أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Monday 15th October,2001 العدد:10609الطبعةالاولـي الأثنين 28 ,رجب 1422

مقـالات

«القضيَّة» في مذكرات بيكر (4)
د. عبدالله الصالح العثيمين
كان مما أشرت إليه في بداية الحلقة الثانية من هذه الكتابة عن قضيَّة فلسطين في مذكرات بيكر أن موضوع الساعة عند نشر تلك الحلقة هو «ما حدث في أمريكا من إرهاب وما نتج عنه من فرض هذه الدولة على العالم كله خياراً واحداً هو عملياً أن يقفوا معها؛ سواء أظهرت من الأدلة ما يوضح صحة موقفها وصدق اتهامها لمن قاموا بما حدث أو لم تظهر.
ولأنها الأقوى فإن حكومات العالم ستنضم اليها وإن قالت إنها وضعت تحفظات على وقوفها معها. ذلك أن هذه التحفظات المقولة لن يكون لها في دنيا الواقع وجود لا حاضراً ولا مستقبلاً؛ بناء على مابرهنت عليه القراءة المتأملة للتاريخ».
ولقد نجحت أمريكا وما كان للأقوى المهيمن إلا أن ينجح في تكوين ما سمي بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب. ومن المعلوم أن بعض الدول انضمت إلى هذا الأقوى المهيمن لمصالح ذاتية وبعضها انضمت إليه اتقاء لشره، وقد حاولت وسائل إعلام غربية أن تعقد مقارنة بين هذا التحالف والتحالف الذي تمَّ نتيجة احتلال حكومة العراق للكويت. وكالعادة نقلت كثير من وسائل الإعلام العربي تلك المقارنة؛ قصدا أو غباء، دون تمحيص. وأي عاقل يدرك الفرق بين الوضعين. فاحتلال الكويت حدث مشاهد واضح يتفق أيُّ منصف على وجوب إزالته. أما الوضع الحالي فأوضح مايتصف به انه لا يوجد اتفاق على المقصود بالإرهاب المحارب؛ بل تُرك تحديده للدولة الأقوى. وسيعلم الجميع وإن بعد فوات الأوان أن مقاومة الاحتلال؛ سواء في فلسطين أو الشيشان أو كشمير أوغيرها من بلدان المسلمين، ستعد على الأرجح إرهابا، وسيضطر كثيرون الى معانقة الركب الأمريكي راضين أو كارهين .
* * *
وأعود إلى المذكرات:
بعد إخراج قوات صدام من الكويت، وتحطيم قدرات العراق العسكرية وتدمير بنيته الأساسية، وإرغامه على قبول شروط المنتصر المملاة على المهزوم، وصيرورة العرب إلى ما صاروا إليه من ضعف، رأى بيكر أن الجو قد أصبح مهيئا لإيجاد تسوية بينهم وبين عدوهم الإسرائيلي، أو ما يسمى) عملية السلام في الشرق الأوسط).
وكانت بداية تحرك بيكر في المجال المذكور أن قرر بالتشاور مع موظفيه الكبار اتباع ما قاله عنه حرفيا:
«سنحاول سلوك نهج ذي مسارين. وسوف نحاول إحياء عملية تؤدي إلى إقامة حوار إسرائيلي فلسطيني رغم اعترافنا بأن مسألة التمثيل الفلسطيني ستكون في النهاية أصعب القضايا على الحل. ومع ذلك وفي الوقت نفسه سوف نقترح مسارا ثانيا إجراء مباحثات مباشرة بين إسرائيل والدول العربية في شكل مؤتمر إقليمي حول الشرق الأوسط برعاية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي تمثل فيه كافة الأطراف. كان هذا الشكل تجربة محسوبة في غموض بناء. فيمكن للعرب الادعاء بأن هذا هو المؤتمر الدولي الذي طالما سعوا إلى عقده. وبالمثل يمكن أن تدعي إسرائيل أن هذا لا يعدو أن يكون مجرد مباحثات مباشرة أرادتها على مدار أربعين عاما، ولا تختلف عن مباحثات جنيف 1973م التي شاركوا فيها، وليست مؤتمرا دولياً موسعاً بزعامة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
وللعمل على تهيئة فرص نجاح المسار الثاني سيتعين عليّ إقناع كلا الجانبين بأن الجانب الآخر قد أبدى تغيرا في نهجه. ولهذا قررت اقتراح ما أصبح يعرف بالتبادلية المتوازنة».
ثم تحدث بيكر عن رؤيته لإمكانية نجاح اقتراحه قائلا:
«استندت حساباتي على افتراض بأنه سيكون من الصعوبة البالغة على العرب القول: لا، للولايات المتحدة بعد كل ما بذلناه في عاصفة الصحراء (هكذا وكأنهم فعلوا ذلك لعيون العرب). وكنت أعتقد، أيضا، أنهم لن يستطيعوا الجلوس على الهامش كما فعلوا عام 1989م. ولأسبابهم الخاصة عليهم أن يعربوا، أيضا، عن اهتمامهم بالقضية الفلسطينية. ومع فقد المتطرفين العرب لمصداقيتهم، وبعد أن دبّ الشقاق في صفوفهم، تعزز اعتقادي بأن العربية السعودية ودول الخليج الأخرى ستشعر بثقة أكبر، ومن ثمّ ربما تكون أكثر استعدادا للإقدام على مخاطر أكبر، وربما يصبح الأسد أكثر استعدادا لإبداء المرونة بعد أن أصبح حلفاؤه السوفييت شركاء لا متنافسين مع الولايات المتحدة. ولو استطعت إقناع الدول العربية بالموافقة على مباحثات مباشرة فلن يستطيع شامير الرفض في النهاية على حدّ اعتقادي».
ولإدراك بيكر لمكانة المملكة العربية السعودية وأهميتها في أي تحرك في المنطقة رأى أن تكون محور محاولاته، فقال:
«حددت الإطار العام لفكرة نهج المسارين، وعددت مجموعة تدابير لبناء الثقة التي قد تفكر فيها إسرائيل والعربية السعودية، واقترحت إمكانية التخلي عن مقاطعة السعوديين لإسرائيل، ورفض قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1975م بمساواة الصهيونية بالعنصرية، وإنهاء حالة الحرب مع إسرائيل ولقاء الإسرائيليين على مستويات دنيا أو تبادل سري لمعلومات المخابرات حول النشاط الإرهابي».
ومن المعلوم أن ما يعده الأمريكيون وحليفتهم الاستراتيجية دولة الصهاينة «نشاطا إرهابيا» منه ما يزاوله المقاومون للاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين.
وكل من درس تاريخ القضية الفلسطينية يدرك أن القيادة السعودية زادها الله توفيقا وسدادا في طليعة من يدعم مقاومة الاحتلال. وإن مجرد طرح الوزير لما طرحه عن هذه المسألة يعد جرأة مرفوضة؛ ناهيك عن أن يكون محل تفكير وتأمل.
وما الأمور التي قررّها صاحب «الخطوات المتبادلة المتوازية» مقابل تلك المسائل؟
قال الوزير:
« وفي المقابل فإنني مستعد لحثِّ شامير على الردّ بالمثل؛ مثل وقف الإبعاد والاعتقال الإداري للفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وسحب الجيش الإسرائيلي من مدن معينة في الضفة الغربية وقطاع غزة».
وللقارئ الكريم أن يحكم على مدى مصداقية ما ادعى بيكر أنه «خطوات متبادلة متوازية» . إن ما اقترحه على الجانب السعودي أمور جوهرية واضحة كل الوضوح وموقف المملكة كان ولم يزل على ما هو عليه أما ما أبدى استعداده للقيام به بالنسبة للصهاينة فهو مجرد حث لشامير على وقف الإبعاد والاعتقال الإداري، وسحب الجيش الصهيوني من مدن معينة (وتقرير عددها في يد محتلها) في الضفة الغربية وقطاع غزة. ومن المعلوم أن الإبعاد والاعتقال ووجود الجيش الصهيوني في مدن الضفة والقطاع أمور مخالفة لقرارات الأمم المتحدة التي لا تصدر إلا بموافقة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.
ولعلّ القارئ يدرك نفاق الوزير الواضح في مخاطبته طرفي الصراع. فعندما كان يتحدث إلى جماعة إيباك لم يصف الأراضي التي احتلها الصهاينة عام 1967م بالمحتلة، لكنه بعد أن أصبح يوجه كلامه إلى طرف عربي وضعها بما ينطبق على واقعها.
ولقد ادعى بيكر وللمرء أن يصدق ما ادعاه أو لا يصدقه ان مقترحاته لقيت صدى إيجابيا لدى وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي الذين اجتمع بهم مع وزيري خارجية مصر وسوريا. ولا يظن كاتب هذه السطور ان المملكة العربية السعودية وسوريا بالذات قد وافقتا على تلك المقترحات وفق حرفية إيرادها.
ثم قال بيكر:
إنه وجد رئيس مصر في حالة ممتازة عندما زاره بعد ذلك الاجتماع، وإنه بات من الواضح على الفور أنه يؤيد الولايات المتحدة بشدة، وأكد مرارا أهمية علاقته مع الرئيس الأمريكي؛ قائلا:
«إن القدرة على رفع سماعة الهاتف والتحدث مع جورج بوش لا تقدر بثمن».
أما ما اقترح بيكر، أو ما قال إنه سيحث شامير على فعله، فواقع الأراضي المحتلة في هذه الأيام يمكن أن يدل على مدى تحققه. وأما قرار الأمم المتحدة الصادر عام 1975م بمساواة الصهيونية بالعنصرية فألغي بفضل جهود أمريكا الصديقة، التي دللت على صداقتها الحميمة للعرب بأن زعيم أكبر دولة عربية له القدرة على رفع سماعة الهاتف للتحدث مع رئيسها؛ وهو أمر «لا يقدّر بثمن».
ولقد اختارت القيادات العربية السلام خيارا استراتيجيا في علاقتها مع العدو الصهيوني المحتل، أي أن حل القضية الفلسطينية في نظرهم لا يمكن أن يتحقق إلا بمفاوضات سلمية. ومتى حدث في التاريخ أن مغتصباً، وبخاصة إذا كان يتصف بما يتصف به الصهاينة من دهاء وخبث، قد أنهى احتلاله واغتصابه بدون أن يواجه كفاحا مسلحاً؟
قد تكون التضحيات كبيرة جدا. ولكن «لابد دون الشهد من إبر النحل».
والمثل المحلي يقول: «ما هنا دم إلا بفصد عرق».
إن ثوار الجزائر الأبطال لم يضعوا السلاح إذ كانوا يفاوضون الفرنسيين المحتلين، وإن ثوار فيتنام لم يوقفوا نضالهم عندما كانوا يتفاوضون مع الأمريكيين المعتدين. ولو لم يكن الكفاح المسلح الحاضر الأكبر في مسار الأحداث لما تحررت الجزائر من نير الاستعمار الفرنسي، ولما دُحرت أمريكا وجرت أذيال خيبتها من فيتنام.
ثم تكلم بيكر عن ردود فعل قادة الصهاينة على مقترحاته، ولمعرفة هذه الردود قدم إليهم في فلسطين المحتلة. وقال: «قبل وصوله إلى هناك بيوم كان إرهابي فلسطيني قد طعن أربع سيدات حتى الموت في القدس..» وإنه (أي بيكر) رغبة في مواساة أسر الضحايا توجهتُ بالسيارة إلى مقبرة (جيفات شاؤول) للترحم على الضحايا.. وكشفت الوحشية في قتل النساء الأربع لي البعد الإنساني لمأساة الشرق الأوسط..».
ترى لو أن وصول الوزير المحترم إلى فلسطين المحتلة بعد يوم من قيام ذلك اليهودي بقتل عشرات من الفلسطينيين الأبرياء وهم يؤدون الصلاة في المسجد الإبراهيمي هل سيصف ذلك القاتل بالإرهابي؟ وهل سيترحم على ضحايا تلك المجزرة؟ وهل سيكون هناك حديث عن بعد إنساني؟
إنها الإنسانية الأمريكية ذات المدلول الرفيع جدا. وما إمدادها المتواصل للصهاينة بكل ما يريدون لإبادة الشعب الفلسطيني إلا واحد من الأدلة الواضحة على رفعتها ونبلها.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved