أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 17th August,2001 العدد:10550الطبعةالاولـي الجمعة 27 ,جمادى الاولى 1422

الثقافية

قصة قصيرة
الحرمان
ركضت مسرعة تسابق الريح، وصلت إلى بيتها العتيق: ماما.. ماما، أخذت ربيعة تنادي التي يضج بها صخب الطفولة لتخبر أمها بخبر نجاحها من الصف الثالث الابتدائي. لم تصدق الأم الأمية الخبر.. قبلت ابنتها،: ماما.. ماهي هدية نجاحي؟ دمية دب أم عرائس.. أم..؟ أخذت الأم تذرف العبرات وتصعد الزفرات إذ لا طاقة لها بشراء لعبة لفلذة كبدها لأن والدها قد تجرد من معاني الإنسانية قبل معاني الأبوة «فلو عرفت منظمة حقوق الإنسان عنه لما غفرت له وحبسته..لأنه امتلأ برذيلة البخل» سرعان ما مسحت فيض دموعها ومسحت على رأس ابنتها: سوف نسافر إلى مزرعة أخوالك في القرية..
جلس في مكانه المعتاد كالجبل الأشم في سفرة الغداء شبه الخالية.
نظرت الأم إلى شداد زوجها وفي عينيها الناعستين كلمات قد ضلت الطريق وتاهت في صحارى قاحلة، لملمت شتاتها.. تلعثمت.. نطقت:
أبا نواف أريد الذهاب إلى أهلي..
رفع أحد حاجبيه مستغرباً وقبل أن يحرك شفتيه سارعت بالتحدث: بشراك يا شداد ربيعة نجحت وأريد أخذها معي كهدية نجاح لها: دراسة.. نجاح.. هدية.. إنك أمرأة ثرثارة مثيرة للضجر، هل تريدين الذهاب للقرية ودفع مبالغ على المواصلات من أجل هذا؟!.. أجابته بصوت ممزوج بعتاب: أبا نواف اتق الله فينا، وأما بنعمة ربك فحدث، إنك تملك من المال الذي لو وضع في نهر النيل لعوّق جريانه وتتركنا كالمنكوبين والمحزونين وربيعة لولا الله ثم الجيران لعييت بأمر زيها المدرسي وحقيبتها.
حسناً.. أيها الثرثارة لدي مشروع في القرية بعد أسبوع سنكون هناك. فرحت الأم كفرحة مسجون حكم عليه بالاعدام ثم ظهرت براءته.. حطوا ركابهم في القرية، ذهبوا للمزرعة، أخذت ربيعة تلهو.. وجدت وردة بيضاء كالثلج ولكن سور المزرعة وقف حاجزا بينهما، لم تتمالك نفسها، صعدت السور، رأت من بعد سيارة والدها، خيل إليها أنها كالوحش الكاسر فسقطت من أعالي السور فلم تشعر بعدها بشيء مما حولها وأصبحت غارقة في بركة دماء وتلطخت وردتها البيضاء باللون الأحمر، ركضت الأم مدفوعة بقلب وفؤاد الأم الحنون.. اقتحمت السور ضمت جوهرتها الثمينة عندها وصل والدها الذي جاء طلباً للغداء، قابلته الأم حاملة ربيعة كطفل رضيع أخذها والدها ولف رأسها بقطعة قماش لوقف النزف: هيا ربيعة أذهبي للعب: شداد أذهب بها إلى أقرب مستشفى لابد انها تعاني من شيء لا يعلمه إلا الله.. أدار محرك سيارته وذهب ليكمل مشواره.. أخذت الأم تستنجد بالمجاورين لهم في المزرعة، سامحك الله يا أبا نواف، أخذت تردد الأم هذه العبارة بين خلجات نفسها، رجعت كوردة يفوح شذاها ارتسمت ابتسامة على ثغر أمها. ولكن إمكانيات المستشفى ضئيلة لأنهم في قرية.
كبرت ربيعة روحاً ونضجاً إلا جسداً حيث لم تطل سنتيمتراً واحداً، بعد الحادث بلغت ستة عشر ربيعاً وطولها محط انظار الجميع واستهزاء الطالبات وبعض المعلمات ونظرات الشفقة الملازمة لها كظل يلاحقها.. كانت كلؤلؤة طغت عليها دياجير الظلام فحرمتها من نورها الطبيعي فإذا جاء الليل بدأت معاناتها حتى عيت بأمر نفسها.. قررت بين طيات نفسها أن تشكو لوالدها بعد أن أصبحت الشمس قاب قوسين أو أدنى من وداع هذا اليوم وطي صفحته. سمعت صوت والدها.. أخذت تحضر لما ستقوله كممثل حفظ دوره ويريد أن يتقنه على أكمل وجه وبينما هي منهمكة في حفظ دورها سمعت صوت عمها، شعرت بالدفء فزادها ذلك عزماً وإصراراً.. جلست أمام والدها: أبي.. أجاب بتذمر: ليس لدي نقود: أبي هل تسمح لي بالكلام أو بالأحرى الشكوى.. هل فكرت يوماً بطولي الغريب؟ لقد أصبح غمامة سوداء تحجب النور عن طريق حياتي وتعزلني عن الناس كمنبوذة.. أنت يا أبي من تملك سبيل الخلاص. رد الأب القاسي: ما هو؟
أريد السفر للعلاج: ماذا تقولين أيها ال.. قاطعه العم: كأنك يا ربيعة قرأت أفكاري فأنا اليوم جئت لهذا السبب: لكن تعلمون أني لا أملك مالاً للسفر أو العلاج قالها الأب محتجاً: يا أبا نواف أنا سأذهب بربيعة معي والتكاليف سوف نتقاسمها. لم تملك ربيعة نفسها: أبي.. أبي أرجوك.. وافق الأب على مضض. قبلت ربيعة رأس عمها ثم والدها.. هتف المؤذن.. حي على الصلاة.. حي على الفلاح معلناً دخول وقت المغرب قالها العم مودعاً: بعد يومين كوني على استعداد.. لم تنم ربيعة ليلتها.. أخيراً أشرقت عندها شمس السعادة فغطتها بنسيج يجمع بين خيوط الأمل واليأس معاً.
مكان هادئ.. نظيف، كل شيء يدل على النظام هتف باسمها: ربيعة بنت شداد.. تأهبت للدخول، قبضت على يد عمها بقوة، أحس بخوفها فطمأنها بابتسامة ثقة وبترديد اسم الله. جلست في المقدمة كقطة وديعة.. رفع نظارته.. آه لقد أطلعت على حالتك ولكن لابد من الأشعة.. جاءت لمعرفة النتيجة وقلبها يخفق خفقتين، خفقة فرح وسرور وأمل.. وخفقة حزن ويأس وظلام.. أطرق الطبيب برأسه ضم شفتيه: حالتك خطيرة: لماذا؟: بعد الحادث تبقى دم فاسد متحجر لو بقي مدة أطول لدفعت حياتك ثمناً لهذا الاهمال وهذه العملية خطيرة ونسبة نجاحها ضعيفة لم تهتم بكلامه هتفت: وطولي؟: آسف.. فقد توقف طولك، لو انك اتيت فور وقوع الحادث لما صار هذا حالك.. نظر إليها ليرى ردة فعلها، فإذا هي كتمثال منحوت . قالت له بصوت كصوت الضمير: سوف أبقى هكذا؟..
أجهشت ببكاء متواصل يقطع نياط القلب.. رجعت إلى منزلها وأمها متلهفة لسماع النتيجة، تلهف العطشان لقطرة ماء.. أخبرهم العم بما حدث.. عارضت الأم.. صرخت ربيعة: كفى..لقد فقدت طولي سوف أعمل العملية بعد أسبوع حتى لو دفعت حياتي ثمناً لها..
عُملت العملية.. نجحت..
أكملت ربيعة الثانوية، رفضت دخول الكلية خوفاً من المجهول.. وهي الآن.. تعمل بمرتب ضئيل في مكان لا توجد به طالبات، أي لا وجود للاستهزاء.. حياة ربيعة مستمرة على وتيرة واحدة.. ووالدها مستمر في بخله وجهله وقسوته.. ووالدتها مستمرة في خوفها منه وخضوعها له.
جف الحبر..
رهام عبدالله العطني
حفر الباطن

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved