أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 1st June,2001 العدد:10473الطبعةالاولـي الجمعة 9 ,ربيع الاول 1422

مقـالات

الهمم العالية
د. عبدالله بن محمد الرميان
يقول سبحانه وتعالى في سورة الأنفال في الحث على أخذ القوة وإرهاب العدو «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..» قال إمام المفسرين الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية: )أي: ما أطقتم أن تعدوه من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم( وعندما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ومن معه في هذه الآية بالأخذ بما يستطيعونه من قوة وهي وسائل الحرب وأدواته المتوفرة في زمنهم عملوا بموجبها فأعدوا السيوف والرماح والسهام ونحوها ولو عددنا هذه العدة في هذا الزمن لم يختلف أحد أننا لم نأخذ بهذه الآية ولم نعمل بها ونكون بهذا لم نستجب لهذا النداء أو نلتزم بهذا التوجيه وذلك لأن القوة المستطاعة تختلف باختلاف الزمن وليست القوة هي المتوفرة باليد حال الحرب إنما هي ما بمقدور المسلم أن يصل إليها ويحصل عليها ويدخل في هذا الأخذ بأسبابها وطرقها وجميع الوسائل الموصلة إليها وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. والوصول الى القوة الحربية في هذا الزمن يعني أن نأخذ بجميع أسبابها من العلوم الحديثة التي سبقنا إليها والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها وليس في ذلك محذور شرعا ولا عرفا خصوصا أننا نسعى بهذا لاستعادة العزة التي فقدناها والمجد الذي أضعناه


ويح العروبة كان الكون مسرحها
فأصبحت تتوارى في زواياه
كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها
وبات يملكنا شعب ملكناه

قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية مبينا فقهها في هذا الزمن: )قوله تعالى «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة» أي كل ما تقدرون عليه من القوة العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة ونحو ذلك مما يعين على قتالهم فدخل في ذلك أنواع الصناعات التي تعمل فيها أصناف الأسلحة والآلات من المدافع والرشاشات والبنادق والطيارات الجوية والمراكب البرية والبحرية والحصون والقلاع والخنادق والات الدفاع والرأي والسياسة التي يتقدم بها المسلمون ويندفع عنهم به شر أعدائهم وتعلم الرمي والشجاعة والتدبير(. والعيب والمحذور الذي يلحق بنا هو مشابهة الكفار في عاداتهم وهيئاتهم وما يخصهم وأعظم من ذلك التشبه بهم في عباداتهم وأعيادهم.
وإننا وللأسف الشديد نجد التأثر والتقليد الذي يظهر على كثير من شباب المسلمين يكون للساقطين في تلك المجتمعات بانحرافهم وضلالهم. وليت التقليد أو التأثر كان بالجادين منهم بجدهم وذلك بالسعي لأخذ النافع من علومهم فهذا هو الذي ينبغي أن يكون وهذا هو الذي فعله هؤلاء عندما تأثروا بالمسلمين في تقدمهم العلمي وسعوا للأخذ عنهم والتتلمذ عليهم حتى قادوا أمتهم للتقدم العلمي المادي الحديث. ولست بصدد تمجيد هؤلاء أو بيان الاعجاب بهم لأثير جراح كادت أن تندمل! إنما أردت استثارة الهمم للوصول الى القمم. وأشير هنا الى الدرس الياباني المعاصر حيث وصلت اليابان في فترة وجيزة الى مصاف الدول المتقدمة صناعيا بعد أن ضُربت قبل نصف قرن تقريبا ودمرت حتى اعتقد أنها لن تقوم لها بعد ذلك قائمة. لكنها بدأت منذ الصفر بخطوات مدروسة وبجد ومثابرة يبينها هذا الطالب الياباني الذي ابتعث الى ألمانيا للدراسة طلبا للحاق بالدول المتقدمة يقول هذا الطالب: لو أنني اتبعت نصائح أستاذي الألماني الذي ذهبت لأدرس عليه في جامعة هامبورج لما وصلت إلى شيء. كانت حكومتي قد أرسلتني لأدرس أصول الميكانيكا العلمية كنت أحلم بأن أتعلم كيف أصنع محركا صغيرا؟ كنت أعرف أن لكل صناعة وحدة أساسية أو ما يسمى «موديل» هو أساس الصناعة كلها فإذا عرفت كيف تصنع وضعت يدك على سر هذه الصناعة كلها وبدل من أن يأخذني الأساتذة الى معمل أو مركز تدريب عملي أخذوا يعطونني كتبا لأقرأها وقرأت حتى عرفت نظريات الميكانيكا كلها ولكنني ظللت أمام المحرك أيا كانت قوته وكأنني أقف أمام لغز لا يحل. وفي ذات يوم قرأت عن معرض محركات إيطالية الصنع كان ذلك أول الشهر وكان معي راتبي وجدت في المعرض محركا قوة حصانين ثمنه يعادل مرتبي كله فأخرجت الراتب ودفعته وحملت المحرك وكان ثقيلا جدا وذهبت الى حجرتي ووضعته على المنضدة وجعلت أنظر إليه كأنني أنظر إلى تاج من الجوهر وقلت لنفسي هذا هو سر قوة أوروبا. لو استطعت أن أصنع محركا كهذا لغيرت تاريخ اليابان وطاف بذهني خاطر يقول: إن هذا المحرك يتألف من قطع ذات أشكال وطبائع شتى مغناطيس كحذوة الحصان وأسلاك وأذرع دافعة وعجلات وتروس وما إلى ذلك لو أنني أستطيع أن أفكك قطع هذا المحرك وأعيد تركيبها بالطريقة نفسها التي ركبوها بها ثم شغلته فاشتغل أكون قد خطوت خطوة نحو سر «موديل» الصناعة الأوروبية وبحثت في رفوف الكتب التي عندي على الرسوم الخاصة بالمحركات وأخذت ورقا كثيرا وأتيت بصندوق أدوات العمل ومضيت أعمل. رسمت المحرك بعد أن رفعت الغطاء الذي يحمل أجزاءه حتى جعلت أفككه قطعة قطعة وكلما فككت قطعة رسمتها على الورقة بغاية الدقة وأعطيتها رقما وشيئا فشيئا فككته كله ثم أعدت تركيبه وشغلته فاشتغل كاد قلبي يقف من الفرح استغرقت العملية ثلاثة أيام كنت آكل في اليوم وجبة واحدة ولا أصيب من النوم إلا ما يمكنني من مواصلة العمل. وحملت النبأ الى رئيس بعثتنا فقال: حسنا ما فعلت الآن لا بد أن أختبرك سآتيك بمحرك متعطل وعليك أن تفككه وتكشف موضع الخطأ وتصححه وتجعل هذا المحرك العاطل يعمل وكلفتني هذه العملية عشرة أيام عرفت أثناءها مواضع الخلل فقد كانت ثلاث من قطع المحرك بالية متآكلة. صنعت غيرها بيدي صنعتها بالمطرقة والمبرد وبعد ذلك قال رئيس البعثة الذي كان يتولى قيادتي روحيا: عليك الآن أن تضع القطع بنفسك ثم تركبها محركا ولكي أستطيع أن أصنع ذلك التحقت بمصانع صهر الحديد وصهر النحاس والألمونيوم بدلا من أن أعد رسالة دكتوراه كما أراد مني أساتذتي الألمان تحولت إلى عامل ألبس بدلة زرقاء وأقف صاغرا الى جانب عامل صهر المعادن كنت أطيع أوامره كأنه سيد عظيم حتى كنت أخدمه وقت الأكل مع أنني من أسرة ساموري ولكنني كنت أخدم اليابان وفي سبيل اليابان يهون كل شيء قضيت في هذه الدراسات والتدريبات ثماني سنوات كنت أعمل خلالها ما بين عشر وخمس عشرة ساعة في اليوم وبعد انتهاء يوم العمل كنت آخذ نوبة حراسة وخلال الليل كنت أراجع قواعد كل صناعة على الطبيعة. وعلم «الميكادو» الحاكم الياباني بأمري وأرسل لي من ماله الخاص خمسة آلاف جنيه إنجليزي ذهب اشتريت بها أدوات مصنع محركات كاملة وأدوات وآلات وعدنا أردت شحنها الى اليابان كانت النقود قد فرغت فوضعت راتبي وكل ما أدخرته وعندما وصلت الى «نجازاكي» قيل لي ان الميكادو يريد أن يراني قلت: لن أستحق مقابلته إلا بعد أن أنشئ مصنع محركات كاملا. استغرق ذلك تسع سنوات وفي يوم من الأيام حملت مع مساعدي عشرة محركات «صنع في اليابان» قطعة قطعة حملناها الى القصر ودخل الميكادو وانحنينا تحية وابتسم وقال: هذه أعذب موسيقى سمعتها في حياتي صوت محركات يابانية خالصة. هكذا ملكنا «الموديل» وهو سر قوة الغرب نقلناه الى اليابان نقلنا قوة أوروبا الى اليابان ونقلنا اليابان الى الغرب. نذكر هذا الدرس لعله يحيي قلوبا ميتة ويحرك أجسادا موثقة ويزيل الغشاوة عن عيون مخدوعة والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها وكما قيل في المثل الصيني «مسافة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة». نسوق هذا المثل للعظة والعبرة وعندنا في تاريخنا من النماذج الجادة والقدوات الكاملة ما يغني رجال بيضوا صفحات التاريخ بجدهم وجهدهم وجهادهم وهمتهم العالية رجال لو اقتدينا بهم لصعدنا الى سلم المجد كما صعدوا وأعدنا للأمة عزها وقوتها ومكانتها التي فقدتها لكن كل هذا يحتاج الى صبر ومصابرة.


فقل لمرجي معالي الأمور
بغير اجتهاد رجوت المحال
وكما قال الشاعر الآخر:
وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
إذا الإقدام كان لهم ركابا

نحن أحفاد قوم طلبوا المعالي وسعوا لها وكابدوا من أجلها واستسهلوا لأجل الوصول إليها الصعاب وتعرضوا خلالها للأخطار ولم يضعفوا أو يهنوا بل كان قائلهم يقول:


ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن خطب الحسناء لم يغله المهر

أين هؤلاء الرجال الأفذاذ - الذين تسطر جهدهم وجهادهم وعملهم على صفحات التاريخ - من المسلمين اليوم أو كثير منهم الذين لا غاية شريفة يسعون إليها ولا عمل جاداً ينخرطون فيه.
لقد كان أسلافنا يحسون بنشوة ولذة في تعبهم وجدهم أعظم مما يحس فيه صاحب اللهو والطرب ولذا قال أحدهم:


سهري لتنقيح العلوم ألذ لي
من وصل غانية وطيب عناق
وتمايلي طربا لما عويصة
أشهى وأحلى من مدامة ساق
وصرير أقلامي على أوراقها
أحلى من الدوكاة والعشاق
وألذ من نقر الفتاة لدفها
نقري لألقي الرمل من أوراقي

وقد وصف العلماء حالهم مع العلم وشدة اجتهادهم في الطلب من سهر الليل وتعب النهار وصبر على الفقر والبلاء وحر الصيف وبرد الشتاء ما يسطر بماء الذهب ويبقى علامة على جد أجدادنا وقوتهم وسعيهم لمجد أمتهم ولنا فيهم أسوة.
جامعة أم القرى /مكة /ص.ب: 13663

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved