على الاشمئزاز والتقزز.
قد سبقتها إلى العلبة فلم يكن منها إلا أن صاحت بذعر:
لا....!لا....! لا...!
حينها استيقظت «خالدة» من غفوتها، وهبت واقفة، وقد احمرت عيناها، وتصبب من جسدها النحيل عرق دافئ، و أقبلت نحوها أمها واختاها اللاتي سمعن صرختها المخيفة، حيث كن جالسات في احدى الغرف المجاورة.
لم تسألها احداهن عما حدث واكتفت «خالدة» بأن دلفت إلى غرفة نومها وأوصدت الباب من خلفها في انتظار «فارس أحلامها» الذي انتظرته طويلاً، لينتشلها من براثن اليد القذرة التي حرمتها من زينة الحياة وبهجتها.

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved