أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 29th September,2001 العدد:10593الطبعةالاولـي السبت 12 ,رجب 1422

مقـالات

القضية في مذكرات بيكر (2)
عبدالله الصالح العثيمين
قبل البدء بمواصلة الحديث عن مذكرات بيكر أود أن أجيب عن سؤال ربما يطرحه عدد من القراء الكرام، وهو لماذا الحديث عن قضية فلسطين في مذكرات بيكر بدلاً من الحديث عن موضوع الساعة المتمثلة فيما حدث في أمريكا من إرهاب وما نتج عنه من فرض هذه الدولة على العالم كله خياراً واحداً هو عملياً أن يقفوا معها، سواء أظهرت من الأدلة ما يدل على صحة موقفها وصدق اتهامها لمن قاموا بما حدث أو لم تظهر. ولأنها الأقوى فإن حكومات العالم ستنفذ أوامرها وإن قالت لشعوبها: إنها وضعت تحفظات على وقوفها معها. ذلك أن هذه التحفظات المقولة لن يكون لها في دنيا الواقع وجود لا حاضراً ولا مستقبلاً، بناء على ما برهنت عليه القراءة المتأمِّلة للتاريخ.
وإجابتي عن مثل ذلك السؤال هي أن من رؤساء الدول الحليفة لأمريكا من تنقصهم المعلومات عما احدث، وبخاصة أنهم رأوا التصريحات المتناقضة من المسؤولين الأمريكيين أنفسهم وإطلاقهم بالأمس أقوالاً يتراجعون عنها اليوم. لكن من يتجرأ على مناقشة الأقوى؟ أما معلوماتهم عما ستقوم به أمريكا فليست أوفر من معلوماتهم عما حدث. وإذا كان مثل هؤلاء الرؤساء تنقصهم المعلومات فما هي حال من حظه من العلم شيء قليل من التاريخ؟
على أن لدي ظناً يكاد يرقى إلى حد الجزم، وهو أن المستهدف استراتيجياً قبل الذي حدث في أمريكا وبعده هو إضعاف المسلمين بوسائل مختلفة، وضرب المقاومة الإسلامية المحتلة أراضيها، سواء في فلسطين أو في الشيشان أو في غيرهما. ولأن الكفر ملة واحدة تجاه الأمة المسلمة فإن حكومة الصين استغلت فرصة الظروف الحالية وقامت يوم الثلاثاء الماضي بقتل عشرات المسلمين من تركستان الشرقية المحتلة بعد الطواف بهم في الأسواق بطريقة مهينة. وأكاد أجزم، أيضاً، أن من المستهدف استراتيجياً هو القضاء على أي توجه لتطبيق أحكام الإسلام في بلاد المسلمين كي يسود بدلاً منه النظام الغربي بمختلف نواحيه. وكما استغلت حكومة الصين الظروف الجارية وقامت بما قامت به استغل كتاب من أبناء جلدتنا في أحد بلدان الخليج هذه الظروف فبلغ بهم كرههم للتوجه الإسلامي أن طالبوا بإغلاق الجمعيات الخيرية في ذلك البلد.
وبعد:
فإن حوادث الماضي تشدني دائماً إليها. ولذلك أعود لمواصلة الحديث عما كنت بصدد الحديث عنه.
كنت قد أشرت في الحلقة الأولى (الجزيرة، بتاريخ 8/6/1422ه) إلى أنني سأتكلم عما ورد في مذكرات وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية السابق، جيمس بيكر، عن قضية العرب والمسلمين الأولى قضية فلسطين، أو «القضية» وكفى. وأشرت إلى موقف ذلك الوزير من هذه القضية مقارنة بغيره من وزراء خارجية تلك الدولة. وأعطيت كلاً من الرئيس ايزنهاور والرئيس بوش الابن مثلاً لاختلاف رؤسائها مكانة وقدراً.
ومذكرات بيكر، التي أصدرتها مكتبة مدبولي معربة، عام 1999م، بعنوان «سياسة الدبلوماسية» تتكون من 975 صفحة مشتملة على 33 فصلاً. وقد بدأ الوزير بيكر حديثه عن قضية فلسطين بالفصل الثامن، الذي جعل عنوانه «الشرق الأوسط، الخوض في المستنقع».
أوضح الوزير بيكر موقفه من محاولة معالجة القضية بقوله:
«منذ اليوم الأول (لتوليه وزارة الخارجية) كانت عملية الشرق الأوسط آخر شيء أردت أن أعالجه». «وكنت أرى أن الصراع العربي الإسرائيلي فخ يحسن تجنبه لا فرصة يجب انتهازها».
ومن الواضح أنه بنى رؤيته تلك على أساس أن كافة وزراء الخارجية الأمريكية (الذين سبقوه) أنفقوا الكثير من الوقت والجهد الذي لم يثمر سوى حفنة احتمالات للنجاح وآفاق ضخمة لخيبة الأمل.
وقال :«كان نيكسون أكثر صراحة ووضوحاً (مقارنة بمن تحدث معهم من الآخرين) حين قال: إن ريجان هو أكثر الرؤساء الأمريكيين تأييداً لإسرائيل في التاريخ. وان الوقت قد حان لقدر من الإنصاف هناك. لكن الشرق الأوسط قضية تستعصي عن الحل فلنبق بعيداً عنها.
ذلك ما قاله نيكسون عن رؤساء أمريكا حتى ذلك الوقت. ترى لو عمّر وأراد أن يحكم على من جاء من رؤسائها فيما بعد، مثل كلينتون الذي سيطر اليهود على البيت الأبيض في عهده، وأسند التفاوض حول قضية فلسطين إلى حفنة من اليهود معظمهم صهاينة. ومثل بوش الابن ونائبه تشيني فماذا سيكون حكمه؟
لكن لماذا كان بعض الساسة الأمريكيين يتفادون قضية فلسطين أو قضية الشرق الأوسط؟
ربما لأنهم كانوا يدركون بأن الحق مع العرب وأن الحل العادل لها يعني مطالبة إسرائيل أن تقوم، على الأقل، بالاستجابة لقرارات الأمم المتحدة التي كانت أمريكا صاحبة النفوذ الأكبر في اتخاذ قراراتها. لكنهم مع ذلك الإدراك يعلمون أنهم أمام النفوذ الصهيوني داخل أمريكا أضعف من أن يطالبوا دولة الصهاينة بتلك الاستجابة. فأصبحوا تحت وطأة عجزهم عن أن يقوموا بما تحدثهم به ضمائرهم يتوقون إلى الابتعاد عن بحث القضية ما أمكنهم ذلك.
هل استجاب بيكر لنصيحة نيكسون بالبقاء بعيداً عن «القضية»؟
بطبيعة الحال لم يتمكن من الابتعاد عنها، وذلك كما قال لسببين:
الأول «إن منطقة الشرق الأوسط منطقة حيوية للمصالح الأمريكية...»، والثاني أن «عملية السلام أحد عناصر السياسة الداخلية بسبب علاقتنا الاستراتيجية الخاصة مع اسرائيل والقوة السياسية التي تحظى بها الجالية اليهودية الأمريكية».
ثم راح بيكر يصف بداية نشاطه للتعامل مع القضية والظروف المحيطة بتلك البداية، مشيراً إلى أن في طليعة الفريق الذي أعده للعمل معه اليهودي دينيس روس. وقال: إن الفريق كان يرى أن الوقت أصبح مناسباً لتناول القضية لأن «الانتفاضة (الأولى) تمثل مصدر القلق المتزايد داخل صفوف حكومة الوحدة الوطنية (لدولة الصهاينة) التي يرأسها شامير. ومع احتدام الانتفاضة، الذي استتبع تصاعد حدة القمع بالاعتقال الإداري والابعاد بدأ الاستقطاب في الجدل الداخلي في اسرائيل..».
ومن المعلوم أن رابين، الذي حاز فيما بعد على جائزة نوبل للسلام، كان وزير الدفاع المسؤول المباشر عن ذلك القمع. وقد قال بيكر عن قادة الدولة الصهيونية: إنهم كانوا متشككين بعض الشيء منه ومن رئيسه بوش، لكنه أشار إلى أنهما كانا في الحقيقة، يعدان تلك الدولة حليفاً قوياً وشريكاً استراتيجياً يلتزمان بالحفاظ على أمنه ووجوده. ومع هذا فكانا يعتقدان بأن السلام لا يمكن أن يحل في المنطقة ما لم تبد اسرائيل استعدادها لقبول مبدأ الأرض مقابل السلام المنصوص عليه في قرار مجلس الأمن رقم 242.
والسؤال هو : هل دولة الصهاينة المغتصبة هي الطرف الذي يخشى على أمنه؟ وماذا عن أمن المعتدى عليه، وهو الشعب الفلسطيني الذي يرزخ تحت وطأة الاحتلال؟
وبالرغم مما في قرار مجلس الأمن المذكور من إقرار بشرعية وجود الدولة الصهيونية على الأراضي التي سبق أن احتلتها من فلسطين قبل سنة 1967م فإن ذلك القرار أصبح الآن عملياً بحكم المنتهي بسبب تداعيات التنازلات التي أملتها ظروف يطول البحث فيها.
وتحدث بيكر عن خطاب له أمام جمعية ايباك، التي هي رأس الحربة الصهيونية في أمريكا، مشيراً إلى توصيته فيه للعرب «برفع المقاطعة المفروضة على إسرائيل ونبذ الانتفاضة»، ومورداً قوله فيها:«لقد حان الوقت أمام إسرائيل لتتخلى وللأبد عن فكرة إسرائيل الكبرى غير الواقعية، وأن تعدل عن الضم وتوقف النشاط الاستيطاني، وتسمح بإعادة فتح المدارس في الأراضي، والنظر إلى الفلسطينيين كجيران يستحقون التمتع بحقوق سياسية». وقد ادعى الوزير بيكر بأنه أراد أن يكون ما ورد في خطابه متوازناً، «مدركاً تمام الإدراك أن التوازن في هذا السياق قد يفسر بأنه أبعد ما يكون عن الفضيلة».
ولعل القارئ الكريم يلحظ أن الوزير بيكر أوصى العرب بأمرين محددين: أو يرفعوا مقاطعتهم لإسرائيل مع أنها ما تزال مغتصبة لجزء عزيز من أرضهم، وما زالت تهدد بضم أجزاء أخرى، وأن ينبذوا الانتفاضة، أي أن يستسلموا للاحتلال ويرضوا به. أما الصهاينة فالوقت قد حان لعمل ما ذكره، ومنه توقيف النشاط الاستيطاني لا إزالة المستوطنات والنظر إلى الفلسطينيين بأنهم يستحقون التمتع بحقوق سياسية «لم يحدد مداها، بل ترك ذلك، فيما يبدو، لتقرره الدولة المحتلة لأرضهم. ولئلا يغضب الوزير من حضر خطابه قال «الأراضي»، ولم يملك الشجاعة بوصفها أنها أرض محتلة.
أما القول بأن «التوازن قد يفسر بأنه أبعد ما يكون عن الفضيلة» فقول صحيح من بعض الوجوه. ذلك أن الطرف الصيهوني الأقوى سوف يفسر أي اقتراح لا ينسجم انسجاماً تاماً مع نظرته بأنه بعيد عن الفضيلة حسب نظرته إلى هذه القيمة، وهي النظرة التي تبيح لليهود أن يعملوا كل ما يريدون بالآخرين. ومع أن ما ذكره الوزير في خطابه غير متوازن حقيقة فإن الطرف العربي، الذي هو الأضعف، ليس إلا غريقاً يتمسك بالقشة.
لقد نفذ المحترمون جداً من العرب وصية بيكر، فرفعوا مقاطعة العدو الصهيوني مع بقاء احتلاله وزيادة رسوخه، بل ظهر منهم من يقول: إنهم لا يستطيعون مقاطعة ذلك العدو. وأقفوا الانتفاضة المباركة الأولى. لكن هل أُوقف الاستيطان، ناهيك عن إزالته؟ هل عدل عن الضم؟ هل منح الفلسطينيون حقوقهم المشروعة التي تنص عليها المواثيق الدولية، ومنه حق تقرير المصير؟

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved