أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 24th May,2001 العدد:10465الطبعةالاولـي الخميس 1 ,ربيع الاول 1422

الثقافية

في مدارس الرياض
حُلم ورديٌ.. وكابوس مُفزع
أ.د. كمال الدين عيد
أُصر كل عام على مشاهدة الحفل السنوي لمدارس الرياض لاهتمامها بالنشاط الثقافي والمسرحي الذي تقدمه بعد استعداد طويل ومنظم. في الشهر الماضي وفي الحفل الذي أقيم على شرف صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز قدمت المدارس بكوكبة عريضة من طلابها مسرحية استعراضية بعنوان )العودة إلى المستقبل( ألفها وكتب أشعارها المدرس النابه هشام حسن، وأخرجها اسماعيل مختار.. المخرج بالمدارس، وأحد شباب المخرجين المبشرين بالأمل والتجديد.
قضية المسرحية المركزية هي )العولمة( أو العولمية كما يصححها لغويا المؤلف، أما الخطوط الدرامية الأخرى داخل رؤيا الخيال العلمي هذه فهي عبارات أو مشاهد تفرز أفكارا طيبة ومُذكرة لشباب هذا الوطن من طُلاب مدارس الرياض بالتاريخ المضيء للمملكة، وفي غير خشية من ماضٍ مبعثر قبل توحيدها. وتركيزاً على العمل الدؤوب لبناء أرض المقدسات، وما هو دعوة علمية وعملية للدخول في عصر العلوم والتقنيات، لدفع أبناء الوطن إلى اعتناق طريق الكفاح دون كلل. كما تشير الدراما خلال سريانها في العرض المسرحي إلى سفه صرف البليونات في صراعٍ محموم على التسليح واجتياز الفضاء وكشف أسراره، بينما الملايين من سكان العالم يموتون، وآخرون يتضورون جوعا من النكبات المعاصرة والقحط والفيضانات، تناقض غير طبيعي كاد يتعادل في تناقضه مع الرأي العام العالمي المنقسم على نفسه.. عولمة أم لا عولمة؟
* الفكر التجريبي
من الطبيعي أن تمثل قضية العولمة فكراً تجريبياً يندرج تحت عالم الخيال العلمي. تصور جديد لشيء أو ظاهرة هي في مرحلة الحضانة بمعنى أن هذه الظاهرة وبصرف النظر عما قيل ويقال عنها من تحليلات ودراسات لاتزال في دور التجريب، وهي مرحلة توضع فيها الظواهر جميعها وليس في العولمة وحدها في ظروف بالاستطاعة التحكم فيها إذا ما ركنا إلى منطق ومفهوم العلم، خاصة بعد أن أصبحت التجارب العلمية أمراً شديد التعقيد، ورغم ذلك فإنها أي التجارب لاتمثل المرحلة النهائية أو النتيجة الخاتمة في العلوم، ذلك لأن القوانين النهائية التي نتوصل إليها عبر التجريب في هذه المرحلة هي قوانين جزئية.
وفيما يخص )العولمة( وحتى نهاية هذه السطور فإن الأمر يبدو ضبابياً. لأن كل عقل لابد أن يكون على يقين من تلك الحقيقة أو الأسطورة التي تفرض نفسها عليه بالأدلة والبراهين. لماذا؟ لأن لفظة )اليقين( ذاتها بقدر ما تبدو واضحة للوهلة الأولى، يمكن أن تستخدم في الواقع بمعنيين متضاربين، ففي اليقين الذاتي والمقصود به الشعور الداخلي عند الإنسان وتأكده من الشيء كثيرا مايكون مضللاً، خاصة عندما لايكون هذا الشعور مبنياً على أساس سوى الميول أو الاتجاهات الذاتية أو الدعاية وترويج اللفظة. إن أكثر الناس يقينا هم في العادة أكثرهم جهلا، فما كان بالأمس مؤكداً قد يصبح اليوم أمراً مشكوكاً فيه، كما قد يصبح في الغد أمراً باطلاً وأمام انقسام الآراء حول العولمة، مابين مؤيد متعصب، ورافض متحمس، فإننا والحالة هذه يصعب علينا إصدار حكم مستقبلي عليها.
* المسرحية الاستعراضية )العودة إلى المستقبل(
لا أظن أحداثها واستعراضاتها تختلف عما قدمت لها من تفسير علمي لظاهرة العولمة. الشخصيات مابين مؤيد ومناهض لها؛ جاسر البطل المترقب إلى التطور لمملكته العربية السعودية يناجي انفتاحاً كاملاً على العولمة، وحمد يعلن في حواره «الموقف واضح كالشمس في كبد السماء.. الرفض والتصدي والصمود» والدكتور أحمد أحد مبعوثي المملكة إلى أمريكا يحن إلى تراب المملكة ويقول «قررت العودة إلى وطني الذي علمني ورعاني وأرسلني على نفقته للحصول على الدكتوراه، لعلي أرد له بعض الجميل وأسهم في نهضته الكبرى ولو بقدر ضئيل».
يجري المشهد الثاني في المركز الكوني عام 3000 ميلادية، زي مميز لسكان وناس المستقبل المجهول الذي تعد به العولمة في غير واقعية، وغرقاً في الخيال أو قل الأوهام إن شئت.
يناقش المؤلف في المشهد الرابع فكرة العمل ويضعها في مقابلة ومواجهة تيار العولمة. وعلينا نحن اختيار الطريق. إنه يترك لنا حرية الاختيار في التفكير، وهذا شيء جيد عندما لايفرض عليك الكاتب الدرامي وجهة نظره الشخصية، جاسر يقول «العمل أيضاً رائع، كيف أشعر بكياني دون أن أعمل ؟ كيف أحس بلذة الحياة بالكفاح بالجهاد بالتقدم بالنجاح؟ ثم يفكر.. كيف والشركات الآن كلها شركة واحدة؟» لكن الرد يجيء فورا من عالم العولميين ليقول: جميع المؤهلين والتأهيل هنا يجرى على طريقتهم الخاصة ذوقهم واحد، العادات واحدة، الثقافة واحدة.. الثقافة واحدة.
وهنا يبدأ الشك في مضامين العولمة وطريقها فالعقل لايقبل هذه الشعارات لاستحالة تطبيقها في الدين والتراث والتعليم والتربية والثقافة والتقاليد من ناحية، ولاختلاف درجات ومستوى المعيشة بين الدول المعاصرة، واختلاف التسليح والنوويات بين دول تنتجها وتصدرها، وأخرى تمنع عنها وتعاقب إن حوّلت النظر إليها من ناحية أخرى. أية عدالة وعادات واحدة هذه؟ يقول أبونا آدم أحد شخصيات المسرحية: نحن لا نفزع أحدا، إننا نريد الحياة في سلام، وأنتم تمنعون عنا الحياة. تمنعون عنا السلام، أولادي سيموتون من المجاعة )تذكر باكستان وفلسطين والصومال وغيرها كثير( أولادي، المجاعة، يا صُناع المجاعات ياصُناع الحروب. إنها دعوة الأب الأول لكل ولد من نسله في كل بقاع العالم المظلوم.
هذه الموازنة الأدبية بين عظمة العولمة تقابلها فضائح العولمة أيضاً تكشف عن القيمة الفنية للمسرحية. فالمبهورون بالعولمة يرددون عبارات التقدم التكنولوجي لخدمة البشرية ورفاهية الإنسانية، والمعارضون لها يعوون ضياع مستقبل الإنسانية، ولا تغريهم الآلية الجهنمية كثيراً.
ويشاهدون جماهير عديدة من هذا العالم المتقدم والنامي ينظمون التظاهرات أمام مبنى كل مؤتمراته العولمة التي تعقد غربا وشرقا. لكن، عندما يعيش جاسر التجربة بشيء من الواقع، يذهب إلى عالم العولمة المتخيل طبعاً، ويعرف أنه صفر وليس بشراً، فالآلية هي المسيطرة، وإنسان القرن الواحد والثلاثين ضائع يقول )كنتُ أظن المستقبل حلما ورديا، فإذا هو كابوس مفزع(. هذه هي خلاصة التجربة التي بعثت بها ببرنامج عصري مستقبلي لولبي اسمه «مرحبا بالعولمة!!»
لكن أين المفر؟ وماهو الطريق أمام الشاب السعودي جاسر؟ إنه طريق الإيمان بالله عز وجل.. بالدين والملك والوطن. طريق الهوية العربية الإسلامية وطريق الأصول. غيّرت الرحلة من جاسر، إذ يذكر في نهاية المسرحية «أثواب المستقبل )العولمي( رائعة وجذابة لكنها لا تُعبر عن ثقافتنا وهويتنا وأصولنا، لقد رأيتُ الحقيقة كاملة. من المهم أن ننطلق صوب المستقبل، ولكن الأهم أن يحدث ذلك ونحن متمسكون بديننا وعاداتنا وأصولنا ولغتنا وثقافتنا، وإلا ضعنا وأصبحنا أمساخاً مشوهة في مزبلة التاريخ».
* التجسيد الفني
وعادة ما تحتوي الاستعراضات على فقرات شعرية جماعية أو غنائية لتكمل شكل الدراما الاستعراضية. خمسة استعراضات هي على التوالي:
نحن الشباب، شباب العرب والمسلمين.. استهلالة توحي بالانتماء العربي والإسلامي في كل أرض الرسالات المملكة )ياقلب العرب والمسلمين يابلادي يا حياة للقلوب، طالما في القلب أنت لانهاب إن بدا للناس ليل مستحيل(. ثم استعراض الثوب العربي، والذي يشير إلى أن الشكل والمضمون منطبقان )ثوبي الهلال يُجيب ترجيع الأذان، ثوبي الحسام يرجو العدالة والسلام. فمن أكون بغير ثوبي، صوتي ونبضي وثوبي عربي(. ويأتي استعراض )تحيا العولمة( ليؤكد حيادية المؤلف الدرامي الشاعر في عرضه لقضية العولمة، إنه يترك الحرية للاختيار العربي الأمثل، لايعادي العولمة، بل يسرد مزاياها، حتى وإن كانت صورة خيالية لم تحقق لبني البشر جديدا حتى الآن، أما أعظم الاستعراضات قوة ومعاني فهو أرض الأنبياء، )ارجع ياجاسر ارجع لأرض الأنبياء أرض الفِدا أرض الإباء وقُل لأعداء الحياة العولميين ألف لا ألف لا(، أما استعراض الختام )عش ماجدا( فهو تذييل وتحية لرجال هذا البلد الطاهر. تحية إخلاص ووفاء للمليك المفدى وإخوانه الساهرين على مصالح المواطن وأمنه.
يتضح من الكلمات الشعرية للاستعراضات أنها تتضافر تضافراً عضوياً مع أحداث الدراما ومضامينها فهي في مجموعها لم تكن زخرفا ولا تجميلا بعيداً عن لب الدراما، وهو أمر جيد لجأ إليه الأستاذ هشام حسن بفضل ما خبره في حياة لغتنا الأم.
* إشراك الصورة السينمائية )الفيلمية(
وهو أمر كان لابد من اللجوء إليه لمزج المسرح بالسينما، ولاستحالة التعبير الفني دون هذا المزج، حتى وإن دخل قاطعاً في الدراما. عمقت مشاهد السينما من تجذير الفكر والتراث العربي، وعرضت فيما عرضت مفاخر الأمة العربية في الدول العربية والإسلامية، لتترك للمتفرج في العرض الاستعراضي التفكير المتأني بين أصالة البدو، وفرسان الصحراء وإقدامهم، وبين تمثال الحرية وبرج إيفل. وما من شك أنها أدخلت تنوعا في مسار العرض جاء في صالح انضمام هذا المتفرج إلى الوطن أحاسيس ووجدانا، وهذا هو المهم في الفكر الفني.
وما يسميه أرسطو التحوّل والتعرّف، التحول لتغيير مجرى الفعل إلى عكس اتجاهه. والتعرف أو التغير بمعنى الانتقال من الجهل إلى المعرفة.
* الإخراج المسرحي
وسط خشبة مسرحية نموذجية في مدارس الرياض، وبإشراك مئات من الطلاب في الاستعراض، كان لابد وأن تؤثر المجموعات البشرية هذه، وبتفاعلها مع الفضاء المسرحي صورا عديدة من التعبير الفني، وأن يُتاح للإخراج فرص الإبداع باستعماله التقنيات العالية التي تتطلبها عادة العروض الاستعراضية.
حرص المخرج الشاب اسماعيل مختار على استغلال امكانيات المسرح فضاء وحركة وإضاءة ومؤثرات وتحريك مجموعات. إلا أن المجموعات لم تكن منتظمة أو مؤثرة لاختلاطها من زاوية الحركة ببعضها البعض، وساعتها فان الاتصال غير اللفظي لا يصل إلى معناه ومغزاه «الرسالة اللفظية لايمكن إدراكها إلا من خلال الدلالات غير اللفظية المصاحبة لها في الحدث الاتصالي»)1(. وكان يمكن تقسيم المجموعات إلى فئات، كل فئة تعبر حركاتها عن معنى من المعاني المنوطة بها الدراما الاستعراضية، ومن الطبيعي أن هذا التحديد يتم بمساعدة مصمم للرقصات الحركية Disigner المنوط به أيضاً الحفاظ على التشكيلات الحركية في مشاهد الاستعراض.
وكما بذلت اللغة العولمانية جهدا لابراز تعبيرات هميونية مثل )الخبير التأهيلي للتوافق النمطي، النظام الآلي، قُطب سيلكون( بذل الإخراج صورة غريبة تناسب شكل وصورة خشبة المسرح، ويا حبذا لو كان المستوى الثاني الأعلى في خلفية خشبة المسرح جاء منحدراً على غير استقامة. إذن لكُملت صورة انحدار العولمة، ولأتى هذا الانحدار بغرابة على خشبة المسرح، تؤكد الفعل الدرامي المطلوب وتتناسب معه.ومع كل هذه الملاحظات الطفيفة، فان العرض بأكمله في ظني قد أوصل فكرة المؤلف المبدع، والمخرج الفنان إلى ارتياد عالم مستقبلي غريب مجهول، كان ارتياده صعبا على كل منهما، وعلى المشاهدين أيضاً. وتبقى كلمة ثناء لمدارس الرياض ولإشراكها طلابها في هذا النشاط الفكري الثقافي النافع، والذي يثير قضايا حيوية في أيامنا هذه تشغل العالم كله.
)1( د. عبدالله الطويرقي، علم الاتصال المعاصر. ط1، 1413ه 1992م، ص 61.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved