أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 14th September,2001 العدد:10578الطبعةالاولـي الجمعة 26 ,جمادى الآخرة 1422

أفاق اسلامية

فلا تزكوا أنفسكم..
سليمان بن فهد الفايزي
خلق الله الإنسان وهو أعلم به. وجعله ناقصاً الا من عصم الله من رسله وأنبيائه وخلقه، ذلك أن الإنسان يظلم نفسه ويرتكب الكثير من الأخطاء والذنوب والمخالفات، ويقصر في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق نفسه وفي حقوق الآخرين، وفي الحديث الشريف أن الإنسان خطّاء ولكن خير الخطائين التوابون المستغفرون الذين ينيبون الى الله.
والعقلاء من الناس هم أولئك النفر الذين يعتبرون أنفسهم مقصرين دائماً مهما عملوا من أعمال فلا يرفعون أنفسهم الى مكانة لا يستحقونها ولا يبحثون عن تسديد النقص بادعاء الكمال فهم دائماً متواضعون يزينهم التواضع والخلق النبيل إن عملوا خيراً أخفوه ولم يسارعوا لإعلانه والتباهي به عند الآخرين، واعتبروه أمراً قليلاً لا يستحق الذكر وحسبهم في ذلك احتسابه عند الله، ولا تهمهم معرفة الناس بهذا الأمركل ذلك خشية من الوقوع في الرياء والسمعة، واحباط العمل، وان عملواخطأ في حق الله وحق أنفسهم أو في حقوق الآخرين سارعوا للتوبة والانابة والرجوع الى الله، أولئك هم علية القوم وأقربهم الى الله.
ومما ينزل بالنفس البشرية الى مستويات متدنية ويجعلها ممقوتة عند الله وعند الناس تزكية الإنسان لنفسه وادعائه الكمال والوصول الى المكانات العالية. والانتقاص من أعمال الآخرين ولو كانت أعظم وأفضل مما يقوم به. والنظر دائماً الى الآخرين نظرة استعلاء ودونية، وكأنه يطل عليهم من مكان عال.
وتزكية النفس خصلة ذميمة نهى الله عنها بقوله «فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى» وقال تعالى :«لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم».
وتشتمل هذه الاية الكريمة على صفتين إذا اجتمعتا في الإنسان كانتا دليلاً على السوء ونذيراً بالعذاب.
الصفة الأولى:
أن يقوم الإنسان بعمل فيملؤه الفرح ويزدهيه الغرور بما فعل حتى يحس غيره من المحيطين به بضآلة ما يقومون به من أعمال سواء أكانت مساوية لما فعل أو أعظم منه وعمله هذا في الواقع ينطبق عليه المثل القائل: «ليس شحما ولكنه ورم».
الصفة الثانية:
أن يعد الإنسان نفسه لتلقي التهاني والتبريكات على ما لم يقم به من أعمال وهذا نوع من الغرور وخداع النفس سواء كان هذا الصنيع من صاحبها أو من الآخرين.
وهناك فارق كبير بين فرح الإنسان بالعمل الطيب المثمر منتظرا الفرصة ليواصل هذا العمل ويزيد عليه وبين أن يأتي إنسان الأفعال الطيبة لماماً ويعتمد على سد الثغرات بين كل عمل وآخر على قدرته في الاقناع وأحاديث المجالس ممن لا يعول على ثنائهم لأنه مبني على المصالح والمجاملات الممقوته.
وتبين الصفة الثانية صورة هذا الإنسان بشكل أوضح فهو يقحم نفسه في أعمال غيره عساه يخرج بنصيب من المدح والثناء من الناس.
إذاً فالصفتان متلازمتان تثمران لنا هذا الصنف المذموم من الناس والصفتان نابعتان من داء الأنانية وحب الذات دون نظر لأي اعتبار آخر لذلك فمثل هذا الصنف مشغول بالحديث عن نفسه وتمجيدها وجلب المديح لها ولذلك فهومهدد بالسقوط والتخلف عن ركب الإيمان، وهؤلاء ليسوا بمفازة من العذاب، أي بمنأى عن جهنم وقانا الله والمسلمين منها وإذا استمروا فيما هم فيه سقطوا في العذاب « ولهم عذاب أليم».
وفي الآية درس للمؤمنين حتى لا يضعوا أنفسهم في غير موضعها.
ولنا في قصة الصحابي الجليل الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه نموذج حي للمسلم الحق عندما استحلف الصحابي حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قائلا: هل عدَّني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المنافقين؟ خليفة رسول الله شهد له بالجنة وهو الذي ما سلك فجّاً إلا سلك الشيطان فجّاً آخر ويخشى أن يكون معدوداً مع المنافقين فلم يزك نفسه وقد زكاه الله سبحانه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حينما شهد له بالجنة.
قال تعالى :« ولله مافي السموات ومافي الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى، الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى».
ففي هذه الآية الكريمة تأكيد على ما يلي:
ان الله سبحانه وتعالى هو المجازي على الأعمال حسنها وقبيحها فله وحده مافي السموات ومافي الأرض فليس لأحد أن يحكم على أحد أو يقدر له الجزاء حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى :« ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون» وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :« إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء».
ان المحسنين هم الذين يحملون أنفسهم على اجتناب كبائر الإثم والفواحش على مقدار ما يطيقون ولذا ورد في الآية :« إلا اللمم» وهوما يلم بالمؤمن عن غير رضا منه وهؤلاء تسعهم مغفرة الله رغم ما يصيبهم من مآثر والله سبحانه وتعالى أعلم بهم فهم غير معصومين وهو أدرى بهم وبحياتهم التي بدأت «أجنة» في بطون أمهاتهم.
ففي الآية الكريمة التحذير من تزكية النفس ووصفها في منزلة لا تستحقها لأن الحكم في الأفعال لله وحده فهو أعلم بالمتقين قال تعالى في سياق الآية :« .. فلا تزكوا أنفسكم».
وثمة آية أخرى ينكر الله سبحانه وتعالى فيها على من ينصبون أنفسهم حكاماً وقضاة يوزعون على الناس الأقدار فيرفعون أقواماً ويخفضون آخرين . فهذا رفيع وهذا وضيع، وهذا له كذا وكذا، وذلك عليه مثل ذلك.
قال تعالى :« ألم تر الى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا». «انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا» إن من يجعل نفسه حكما يزكيها ويشهد لها بالأعمال الصالحة ويعطيها من الفضل ما لا تستحق وينصب نفسه ميزاناً وحكماً يعدّل هذا ويزكيه ويطعن بذلك ويتنقصه وكأنه لا يثق في حكم الله ولهذا وجه القرآن الكريم هذا الرجل الى الصواب: «بل الله يزكي من يشاء» وهو الخالق الرازق العدل الذي لايظلم « ولا يظلمون فتيلا».
وفي هذا دعوة لأولئك الأصناف من الناس الى التفرغ لإصلاح عيوبهم والاستزادة من الصالحات بدلاً من إجهاد الفكر في البحث عن مكانة خيالية أبعد ما تكون عن حقيقتهم وواقعهم الهابط المتدني أو البحث في أحوال الناس وسلوكياتهم وتعديلهم أو تجريحهم.
قال الشاعر:


ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ
لا تنهَ عن خلق وتأتيَ مثله
عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ

ثم بينت الآية الكريمة بأن عمل هؤلاء وسلوكهم السيىء افتراء على الله وميل عن حكمه ووجهت الآية الكريمة الى طلب الهداية والرفعة والحسنى من الله فقال تعالى :« بل الله يزكي من يشاء» وتلك نعمة أنعم الله بها على الناس رحمة منه وفضلا ولولا ذلك ما زكا منهم أحد أبدا.
قال تعالى :« ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا» نعم انها نعمة وفضل من الله على عباده أن هيأ لهم طريق الكمال والسمو وسهّله ومهّده لهم ففتح بصائرهم الى الهدى وسهّل لهم طرق التفكير والتدبر وبعث إليهم الرسل مبشرين ومنذرين مبشرين للمؤمنين بما عند الله من الفضل لهم في الآخرة، ومنذرين لمن حادوا عن الطريق القويم في الدنيا بأن لهم عند الله عذاباً أليماً فإذا ما اهتدى الإنسان فليحمد الله الذي هداه وزكّاه ودله على الخير ولا يمدح نفسه ويزكيها فإن ما حصل له ليس بفكره وعقله وإرادته وإنما بهداية الله له قال تعالى :« يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليَّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان»
قال تعالى :« قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها».
لقد نهت الآية الكريمة السابقة عن التشدق بتزكية النفس بالقول ورغبت في تزكية النفس بالعمل الصالح الخالص لوجه الله دونما منَّة. فبالعمل الصالح ترتفع النفس وترقى إلى الدرجات العالية، وبضده تنحط الى أسفل مدارك الهوان، قال تعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون».
وقال تعالى:« قد أفلح من تزكى. وذكر اسم ربه فصلى»
فتزكية النفس بالعمل تؤدي الى الفلاح أما باللسان أو الادعاء فتؤدي الى الهلاك والدمار ولذا رسمت الآية طريق التزكية فهو ذكر الله وتسبيحه والاقبال عليه سبحانه بالصلاة. والتزكية الحقيقية اتصال دائم بالله في السر والعلن في الصحة والمرض وفي كل أمور الحياة وليست إعجاباً بالذات وعبادة للنفس من دون الله.
وإن المتتبع والناظر في المعاني العظيمة التي وردت في الآيات السابقة التي تنهى عن تزكية النفس ودعوى التقوى والنزول في منزلة لا يستحقها الإنسان ولقد توعد الله عباده الذين يزكون أنفسهم قولاً لا عملاً بالعذاب العظيم والخسارة الفادحة في الآخرة وبين سبحانه أنه أعلم منا بنفوسنا وهو وحده القادر على رفعها لتسمو وترتفع الى المكانة العالية والدرجات الرفيعة وهو أيضا القادر على تنزيلها وإذلالها والهبوط بها الى أسفل درجات الهوان.
كما نهى الله سبحانه في الآيات السابقة أولئك النفر الذين يصنعون من أنفسهم قضاة وحكاماً يزكون هذا ويرفعونه فوق منزلته ولو كان ضعيفاً حقيراً لا يستحق، ويضعون أقواماً هم عند الله في المكانة العالية والمنزلة الرفيعة، وهذا العمل جهل من انفسهم وتعدٍّ على حكم الله وقدرته. ألم يعلم هؤلاء أنهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما أراده الله وقدره لهم سبحانه.
فالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وهم صفوة الخلق اختارهم الله لرسالته ودعوة الخلق الى توحيده وعبادته ومع ذلك فهم مشفقون يرجون رحمة الله ويخافون عذابه.
فهذا سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم يوضح لأمته أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا : إلا أن يتغمدني الله برحمته وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو القائم حتى تفطرت قدماه شكراً لله سبحانه ، صلوات الله وسلامه عليه.
فإذا كان هذا مع الرسل عليهم الصلاة والسلام فأممهم وأتباعهم من باب الأولى.
لقد وجههم الله سبحانه الى عدم تزكية النفس ووضعها في غير موضعها ووجهها بالتوكل عليه وتفويض أمرها اليه والسير في حياتها بين الخوف والرجاء الخوف من عذاب الله وأليم عقابه والرجاء لما عند الله من الأجر والنعيم في الدار الآخرة كما وجه ديننا الإسلامي ا لحنيف الناس الى عدم الشهادة وتزكية الآخرين والحكم عليهم ولهم بجنة أو نار وهذا هومنهج أهل السنة والجماعة.
إلا أن المشاهد لأحوال الكثير من الناس كبيرهم وصغيرهم في الوقت الحاضر يلاحظ أنهم يكثرون من تزكية النفس ووضعها في غير موضعها وينصبون من أنفسهم موازين لتعديل الناس وتجريحهم ووصفهم بصفات لا تنطبق عليهم سلباً أو إيجاباً.
وإن كثيراً من الناس اليوم يغترون بما يقال عنهم من قبل أرباب المصالح والمجاملات الذين نهينا عن الاستماع لهم نهيا شديدا «إذا جاءكم المداحون فاحثوا في وجوههم التراب».
فإذا كان النهي عن تزكية النفس وتزكية الآخرين لأفضل الأمم وأتقاها أنبياء الله ورسله عليهم السلام فلقد اختلت موازين الناس في الوقت الحاضر واختلط الحابل بالنابل كما يقول المثل فلا المادح صادق في مدحه وثنائه ولا الممدوح مستحق لما مدح به وانطبق على الجميع مضمون الآيات السابقات الناهية عن تزكية النفس وتزكية الآخرين.
ولكن ضعف الإيمان عند بعض الناس وقلة فقههم في الدين وتعلقهم في الدنيا وحطامها جعل البعض يقولون مالا يفعلون ويهرفون بما لا يعرفون.
إننا جميعا متعبدون مأمورون باتباع أوامر ونواهي ديننا الإسلامي الحنيف وعدم الابتداع فيه والابتعاد عن تزكية النفس وتزكية الآخرين فتلك مزلة خطيرة وافتراء على الله وتعد على حدوده وحكمه.
والله الموفق والهادي الى سواء السبيل
* بريدة

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved