أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 26th May,2001 العدد:10467الطبعةالاولـي السبت 3 ,ربيع الاول 1422

مقـالات

الرقابة معادلة، وليست إسقاطاً!
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
أحزنتني مراسَلةٌ لعيسى مخلوف تحمل كلَّ الغباء لكلِّ مَن منح نفسه صفة التنوُّر.. وهو طَرْحٌ يتحسَّر على طُرُوء نوعٍ من الرقابة عنيف يتحكم في فرنسا بلد الحرية!!.. وتتلخص القصة في العناصر التالية:
1 اتهامُ الكاتب الفرنسي رينو كامو بتهمة اللاسامية، لعبارة وردت في كتابه «ريف فرنسا».
2 سَحْبُ الكتاب من الأسواق قبل أن يبتَّ القضاء في شأنه.
3 أن ما حصل سابقة جديدة في الحياة الفرنسية.
4 تنوُّع الأطرافِ والجهات التي تألَّبت ضد الكاتب مثل رئيس مجلس إدارة الإذاعة، ووزيرة الثقافة.
5 أن اللاسامية عنصرية تستدعي الملاحقة القانونية.
6 ما حصل عزاء لشرقنا الحزين الذي تتزايد فيه دَعَاوَى التكفير والتحريض على القتل.
7 يعجب من حال الرقابة في بلاد الغرب التي استوعبت طروحات المشكِّكين في كل الأفكار والمعتقدات والقيم!!.
8 أن أبسط قواعد الديموقراطية في حرية التعبير: الدفاعُ عن النفس.. وهذا الحق أسقطه إقفالُ الأبواب أمام رينو كامو من الصحف الفرنسية. ووسائل الإعلام الأُخْرى.
9 بل الأصوات منهالة عليه تدعوه إلى الانتحار!!.
10 تلك الأصوات المنهالة تُحذِّر مَن وَقَفَ أو سيقف مع الكاتب: أنهم لن يجدوا ناشراً لكتبهم، ولا فرصة في صحيفة لوموند، ولا في إذاعة فرنسا الثقافية.
11 أن ميتران معروف بصداقته لليهود، ومع هذا اتُّهم بعداء السامية. لأن الكاتب جان دور ميسون نقل عنه انتقاده لهيمنة اللوبي اليهودي!!.
12 إزاء الأصوات العديدة ذات التحرر من هيمنة التهمة باللاسامية، وذات الرفض لأي هيمنة ثقافية: نشرت لوموند بياناً بتوقيع ستة وعشرين مثقفاً يُدين كامو مجدداً بالعنصرية، وأن ذلك آراء إجرامية لا يمكن السماح بنشرها تحت شعار حرية التعبير!!.
قال أبو عبدالرحمن: هذا النموذج من نماذج كثيرة برهان على أن الحرية التي ينعم بها الغرب واستغفر الله من كلمة ينعم .. بل التي أُكره عليها الغرب والشرق بحيل الإرهاب والتضليل والتسويل الصهيونية: هي حرية المهاجمين (لا المشككين فحسب) لكل الأفكار والمعتقدات والقيم.. وشرقنا حزين بلا ريب، ولكن حزنه عند المراسل عيسى: أنه لا ينعم بحرية التشكيك والمهاجمة لكل الأفكار والمعتقدات والقيم!!.. مع أن شرقنا الحزين لا يشتكي الغبن من المشاركة الفعَّالة تشكيكاً ومهاجمة.. وإنما هو حزين، لأن صوت الجماهير المخنوق بديموقراطية القانون بدأ يطالب بالحياء من الله ثم من خلق الله بالتخفيف من حضِّ المجتمع على الرذيلة والإباحية، وحفظ كرامة وحرية الأمة بعد إيذائها في دينها وحق خالقها ومالكها (بارئ الكون وخالقه سبحانه).. وسماع هذا الصوت، وردَّات فعل الحماس من أجله: هو سِرُّ الحزن في شرقنا المسكين: وإن لم يُصادر كتاب بلا قضاء، ولم يُضرب لأحد ظهر، أو يُؤخذ منه مال من جَرَّاء ذلك باسم القانون!!.. والذي حدث في فرنسا الحرية مصادرة بلا قضاء، ووعيد، وتألُّب إعلامي، وتصريح صارخ بأن حرية التعبير من أجل مهاجمة كل الأفكار والقيم والمعتقدات وفي كل ذلك المشروعية لصنوف الإباحية والإلحاد والاستهزاء بحق الخالق سبحانه، وتنقص الكمال المطلق الخالص له جل جلاله .. إن حرية التعبير من أجل ذلك كله باستثنا تَنَفُّسِ أيِّ صوت مكبوت من ظلم الصهيونية السياسية المهيمنة على العالم، فذلك الصوت هو الجريمة الكبيرة، وهو العداء للسامية الذي بدأ باستعطاف أهل الإنجيل المهيمنين على المعمورة ظاهراً.. إلا أن انتهى باتصاف اللاسامية لغةً بمعنى الجريمة والعنصرية التي لا عنصرية غيرها.. إن المسلمين والنصارى كافة مشتركون في الحصار الصهيوني كما أسلفتُ في حديثي عن الحرية إلى أين.. إلا أن المسلمين منفردون بفرقة الصفوف، والتخلف في العلوم المادية، والتحالف العالمي ضد عودة تاريخهم المُضِيْئ.. وهذا هو نص عيسى مخلوف.. يقول: ((لم تخمد بعد في فرنسا العاصفة التي أطلقتها عبارة وردت في كتاب بعنوان «ريف فرنسا» الصادر عن دار فايار الباريسية للكاتب الفرنسي رينو كامو، وهي لاتزال تتفاعل يوماً بعد يوم منذ العشرين من الشهر الماضي بعد أن لُوحق المؤلِّف بتهمة اللاسامية، واضطر الناشر إلى سحب الكتاب فوراً من الأسواق.. حتى قبل أن يبتَّ القضاء بأمره، وهذه سابقة في الحياة الثقافية الفرنسية.. واللافت «للنظر» في الموضوع تنوع الأطراف والجهات التي تألبت ضد الكاتب من المعنيين المباشرين بالاتهامات، وفي مقدمتهم رئيس مجلس إذاعة فرنسا جان ماري كافادا، ومديرتها لور أدلير.. إلى وزيرة الثقافة الفرنسية كاترين تاسكا.. وقد اتهم هؤلاء المؤلفَ بتقديم طروحات عنصرية تستدعي الملاحقة القانونية)).. ثم يعود إلى حرية القلم بقوله: ((هل يستطيع الكاتب بالفعل أن يقول ما يفكر فيه الآن.. ليس فقط في شرقنا الحزين حيث تتزايد دعوات التكفير والتحريض على القتل.. وإنما في الغرب أيضاً.. الغرب الذي استطاع أن يستوعب نيتشه وطروحاته، وكذلك طروحات مفكري أو فلاسفة عصر الأنوار وحاملي لواء الحداثة أجمعين، المشككين في كل الأفكار والمعتقدات والقيم.. هل هو عاجز اليوم عن استيعاب عبارة في كتاب، فيعمل على مصادرة هذا الكتاب، ويحكم على صاحبه بالصمت؟.. وإذا كان الحق في الرد والدفاع المشروع عن النفس هما من أبسط قواعد الديموقراطية، وملمح أساسي من ملامح حرية التعبير: فمن يعطي رينو كامو الحق في الدفاع عن نفسه بعد أن أقفلت الصحف الفرنسية ومعها وسائل الإعلام الأُخْرَى أبوابها في وجهه، ومن يرد عنه الأصوات المنهالة عليه التي تدعوه إلى الانتحار، والتي(1) تُؤكِّد لجميع الذين وقفوا ويقفون إلى جانبه أنهم لن يجدوا بعد اليوم ناشراً لكتبهم، ولا آذاناً صاغية.. لا في صحيفة لوموند، ولا في إذاعة فرنسا الثقافية.. ثَمَةَ من يذهب بعيداً ويقارن بين قضية كامو اليوم وقضية درايفوس في الأمس.. لقد اتخذت قضية كامو أبعاداً لم تعرفها الساحة الفرنسية منذ زمن بعيد، بل إنها فضحت الحَلقْة الضعيفة في الجسم الثقافي الفرنسي، وطرحتها للمرة الأُوْلى مكشوفة عارية، فتبيَّن كيف أن ثمة محرمات حتّى في المدينة التي اصطُلح على تسميتها بمدينة النور.. لا يمكن المساس بها على الإطلاق.. أما من يجرُؤ ويتعرض لها فمصيره العقاب الوخيم، ولا يسلم منها أحد.. ألم يُتَّهم الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران الذي كان معروفاً بصداقته لليهود بأنه أدلى بتصريح لاسامي بعد أن ذكر الكاتب جان دورميسون في كتابه عبارة على لسانه ينتقد فيها هيمنة اللوبي اليهودي.. الأكيد أن القضية لن تتوقف عند هذا الحد، فهناك أصوات عدة معروفة بمواقفها الإنسانية بدأت تتحرر من هذه التهمة، وتعبِّر عن رفضها لأي هيمنة ثقافية، وتشعر بعمق كم المفارقة الكبيرة عندما تطالب باريس بحرية التعبير في العالم أجمع وهي غير قادرة أن تُؤمِّن هذه الحرية بالكامل لنفسها.
وقبل أن ننهي هذا المقال نشرت صحيفة لوموند «25 أيار/مايو الجاري» بياناً يستنكر موقف رينو كامو، ويتهمه مجدداً بالعنصرية، ويجتزئ كلمات من سياق نصه العام، فيعتبرها تنطوي على آراء إجرامية ومدانة، ولا يمكن السماح بنشرها تحت شعار حرية التعبير.. يحمل البيان توقيع 26 مثقفاً من بينهم جاك لانزمان ميشيل دوغي جاك ديريدا وفيليب سولرز»(2).
قال أبو عبدالرحمن: وثمة نموذج آخر عن حرية الجبرية الصهيونية في الغرب، وحرية الصهاينة المطلقة، فمنذ شهر قضت محكمة بريطانية بمصادرة كتاب للكاتب البريطاني ديفيد ارفنغ، وَفَرْضِ غرامة مالية كبيرة عليه، لأنه حاول إدخال بعض الريبة في حجم المحرقة النازية من خلال بعض الأحداث التي ساقها في كتابه.. قال مراسل جريدة الحياة: ((لم أشك عندما قرأت وسمعت نبأ هذا الحكم: أن طائفاً من الرعب بدأ يساور سلمان رشدي صاحب رواية آيات شيطانية الذي يقيم في بريطانا، وأنه أخذ يُهَيِّئ حقائبه وأمتعته، ويُعِدُّ العدة للخروج من بريطانيا إلى أي بلد أكثر حماية للحرية.. لكنه وقد عدل عن الرحيل، وعاد يتفيأ ظلال الطمأنينة: لابد أن جمعاً من القضاة وخبراء القانون طمْأنوه عندما ذكَّروه: من نسيان أنه إنما تطاول بالسباب والشتائم على الإسلام وعلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، لا على أي شخص آخر، أو مُؤسسة أُخْرَى، ولذا فإن له أن يعود إلى طمأنينة النفس والبال، وإنه يَلْقى الأمن والحماية في وطنه الأول أو الثاني بريطانيا))(3).
قال أبو عبدالرحمن: أولئك القضاة البريطانيون الرازحون تحت نير الصهيونية مع زملائهم من قضاة الغرب وحليفتهم أمريكا قمينون (لو أن هنالك آذاناً تسمع) أن يُقْنعوا من منحتهم أنفسهم صفة المتنورين: أن حرية القانون الوضعي غير مطلقة، وغير معيارية، وأن كل قانون وضعي إنما هو لحرية الأهداف الصهيونية الظالمة.. وهذان النموذجان قمينان أن ينبِّها المثقفين العرب في فرنسا إلى أن الحريات والقيود للمبادئ لا للأهواء الصهيونية المتمثلة في القوانين الوضعية العالمية، وأن يحاكما الحريات في مقرهم بباريس قبل أن يتجنوا على مبادئ الإصلاح الخيِّرة قبل بيانهم المخزي.. قال إنعام كجه جي (مخبر من باريس): ((أصدر مثقفون عرب في فرنسا بياناً يحتجون فيه على ما حصل أخيراً في مصر من مصادرة كتب، ويعتبرونه فصلاً من فصول الاعتداء على حرية الكلمة والتعبير في الكثير من الدول العربية.. كما أعلن الموقعون الذين تجاوز عددهم الثمانين(4) عن وقوفهم إلى جانب الذين أُقيلو أو استقالوا رافضين طريقة الإقالة وأسبابها.. وجاء في البيان: لا يمكن القضاء على الأفكار بمجرد منع الكتب ومصادرتها، وأن ما حدث حدث ما يشابهه سابقاً، وسيظل يحدث في مصر وحدها وإنما في البلاد العربية كلها.. طالما أن الرقابة (وهي بنية أساسية في مجتمعاتنا العربية) موجودة في صميم حياتنا ومُؤسساتنا وثقافتنا.. ولا يكتفي البيان الذي قاد حملة التوقيع عليه المنتدى الثقافي اللبناني في باريس بمجرد إبداء الموقف، بل يدعو إلى التحرك بالقول: لذلك ندعو الكتَّاب والمبدعين العرب إلى تشكيل جبهة حقيقية، وعقد ميثاق شرف، لمواجهة تلك البنية بالذات.. وإلى تجسيد رفضهم النظري عملياً، بحيث يتوقفون كلياً عن إرسال كتبهم إلى الرقيب قبل طبعها، لأنهم بإرسالها له إنما يخضعون للرقابة التي يُعلنون باستمرار رفضهم لها.. واخْتُتِم البيانَ بعبارة: ليكن شعار كُتَّابنا ومبدعينا: لا رقابة على الإبداع.. وتصدَّر أسماء الكتاب والروائيين والشعراء والمفكرين والفنانين والأكاديميين والإعلاميين والسنيمائيين الموقعين عليه الشاعر أدونيس، وبينهم مرسيل خليفة، وصلاح ستيتية، ومحمد أركون، ومحمد برادة، وجورج طرابيشي، وعبداللطيف اللعبي، وكاظم جهاد، وخالدة سعيد، وأثيل عدنان، وعبدالقادر الجنابي، وأحمد أبو دهمان، وفينوس خوري، ووليد شميط، وهدى بركات، وصبحي حديدي، وبرهان غلبون»(5).
قال أبو عبدالرحمن: أكرم بها من أسماء لا تأسف عليها قُوى الهمَّ العربي المتصارعة في شرقنا باسم الدين، أو الوطن، أو القومية، فلا ولاءمنهم لواحدة من تلك، وجميعهم من طبقة التثقيف الفرنسي لعرب الجنوب أو زملائهم على نحو ما بيَّنه الدكتور لورين زكري في كتابه المهم جداً.. كتاب «الإسلام السياسي/ صوت الجنوب»!!.. وهؤلاء منهم المخالف في الملة، والمفارق لها، والطائفي الشعوبي الحاقد، والنكرة المتمظهر بالثقافة على حساب مبادئه، والموجَّه توجيهاً حاذقاً من دائرة «التثقفيف الفرنسي للجنوب».. وبعيد أن لا يعلم هؤلاء وهم في قلب فرنسا بقصة رينو كامو، ودرايفوس، وميتران.. وكذلك غير البعيد عنهم، وهو ديفيد ارفنغ، وكثير غيرهم؟!!.. مع إعلان الأمان الغربي الموثَّق لسلمان رشدي أكبر مجرم في حق أمته!!.. وبيان هؤلاء تهويشي انهزامي بلا ريب، لأنهم جعلوا الرقابة اعتداء بإطلاق.. والرقابة منها شرعي بعرفنا، قانوني بعرفهم، ومعياري باعتراف العقل الإنساني المشترك.. وفيها تجسس مشروع، وغير مشروع.. ثم بعد ذلك فليست الرقابة ملغاة بإطلاق في جميع الدول.. وجعلوا «حرية الكلمة والتعبير» حقاً مطلقاً.. مع أن في التعبير ما هو اعتداء على حرية الأمة، وما هو ظلم وإفساد وخيانة بمفهوم قيم الوجود الثلاث.
وهذا البيان العفن يَعُدُّ الرقابة الإصلاحية ظاهرة طارئة في أمتنا.. مع أنها ركيزة تاريخية منطقية في أمتنا، وإنما الطارئ هذا الصمت الطويل عن لَعِبِ الفأر في العبِّ.
أما إسقاط حرية الرقابة الإصلاحية بتخطِّي المؤسسات الرقابية: فذلك افتيات على مؤسسات الدولة القانونية.. وأرض الكنانة، ومنبع نور الأزهر، وبلاد أساتذة العالم العربي: قمينة بحماية كل فاعلية لمؤسساتها القانونية الإصلاحية، والله المستعان.
***
الحواشي:
(1) الأبلغ بياناً حذف «الَّتي»، أو تكون العبارة «وهي الَّتي»، لِيُشْعر السياق بصفتين لموصوف واحد، ولا يُوهم بموصوفين اثنين.
(2) جريدة الحياة عدد 13592 في 25/2/1421ه ص16.
(3) جريدة الحياة عدد 13592 في 15/2/1421ه ص10.
(4) الأبلغ «ثمانون»، لأنه لا معهود لأل.
(5) جريدة الشرق الأوسط عدد 8102 في 2/2/1401ه ص22.

أعلـىالصفحةرجوع












[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved