أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 21st August,2001 العدد:10554الطبعةالاولـي الثلاثاء 2 ,جمادى الآخر 1422

الثقافية

أوهام الحياة
عبدالله عبدالعزيز الموسى
حاول أن يغمض عينيه بعد أن استعان بوضع شيء من القطن في أذنيه لتخفيف صوت المكيف الذي لم يعد له طاقة على النوم بدونه.
جال ببصره في الغرفة الواسعة فلم ير إلا جدراناً من الخرسانة وأنواعاً متعددة من الستائر والدواليب وبعض الصور الموزعة في أرجاء الغرفة. كل ذلك من خلال الضوء الخافت المنبعث في بعض أركانها.
حاول أن يتذكر أيام الصبا يوم كان ينام في سطح منزلهم الطيني المتواضع فيرى السماء بنجومها المتلألئة والمتوزعة بطريقة ربانية تثير العجب وتعطي للإنسان مزيداً من الطمأنينة وتفتح أمامه أبواباً واسعة للتأمل في هذا الكون الفسيح الدقيق الصنع. ثم ما يلبث أن يذهب في نومٍ عميق حتى يوقظه أحد والديه لأداء صلاة الفجر.
كيف ذهبت تلك الأيام وأين تفرق الرفاق وماهي حالهم؟ أين ابناء العم محمود الذي يوزع ابتساماته على كل من يراه من الأطفال. ويقضي حاجات أهل القرية رغم إمكاناته المتواضعة؟
لقد رفض السفر من القرية رغم ما أفاء الله به على اولاده من الثراء والوجاهة في مدينة البترول والصناعة. وان كان يكرر زيارته لهم بين الحين والآخر.
أين ذهبت تلك العجوزة التي تسير في بعض الليالي المظلمة فتروع المارة إذ لا كهرباء في تلك الأزقة الضيقة. لقد رحلت عن الحياة بعد أن خلفت لها نسلاً بلغوا درجة طيبة من العلم ولكنهم كغيرهم تفرقوا سعياً لطلب الرزق.
كل صلات الماضي استعرضها في برهة قصيرة من الزمن فوجد أنه لم يبق له من رفاق الصبا إلا القليل وأن صلاته بقريته اصبحت شبه مقطوعة وأنه لم يبذل لهذه القرية وأهلها إلا القليل رغم الثراء والجاه الذي يعيشه اليوم.
نزلت من عينيه دمعة خفيفة وكأنها تبكي معه ماضيه وتتذكر بأنه فقد الكثير من الأشياء الجميلة فقد النسيم العليل والهواء النقي الذي كان يتنفسه في الحقول والوديان المحيطة بقريته الصغيرة واصبح يتنفس الهواء المليء بالدخان ومختلف المكروبات.
لم يعد يتمتع بزقزقة عصافير الصباح. ولم يعد يسمع قصص الجدات وحكايات البطولات والأساطير.
فقد البراءة والصدق في الحديث والتعامل بين الناس لم يعد يسمع إلا أخبار الحروب والحوادث التي لا تكاد تصدق.
لقد بلغت رحلة العمر زمناً رغم طوله فهو قصير وعلى كثرة ما تحقق له فيه من الغنى وما بناه من المصانع وما شيده من العمارات إلا أنها لم تستطع أن تنسيه تلك الحياة البسيطة في كل شيء.
مسح دموعه وقام فزعاً فقد فاتته صلاة الفجر وهو الذي يحرص على أدائها جماعة لعلها تخفف من الأعباء الثقيلة التي ينوء بحملها.
حاول الاغفاء قليلاً بعد ادائه للصلاة ولكن حبل أفكاره لم ينقطع، بل تفتحت له ابواب موصدة وشعر بلهب يتأجج في دمه وأسى وحرقة في قلبه وارهاق يسري في جسمه وصداع شديد في مقدمة رأسه ولكنه بقى على صلة بتكملة شريط الحياة.
الصراع على أشده والناس تأكل بعضها ولا مكان للضعيف في هذا الزمن. الضعيف ظالم وإن ظلم والقوى مظلوم وإن ظلم.
استعرض آخر أخبار الانتفاضة الأبرياء في فلسطين يحاصرون ويقتلون وتهدم منازلهم وتجرف مزارعهم. لم يعد أحد يسمع ضراعة الأطفال والضعفاء. الشاذون والطغاة يدنسون المقدسات ولا رادع ولا مستنكر أين ذهبت الشيم؟ اين اختفت البطولات؟ وأين.. وأين..؟ أسئلة بدون جواب. ماذا عليه وقد بلغ من العمر عتياً. ماذا فعل لهؤلاء المغلوبين على أمرهم ما هو موقفه من كل ما يجري.
تذكر الحديث الذي يقول: المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً. هل ساهم في مسح دمعة يتيم؟ هل حدث نفسه بالغزو أو جهز غازياً أو أعان على ذلك؟ هل.. وهل أم أنه لا يزال يسير في معمة الحياة ويجمع أزهارها وأشواكها؟
لقد شعر مرة أخرى بالتقصير في حق الله ورسوله وفي حق نفسه وأمته ولكن هل ينفع الندم.
كلما أراد النهوض من فراشه لم يستطع وكأنه يخاف من ضوء النهار فسوف يعاود أعماله المعتادة يسأل عن عماراته، مصانعه، مصالحه التجارية، رصيده في البنوك، حركة الأسهم. هذه هي حاله كل يوم سراب في سراب.. أوهام وأوهام أشياء لا معنى لها ولا مناص منها.
عاودته الدمعة من جديد ولكن هذه المرة كان كبكاء الأطفال بل بكاء الشيوخ والعجزة.
واشتد به الخوف حاول ألا تشعر زوجته أو أحد الخدم في البيت بما هو فيه من الضعف كيف يكون ذلك وهو الرجل الجبار الشديد الذي يأمر فيطاع ويعمل دون كللٍ أو ملل. ولا يجعل للابتسامة أي مجال لكي لا تؤثر على أسلوبه الجاد في الحياة. عاد للنوم من جديد على غير عادته ولكنه كان نوماً عميقاً لم يفق منه.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved