أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Tuesday 28th August,2001 العدد:10561الطبعةالاولـي الثلاثاء 9 ,جمادى الآخرة 1422

محليــات

لما هو آتِ
اليوم معكم ... واليوم معها...
د.خيرية السقاف
هي فقط... من ثكُلت بفقد ولدها...، ومن غصّت بدموع الحسرة عليه...، ومن جلّلها الحزن برداء الوقار أمام قضاء الله...، ومن حجبت دموعَها كي لا تمّحي آخر بصماته من فوق وجهها...
اليوم معها.. وقد امتزج الحزن بالحزن فجرى نهر الصمت مكللاً بأزاهير الطهر في مواكب البوح...
* * * اليوم معها...
هي فقط وخطوطٌ تشكِّل تقاسيم وجهها...، والغضب ينزُّ من جبهتها...، فالسواعد تحمل الجثث وهي تودع الرحيق ما بين لمسة الغبار، وشهقة التراب...، وتعصف بالردى.. ألا... فاسمحوا لي أن أكون معها اليوم...
يا سيدتي...
حين مَثَلْتُ إليكِ أواسيكِ...، قرأتُ فوق جبهتكِ، وعند زوايا عينيكِ... رسائل الصمت إلى من ودَّع إلى الصمتِ، وكنتِ تشكين من قهر السؤال: كيف لم أستطع معرفة ما بين كلمة التَّرحيب، وكلمة التَّوديع... حين هاتفني في منتصف ليلة مغادرته...، حتى إذا ما استوى النّهار الذي تلا لحظاته، ورتّل ساعاته وفاجأني بنقطة الحدِّ بين ما كان منها معه، وما فصل فيها بينه وبينها... عرفتُ إنه كان يودِّعني...
شهقتِ في تلك، ثم عدتِ إلى رهجة الوقار فوق جبهتكِ، لكن زاويتيْ شفتيكِ كانتا تعجَّان بالبكاء...
وأيُّ صبرٍ يمكن أن يذيب عبور الحزن من فوق سحنة أم، غادرها في كامل بهائه من نام لتسعٍ في أحشائها، وترعرع لزمنٍ فوق يديها، واستدفأ حضنها بعنفوان الحياة في طفولته وصباه وشبابه، ثم كلَّل برجولته حوافَّ كتفيها؟!...
أنتِ في صمودكِ ناهضة عند حدود انحناءة جبهتكِ فوق الأرض لمن هو في السماء يطلُّ عليكِ، يزن ما في جوفكِ من صدق الإيمان به...
وإنكِ لعمري فيما يزنه البشر صبورة صادقة...
ولعلَّه تعالى أن يحقق لكِ رضاء القبول لهذا الصبر والصدق فيه...
غادرتكِ يا سيدتي، وأنتِ تمسكين بأطراف أصابعي... وقد كانت تحمل لكِ ما لم أستطع في اللَّحظة تلك أن أقوله...، ولأنَّكِ قدرتِ أن تترجمي ما قالته لكِ كفّي، فقد كنتُ أؤكد أنَّ في الحياة نماذج أمهات على درجة من صدق التعامل مع فجاءة القدر... وتلك من نعم الله تعالى...
وتذكرتُ كلمتكِ الباقية في حسِّي: أنَّ الفقد الذي يلحق بالجسد ليس فقداً، إنما الأبلغ إيذاءً أن يُفقَد من يتحرك أمام الإنسان دون أن يكون!!...
تلك لحظة... نقلتِني معكِ إلى أنماط الفقد...، فكثير من الذين يعيشون بيننا أموات، وبعض من الذين نحسبهم أمواتاً هم أحياء يتحركون بيننا...
وأعادني من ملكوت التفكير في تفاصيل وجهكِ تلك الأمسية صراخ النساء فوق شاشات التلفاز... وتلك التي ينزُّ غضب القهر عروقها فتنبجس تجلِّل الحزن الغاضب، وتكلِّل التفاصيل فوق وجهها عروقاً نافرة، وعينين قانيتين...، وصوتاً بحَّ من فجيعة استمراء الموت المشين لإنسانية الإنسان... في تبلُّد الإنسان، وتقاعس الهمم، وبراءة الإحساس من الإحساس... فأتذكركِ...
أنتِ الفاقدة في عنفوان الألم...
وهي الفاقدة في عنفوان الألم...
أنتِ تصمتين، تكلِّلين الحزن والفجيعة برداء الصمت... إيماناً بقدَرية الموت الذي مرَّر يديه وضمَّ معها يديْ ابنكِ وأخذه في رحلة غياب مع حضور...
وهي تصرخ تكلِّل الحزن والفجيعة بغضب القهر... إيماناً بهدر القيم لعلاقة الإنسان بقضيته، وتحلُّل الإنسان من قضيته، وجفاء المبادرة تمسكاً بتلابيب البريق في معية الخوف... وممَّن؟! ممَّن لا يملك للإنسان حولاً ولا قوة يجيء الموت القسري لابنها... والناس تتفرج ... والضمائر تموت...
فجيعة القضاء...
وفجيعة الغباء...
وأيهما تكون... فقلبكِ وقلبها ينزَّان بفقد...
وحزن الألم الإحساس به واحد...
غير أنَّها تنام لتُفجع...، وتستيقظ لتُفجع...
ألا فليحفظكِ الله ويحفظ لكِ من غادر وهو باقٍ.
ألا فليحفظها الله ويوقظ لها بؤر الكمون لضمائر النائمين... كي تضع رأسها وتستريح...
لكِ يا سيدتي عزائي بمثل ما نقلته لكِ مشاعري... ودعائي...
ولها سيدتي عزائي ودعائي بمثل ما يكون عليه الدعاء...

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved