أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 29th September,2001 العدد:10593الطبعةالاولـي السبت 12 ,رجب 1422

مقـالات

كأس أبو ريشة، والانبهار بالعادي!!
أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
عن أسطورة البرنية في غرام ديك الجن قال الأستاذ عبدالمطلب صالح:
«استوحى أبو ريشة من معاني قصيدة ديك الجن ملامح تشير إلى سابقة(1) في تجربة إنسانية نجدها في الحياة ..» .. وقال: «استوحى عمر من موضوع الغَيْرة كما جسَّدها ديك الجن في قصيدته المأساوية معبراً فيها عن تجربة عايشها في الواقع ؛ فلم نجد في شعره (أي شعر أبو ريشة) ذاك غير الصدى العادي للألم الذي تمخض عن تلك الفاجعة» .. وقال: «لا نستطيع أن نقول: إن قصيدة أبو ريشة اقتباس محض..»(2).
قال أبو عبدالرحمن: صرح أبو ريشة في مقدمة قصيدته أنه يحكي قصة ديك الجن؛ فهي إذن معارضة يُطلب فيها التطابق في الحدث مع التفاوت في الأداء الفني.. وليس هذا اقتباساً يرد خلال موضوع آخر، بل المعنى واحد.. وليس أخْذاً من باب السرقات بِخُفْيةٍ يُراد فيه الإخفاء بقدرة فنية وتحوير.. والإخفاء يعني امتناع التطابق في المعنى، والمعارضة تعني علناً القدرة على التطابق مع التفوق فنياً في الأداء.. وإذن فلم يستوح عمر من ديك الجن موضوعه، بل عارضه،وشارك ديك الجن في موضوع الغيرة الرحب وفلسفاته.. ولا معنى لقول عبدالمطلب عن عمر: «فلم نجد في شعره غير الصدى»؛ لأنه جعل الصدى نفسه موضوعه، وإنما العبرة بإضافته الفنية في الأداء، وإفادته من عموم أدبيات الغيرة وفلسفتها .. ولا معنى لنفي عبدالمطلب محضية الاقتباس؛ لأن الأمر كما أسلفتُ طرْحُ موضوع مشترك للتجربة الفنية، وليس أخْذاً من موضوع في سياق موضوع آخر.. ومن جهة المصطلح فالاقتباس لا يكون بهذا الكم.. أي لايكون أخذاً للموضوع كله.
وعن القيمة الفنية بين ديك وعمر قال عبدالمطلب: «وهزت هذه المأساة الشعراء، وصوّروها في شعرهم تصويراً: يأخذ بمجامع القلوب، ويثير اللوعة والأسى.. ومن أبدع ما قيل في هذه المأساة تصوير كأس ديك الجن قصيدة «كأس» للأستاذ عمر أبي ريشة»(3).
وقال: «أما قصيدة عمر أبو ريشة فتتكون من سبعة مقاطع استطاع الشاعر خلالها أن يمنحنا صوراً فنية كاملة أكثر انسجاماً، ولقد قام الخيال عند «أبو ريشة» بدور فعًّال في إنضاج التجربة التي لا نعرف أن الشاعر خبرها في الواقع»(4).
قال أبو عبدالرحمن: قصيدة ديك الجن عادية سوى تطعيمات بلاغية في الأسلوب، وهي حكاية سردية لحادثة، وإنما الإثارة قيمةٌ جمالية يرتاح لها القلب من جهة دفع المَلَلِ، وحصول النُّدرة وإن كانت مؤلمة.. ودفع الملل والندرة قيمتان جماليتان، وقد بينت في كتيِّبي (جدلية العقل الأدبي) أن هناك عناصر جمالية خارجية ليست في النص الأدبي نفسه.. إن القيم الجمالية الساذجة في مقطوعة ديك الجن بلمحات عادية من التعبير غير المباشر مثل «روَّى الهوى»، وبتعليلات فكرية عن فرط حبه على الرغم من قتله لها، وذلك في البيتين الأخيرين.. مع سهولة اللفظ، وخلوه من التعقيد.
أما استجلاء القيم الفنية من شعر عمر فلا أستعجل به حتى نسمع قصيدته كاملة.. قال: «يُروى أن ديك الجن الحمصي قتل جاريته الحسناء حبّاً بها(5) وغيرة عليها، وجبل(6) من بقايا جثثها المحروقة كأسه، وكان ينشد بين شربه وبكائه أبياتاً من الشعر:


أجريت سيفي في مجال خناقها
ومدامعي تجري على خديها
روَّيت من دمها الثرى ولطالما
روَّى الهوى شفتي من شفتيها»

ثم قال عمر قصيدته هذه:


دعها فهذي الكأس ما
مرَّت على شفتي نديم
لي وقفة معها أمامَ
(م) الله في ظل الجحيم
دعها فقد تشقيك فيها
لفحة البغي الرجيم
وتنفُّسُ الشبحِ الشقيّ
(م) على جُذى حب أثيم
ما لي أراك تطيل فيّ
(م) تأمُّلَ الطَّرف الرحيمِ؟
أتخالني أهذي وخمري
(م م) صحوة القلب الكليم؟(7)
اشرب ولا تتركْ جراجَ
(م) السر تعوي في رميمي

*******


كانت تغنيني وكنتُ
أحسّ بالنعمى تغني!
هيفاء لم يبلغ مدى
إغرائها وهمي وظني
كيف ارتضتْ دنياي دنياها
على قلق وأمن
كيف استقتْ حبي وقصًّت
(م م) فيه أجنحةَ التمنّي
ما غرّها مني وماذا
أبقتِ الأيامُ مني
الشَّيب مرّ بلمتي
وأقام في عجزي ووهني؟
والشوق أحلام مخضبةٌ
(م م م م) تموت وراء جفني؟؟؟!!
نادى هواها فالتفتُّ
(م) وما رددْتُ له جوابا
وشبابها الظمآن بين
يديّ يستجدي السرابا!
فوجمتُ مجروحَ الرجولة
أخفض الطرف اكتئابا
ورجعتُ للأكواب أملؤها
(م م م م) على غصص شرابا
وأعبُّها حمَّى من (م)
الأهواء تصطخب اصطخابا
فإذا دمي في مثل وهج
(م) الجمر يلتهب التهابا
والنجم أسطعُ وهو يهوي
(م م) عن سماوته اغترابا

***


مالتْ عليًّ وطرفها
في يأسه يتضرعُ
وعبيرها ما سالَ من
صدر الربيع وأمتع
فضممتها فتنهدتْ
غصصٌ وصُكَّتْ أضلعُ
هي نشوة لم يبق لي
من بعدها ما يُطمعُ
كم ظبيةٍ قعدتْ بعبء
(م) جراحها تتوجعُ
لما رأتْ في خشفها
الجوعَ الملحَّ يروِّعُ
زحفتْ لترضعَه وماتت
(م م) وهْو باق يرضعُ!!

***


نامت وخلفَ نديِّ (م)
جفنيها حياةٌ تحلمُ
طوراً تقطِّب حاجبيها
(م) تارةً تتبسّمُ
وعلى ارتعاش شفاهها (م م م)
الحمراء بَوْحٌ مُبْهمُ
فدنوت أُصغي علّها
في همسةٍ تتلعثم
ورجفْتُ خشيةَ أن (م م م)
تطالعني بما لا أعلم
ورجعتُ أمشي القهقرى
وجوانحي تتضرَّم
وعلى خطاي أرى (م م م)
بقايا سلوتي تتحطَّم!!

***


نامتْ وجنح الليل جُنَّ
(م) وغيرتي الهوجاء غَضْبَى
أنا لن أعيش غداً فأروي
(م م) قلبها الظمآن حبا
من أين والدنيا طوت
أظلالها الفيحاءَ وثَبْا(8)
ومراكبُ الأيام شقَّتْ
(م) جبهتي دربا فدربا
نامتْ وأشباح الغد (م)
الباكي أدفِّعهنّ رُعباً
أيضمُّ غيري هذه النُّعْمَى
متى وُسِّدتُ تُربا؟
وَيحي لقد جفّ الرضى
رطباً وضاق الكون رُحبا(9)

***


قَبّلتها والليل ينفض
(م م) عنه أسرابَ النجومِ
ومدامعي تجري وكفِّي
(م م) فوق خنجري الأثيم
هي وقفةٌ رعناء ضاق
(م) بهولها حِلْمُ الحليمِ
فحملتُ شلْوَ ضحيتي
والنار حمراء الأديمِ
وجبلتُ من تلك الجذى
كأسي ومن تلك الكلومِ
وغداً أحطِّمها أمامَ
(م) الله في ظل الجحيم
فاشربْ ودعها فهي ما
مرّتْ على شفتيْ نديم!!»(10)

قال أبو عبدالرحمن: القصيدة قائمة على آخر ما بلغته الأسطورة من نسيج.. أعني نسيج البرنية، أو الكوز من رفاتها.. والمقطع الأول تقريري مباشر مع تحديد المصير بظل الجحيم، وهذا يحتاج إلى رهافة حسٍّ ديني!!.. وما البغي الرجيم سوى انها رفات ادمية قُتلت ظلماً.. والشبح شبحها حي، والحب الأثيم دعوى خيانتها.. ولا مجال لهذا؛ لأن البرنية والكأس الرفات كان بعد وفاتها والعلم بأنها لم تكن ذات حب أثيم.. والذي في الديوان ضبط «تنفس» على أنها اسم مضاف، والسياق بعدها يُحتِّم أن تكون فعلاً؛ لأن الفعل تجسيد للشبح؛ ليكون قطب الرحى في الحوار.. والبيت: «مالي أراك» من كلام الشبح.. ولا تعرف بعد ذلك أن الكلام حوار، وأن القائل الشبح (الكأس) أو صاحب الكأس إلا بالاستنباط، وهذا ضعف في أدب يكون الحوار من عناصره.
والمقطع الثاني يبدأ بجواب ديك الجن صاحب الكأس؛ فالخمرة لا تسكره؛ لأن كأسها الرفات يقظةٌ دائماً قامت على توهم الخيانة الذي أحدث القتل!!.. هذا يقول الشبح (الضحية التي رفاتها الكأس): اشرب.. وجراح السر هي نكبة الخبر الخفي المنظَّم عن خيانةٍ بريئةٍ.. وهذا المقطع أقرب إلى الإيحاء الفني، وأبعد عن المباشرة التقريرية.. وفي المقطع الثالث يذكر ديك الجن ذكرياته مع الكأس قبل أن يكون رفاتاً.. يوم كانت صاحبته ضحية الديك الجميلة.. أراد بهذا المقطع أنه لا يستحق حبها، إلا أن الشاعر الكبير أبو ريشة ضاق عطنه عن تعميق هذا المعنى فكرياً، وإبداع لوحته فنياً.. وفي المقطع الرابع عاد يصور هواها الجامح الذي فرغ من استعظامه وأنه أي أبو ريشة نائباً عن الديك ليس أهلاً له؛ فجعل شبابها الظمآن يستجدي السرابا!!.. فأي شباب في الكأس الرفات؟!.. إن المسألة تذكُّر وتمثُّل؛ لهذا كان وصاله في الكأس بما يعبه من خمرة فيها حتى التهب دمه جمراً، وختم المقطع ببيت من حسن التعليل عن سطوع النجم، والواقع أن النجم أسطع لقربه منّا لا لاغترابه!!.. وشرط حسن التعليل كون التعليل صحيحاً في ذاته مثل كون السيل حرباً للمكان العالي، ثم صحة العلاقة.. وجاء بمقطع خامس مكرر عن ذكريات العناق بالحبيبة التي كان رفاتها كأساً، وختم المقطع بموعظة لا علاقة لها بالموضوع ألبتة، وهو اختطاف المنون لظبي ما زال خشفها يرضع!!.. والمقطع السادس أيضاً تكرار ممل للذكريات.. وهكذا بقية المقاطع.
قال أبو عبدالرحمن: إن الأسطورة الفاجعة تحدث جمالاً من جهة الندرة، ودفع الملل، والإثارة.. والقصيدة عادية، وإنما كانت جمالاً فنياً في صياغة عُطيل شكسبير.. والناس يبالغون في الإطراء عند المقارنة دون تأمل وإحساس جمالي للأداء اللفظي والمقومات الفكرية والوجدانية.. إن كأس عمر أبو ريشة وهو الشاعر الكبير عادية عادية والسلام.
***
الحواشي:
(1) السياق عن سوابق؛ فالتعبير بسابقة قاصر.
(2) دراسات أدبية مقارنة ص 170 و172 ط دار الشؤون الثقافية العامة بوزارة الثقافة والإعلام ببغداد عام 1994م.
(3) دراسات أدبية ص 172 .
(4) المصدر السابق.
(5) قال الأصمعي: حُبَّ بفلان الشاعر أتى بالمصدر وعدي المصدر بالباء كما عدي الفعل بالباء، والمصدر يعمل عمله، فاستعماله صحيح.
(6) جبل بمعنى خلق، وليس ذلك إلا الله سبحانه؛ .. ولولا أنه استعملها بالباء في صلب قصيدته لقلت: لعل الصواب جعل.
(7) الميم (م) علامة تدوير البيت، وقد أكررها بمقدار الحروف التي يأخذها شطر من شطر.
(8) الأظلال: جمع الظل وزنه فِعْل وأفعال جمع قلة، وهو قياسي في هذا الوزن، وجمع الكثرة ظِلال وظُلول (أحمد القادري).
(9) الرُّحب بضم الراء السعة، وهو مصدر.. والرُّحب الواسع، وكذلك الرُّحْب فاستعمال الرُّحب صحيح (احمد القادري). (10) ديوان عمر «ابو ريشة» /133 143 نشر دار العودة ببيروت عام 1998م.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved