أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Saturday 13th October,2001 العدد:10607الطبعةالاولـي السبت 26 ,رجب 1422

محليــات

يارا
مات بامحرز
عبدالله بن بخيت
لا أستطيع أن أتحمل حقيقة موته.. ما زلت أشاهده يجلس ضاما قدميه وشماغه في أحضانه دافعا بيديه مقلوبتين فوقهما لكي ينتصب جذعه ويصبح جاهزا للكلام ومستعداً للدفاع عن آرائه إذا لزم الأمر وكثيرا ما يلزم الأمر. منذ ان سمعت خبر موته ما زلت أحاول أن أتذكر اليوم الأول الذي ألتقيته فيه دون جدوى. لم تتطور علاقتي به بالتدريج كما يحدث دائما بين البشر. أول يوم مثل أي يوم مثل آخر يوم. لم يمنحنا في الرياض أي فرصة لنتعرف عليه على المستوى العادي. جاء وجلس وسط المجلس وبدأ الحديث عن القصة وعن الحب وعن السياسة ثم فجأة ودون أن يختم حديثه انتصب وترك المجلس وحمل أطفاله وغادر الرياض وغادر المملكة وغادر الدنيا.. لم يسمح لأحد ببحث المسألة حتى هذه اللحظة لا نعرف ما الذي حدث ومن هو عبدالله بامحرز وما الذي جاء به الى الرياض وما هي الرسالة التي كان يحملها. اعصار ثقافي هائل صدم الثقافة الحديثة من وسطها. اقتلع مفاهيم من جذورها وزحزح ايمانات عن اماكنها التقليدية. رمى بالأوراق في وسط المجلس وترك شماغه على الكنب ولا نعرف لبس حذاء من عندما خرج، ربما ذهب الى الحمام أو البقالة. ثماني سنوات كل شيء في مكانه في انتظار ان يعود ويستأنف الحديث.. جاءني خبر موته عن طريق متعرج وبطيىء وممل ليمنحني فرصة رفضه أو رفض أجزاء منه. فشماغه وحذاؤه وأوراقه ما زالت في بيت صالح الأشقر في شارع ليلى الأخيلية.
كل الأصدقاء الذين اتصلوا بي لم يجرؤ أي منهم على تعزيتي فيه كانوا يسألون عن هذه الحقيقة الفظيعة وكنت أجيبهم: نعم، تسعين في المائة مات عبدالله بامحرز. فعشرة في المائة «أمل» تكفيني وتكفي كل أصدقائه للمناورة العاطفية. كانوا يريدون هذه العشرة في المائة وكنت أمنحها لهم بسخاء. لأول مرة أشعر ان الانسان يمكن ان يموت بنسبة معينة.
في أي لحظة ستعود الثمانينيات ويعود صالح الأشقر الى بيته في ليلى الأخليلية ويعود بامحرز على الأقل ليأخذ شماغه من هناك. ولكن إذا زالت تلك النسبة الصغيرة من حقيقة موته يصبح من واجبي الاعتراف بأن الثمانينات قد زالت من الوجود كما من واجبي أيضا العودة الى روايات لا حصر لها لأجدد علاقتي بها بعيدا عن بامحرز على ان أعود الى رواية مائة عام من العزلة وأنبش جثة ملكيادس من أعماق مستنقعات سنغافورة وأقول له مات بامحرز. أما أوراق ملر فأتمنى ان يقرأها صديق غيري ليخبرها بأن بامحرز قد مات. أما يوسف إدريس فأنا على ثقة ان بامحرز سيلتقيه على ضفاف وادي الموت ويناقشه حول حقيقة هروب زوجة البواب بعد هجم عليها البيه. شخصيات كثيرة ستضج في أوراقها إذا عرفت حقيقة موته. الأمير بوشكين بعد عودته الى سان بترسبرج. والدكتور برنار في صبيحة يوم 16 نيسان عندما تعثر في أول جرذ ميت. وأرتيمو كروز في ساعات احتضاره. وآخاب عندما لمح من بعيد عدوه الأسطوري وهو يضرب ماء المحيط بزعانفه. وأحمد عاكف عند رحيله مهزوما من خان الخليلي. وشارل بوفاري وهو يحمل رائحة الخيانة معه الى قبره. أيزبلا سيمور وغابريلا والزيني بركات.. متاهة من العوالم والشخصيات والأزمنة. عبدالله بامحرز كون مشوش ومختلط وممتنع تتراجع فيها الحقائق التي يجب أن نعيشها «بيت وعيال وأكل وشرب» أمام الحضرة الملحة والدائمة للأخيلة والعوالم المختلفة. نقرأ الروايات بصوت مسموع حتى نتحقق من وجودنا معا ومع الآخرين. لا أتذكر آخر رواية قرأتها معه ولا آخر شخصية روائية صاحبتنا في لقائنا الأخير.. ولكني أتذكر ان شماغه ما زال في بيت صالح الأشقر في شارع ليلى الأخيلية وعليه أن يعود ليأخذه.

أعلـىالصفحةرجوع
















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved