أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 19th August,2001 العدد:10552الطبعةالاولـي الأحد 29 ,جمادى الاولى 1422

مقـالات

أبو تمام شاعر أبدع فأطرب!!
إبراهيم بن عبد الله السماري
اللغة العربية لغة شاعرة تتميز بقدرتها على توليد التراكيب الجميلة والمعاني الرفيعة. وهي أداة طيِّعة في يد من يحسن استخدامها.
والمبدعون من الكتاب والشعراء يجدون في اللغة العربية بحرا زاخرا من اللآلىء ينظمون منها عقود المعاني فتتلألأ امام الأعين وتطرب لها الاسماع فلا تملك الا ان ترددها متغنية بها ومنشدة تستقي من روعتها أنهارا عذبة، وتقطف من بستانها ثمارا يانعة.
وأبو تمام واحد من أولئك الشعراء المبدعين الذين استطاعوا ان يجعلوا اللغة كائنا حيا يعيش معه الانسان وبه يتقلب في اعطاف صوره بما في قصائدهم من الألفاظ الغنية بالمعاني الرفيعة والصور الجميلة التي تحتاج اليها الحياة الانسانية في كل عصر لتنظم علاقات أفرادها ولتتم تلك العلاقة في أجواء من العدل والتعاون.
عاش في عصر بدأت الدولة الاسلامية تعاني من الانقسامات السياسية، برغم ازدهار الحركة الثقافية. تقول وثائقه الشخصية: انه ولد من سلالة عربية سنة 190 هجرية بقرية جاسم من أعمال دمشق، ونقل صغيرا الى مصر فنشأ بها، وكان يسقي الماء بالجرة في جامع عمرو بن العاص، حفظ ما لا يحصى من الشعر، وعندما شب عن الطوق وتفتحت قرائحه، وازهرت مواهبه، صعد الى أعتاب الخلافة دون وجل، فمدح المعتصم ووزيره ابن الزيات والحسن بن وهب، الذي ولاه بريد الموصل الى ان مات سنة 231 هجرية.
وأبو تمام من المؤثرين في حركة تجديد الشعر حيث يعد رأس الطبقة الثالثة من الشعراء المحدثين، استوعب الحركة الثقافية السائدة في عصره، الذي شهد ازدهارا للترجمة من ثقافات اليونان والفرس والهند، فاستفاد من ذلك كله، حكمة ظاهرة، وصورا بديعة، ومادة متنوعة، وسعة خيال لا يحده فضاء، وابدع في توظيف ذلك كله عبر ادوات اللغة، وصور البديع والبلاغة، مما وضعه في عداد المجددين للشعر العربي.
وقد طرق ابو تمام كل اغراض الشعر المعروفة في الشعر العربي منذ نشأته غير ان صبغة الامثال والحكم التي استفادها من الثقافات الاخرى فوظفها بلغته كانت سمة سائدة في شعره، حتى قيل: ان ابا تمام والمتنبي حكيمان، والشاعر البحتري، لغلبة شعر الحكمة في شعر الأولين.
وشعر الحكمة عند ابي تمام تناول بعمق وابداع وجوه الحياة الاجتماعية المختلفة من صنوف العلاقات الحسنة كالتعاون والايثار وحسن الادب وجميل السمت، ومن صنوف العلاقات السيئة كالحسد والصداقات الكاذبة وهكذا..
ومن شعر الحكمة عند ابي تمام قوله عن الصداقة الكاذبة:


ان شئت ان يسودَّ ظنك كله
فَأَجِلْهُ في هذا السواد الأعظم
ليس الصديق بمن يعيرك ظاهرا
متبسما عن باطن متجهم

وابو تمام يملك قدرة عجيبة في التلاعب بالمترادفات والألفاظ، وقد عد بعض النقاد شعره من الخطب القصار ومواعظ النساك وتأديب العلماء ومن ذلك قوله:


كذبتم ليس يزهى من له حسب
ومن له نسب عمن له ادب
اني لذو عجب منكم أردده
فيكم وفي عجبي من زهوكم عجب
لجاجة لي فيكم ليس يشبهها
الا لجاجتكم في انكم عرب

وقوله عن القناعة:


من كان مرعى عزمه وهمومه
روض الأماني لم يزل مهزولا
لو حاز سلطان القنوع وحكمه
في الأرض ما كان القليل قليلا

وقوله عن الجد في العمل:


بصرت بالراحة العليا فلم ترها
تنال الا على جسر من التعب

ومن أمثلة دقة الوصف عند ابي تمام : قوله يصف القلم:


لعاب الأفاعي القاتلات لعابه
وأرى الجني اشتارته ايد عواسل
له ريقة طل ولكن وقعها
بآثاره في الشرق والغرب وابل
فصيح اذا استنطقته وهو راكب
واعجم ان خاطبته وهو راجل
اذا ما امتطى الخمس اللطاف وأفرغت
عليه شعاب الفكر وهي حواقل
اطاعته أطراف القنا وتقوضت
لنجواه تقويض الخيام الجحافل
اذا استغزر الذهن الجلي واقبلت
اعاليه في القرطاس وهي أسافل
رأيت جليلا شأنه وهو مرهف
ضنى وسمينا خطبه وهو ناحل

وقصيدته في وصف فتح عمورية مشهورة، تدل على دقة الوصف وطول النفس.
وأما في الرثاء فلم يبلغ أحد قبل ابي تمام او بعده ما بلغه من ابداع ودقة، واشهر مراثيه: القصيدة التي رثى بها محمد بن حميد الطائي، ومنها:


كذا فليجل الخطب وليفدح الامر
فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد
وأصبح في شغل عن السفر السفر
وما كان الا مال من قل ماله
وذخرا لمن أمسى وليس له ذخر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة
دما ضحكت عنه الأحاديث والذكر
ونفس تعاف العار حتى كأنما
هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

وأبو تمام من فحول الشعراء والمجيدين فيه، ممن بلغوا هام السحب، ومعقد السنام والذروة ولا يبلغ هذه المنزلة الا شاعر ذو خصائص فنية راقية ومعان بديعة رائعة، من دقة الوصف، وجودة السبك، وحسن الصناعة البلاغية.
ومثل ابي تمام من الشعراء المبدعين تتعدد الخصائص الفنية في شعرهم، وان كان من الصعب اخضاعهم بدقة لمدارس تحليل النصوص الادبية التي ظهرت في العصر الحديث، لأن المبدع لا يخضع للقيود غالبا، فهمه ارواء ذائقته الابداعية فحسب، دون ان يأبه بقواعد النقد والتحليل.
الا انه برغم ذلك يمكنني الاشارة الى بعض الخصائص الفنية التي استنبطتها من التأمل في شعر ابي تمام، مع مراعاة طبيعة الحياة في عصره، ومن أهمها ما يأتي:
1 ظهور ذاتية ابي تمام في شعره كما في قوله:


على انني لم احو مالا مجمعا
ففزت به الا بشمل مبدد
ولم تعطني الأيام نوما مسكنا
ألذ به الا بنوم مشرد

2 اتسم شعره بالقدرة على اختصار المعنى في عبارات قليلة، مع تنوع الأساليب البلاغية والبديع فيه.
3 غلبة التقرير الخطابي واسلوب الحكمة والوعظ والأمثال على شعره وذلك واضح في قصيدته التي يقول فيها:


ألم يأن تركي لا علي ولا ليا
وعزمي على ما فيه اصلاح حاليا
وقد نال مني الشيب وابيض مفرقي
وغالت سوادي شبهة في قذاليا
ولولا رجائي واتكالي على الذي
توحد لي بالصنع كهلا وناشيا
لما ساغ لي عذب من الماء بارد
ولا طاب لي عيش ولا زلت باكيا

وكذلك الحال في قصيدته الاخرى التي يقول فيها:


أللعمر في الدنيا تجدُّ وتعمر
وأنت غدا فيها تموت وتقبر؟
تلقِّح آمالا وترجو نتاجها
وعمرك مما قد ترجِّيه أقصر
وهذا صباح اليوم ينعاك ضوؤه
وليلته تنعاك ان كنت تشعر
فلا بد يوما ان تصير لحفرة
بأثنائها تطوى الى حين تنشر

4 الجزالة القوية في الألفاظ التي يستخدمها ومما يميزها انها لا تكون نشازا في بناء القصيدة أو تماسكها.
5 من الخصائص التي اتسم بها الشعر العباسي عموما: المبالغة، والمتأمل في شعر أبي تمام يلحظ بسهولة انه برغم كثرة مديحه ووصفه فان المبالغة فيه قليلة، واعني بالمبالغة الاسراف بما يضاد المنطق او الواقع. ولكن أبا تمام مع قلة المبالغة في شعره لم يسلم من رديئها. فأبو هلال العسكري حين جعل المبالغة في الشعر من أنواع البديع قسمها الى جيدة ورديئة وضرب مثلا للرديئة قول أبي تمام:
ما زال يهذي بالمكارم والعلا
حتى ظننا انه محموم
ومن جيد وبديع المبالغة: قول ابي تمام في المعتصم:
سور القرآن الغر فيكم أنزلت
ولكم تصاع محاسن الأشعار
وقوله فيه:


ولو لم يكن في كفه غير روحه
لجاد بها فليتق الله سائله

وقوله في مدح محمد بن عبد الملك المعروف بالحكمة والبلاغة والخطابة:


لقمان صمتا وحكمة فاذا
قال لفظا لقطنا الياقوت من خطبه

6 استطاع ابو تمام تطويع أدوات البديع والبلاغة تطويعا يأسر اللب، فهو حينا يحسن استعمال الالتفات من الخطاب الى الغيبة، وحينا يستخدم تقديم المفعول على الفاعل لأهميته ولتشويق السامع الى ما سيقوله، وحينا تراه يسبح بك في فضاءات المقابلة والطباق والجناس، وحينا يجعلك تبحث في ثنايا القول عن ايجاز محذوف، او معنى بعيد استخدم الكناية عنه بمعنى قريب الى الذهن، ولو أردت ان أضرب امثلة على ذلك كله، او حتى بعضه لاستغرق ذلك عشرات الصفحات.
وأبو تمام بشر يخطىء، وقد تضطره ظروف اللحظة الشعرية الى قول ما يستسخف او يعاب، وقد عيب على ابي تمام عدد من الأبيات ومنها قوله:


شرستَ بل لنتَ بل قابلتَ ذاك بذا
فأنت لاشك فيه السهل والجبل

ولا عجب ان تكون للطبيعة في شعر ابي تمام منزلة عالية فأبو تمام شاعر عربي اصيل وفحل من فحول الشعر، واللغة العربية لغة شاعرة، والعربي يهزه المنظر الجميل، والنسمات العليلة، ولا تعوزه أدوات البديع للتعبير عما يجيش في وجدانه من مشاعر تعكس تأثره بالطبيعة من حوله.
وابداع ابي تمام تلألأ في استخدامه الأسلوب المحتمل للمدح والذم «المدح بما يشبه الذم، والذم بما يشبه المدح» ومن ذلك قوله:


لولا خلال سنها الشعر ما درى
بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة
ويقضي بما يقضي وهو ظالم

وقوله:


لو خر سيف من العيوق منصلتا
ما كان الا على هاماتهم يقع

فهذا البيت لو هُجي به رجل على انه أنحس خلق الله لقيل: أبدع الشاعر، ولو مدح به آخر على انه أشجع الناس لقيل ذات القول.
فهذا هو أبو تمام الشاعر الرائع ذاك العلم الأشم فطنة وبهاء، وقدرة على تزيين التعبير بفنون البديع والبلاغة أبدع فأطرب!
والله الموفق..
alsmariibrahim@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved