أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 18th October,2001 العدد:10612الطبعةالاولـي الخميس 2 ,شعبان 1422

الثقافية

هكذا
حقول الأسمنت
فهد العتيق
*«كليني لهم يا أميمة ناصب، وليل أخفقت أن أتذكر أوله، وبرد في أوردتي، ينازعني خفق الدم، وأنا يا بنت العم مضنى القلب موجعه، أطلع من غيبوبة فأتردى في أخرى، في كل مرة يكتشف جسدي تفاصيل جديدة داكنة، عندما أفقت في المرة الأخيرة، أدركت دفعة واحدة أني قد تورطت على نحو بالغ.
أفر من شرك فيطوقني شرك أكثر حيلة، وأشد بأساً، أجر جسداً راعفاً نخرته المواجع وقد كانت تتكسر فوقه النصال حيث شب عن القاع بذراعين أو أدنى دفعت به الى عناق النخيل يحتضن الشمايخ واحداً واحداً ويعانق الطلع، ورميت به في الحقول يشق الأرض وينثر البذور، ويرى نحو السنابل لحظة بلحظة وتركته عند الينابيع وعيون الماء ينشر القرب على ظهور الدواب، يرفع الجرار ويمازج الصبايا ويغني..».
* أذكر في عام 1987م ان الصديق الكاتب والفنان الراحل عبدالله بامحرز قرأ علينا قصته «حقول الأسمنت» حفظاً، والآن رغم مرور كل هذا الوقت «14» عاما لم أقرأ لعبدالله «رحمه الله» نصوصاً أخرى، وما زلت أقرأ هذا النص المتقدم كما لو أنه قصيدة.
قصة حقول الأسمنت وحقوله الأخرى، شهادة فنان مكسور ومحبط، وشهادة على وجود فنان على هذه الأرض.
قصة متوترة، عالية الفن.
قصة على وشك القصيدة، أو قصيدة على وشك القصة، لا فرق، المهم ان هذا النص يجعلك تتشابك مع واقعها، وهمومها وأسئلتها وأغانيها حتى أقصى حالات الفن.
هذا التوتر وهذه القيمة الفنية العالية في النص تنهض على أرضية موضوعية قوية ومتماسكة أو لنقل على أساس فكري لا يقل مستوى عن الفن، وهذه أهم سمات النص القصصي المتمكن، أو أهم سمات قصة الراحل المبدع عبدالله بامحرز.
في ذلك الوقت 87م، كنت أقول ان هذا النص معجب بذاته وبامكاناته كثيرا، لأن الشعرية طاغية والذاتية أيضا، وربما نقول الفلسفية والسريالية والرمزية كذلك، وهذا هو الفن الذي يستفيد من كل المدارس، وتلك الذاتية كان يعبِّر عنها الاحساس بالمرض «أجر جسدا راعفا نخرته المواجع»، والاحساس أيضا بانكسار أشياء كثيرة قبل المرض، وقد تكون تلك الأحلام المنكسرة سببا للمرض «في كل مرة يكتشف جسدي تفاصيل داكنة جديدة»، فهذا الذي نثر البذور ورفع جرار الماء ومازح الصبايا وغنى، لم يستطع ان يتقبل فكرة ان تموت الأحلام، المعادل الموضوعي للواقع، هكذا، دفعة واحدة، فأصاب العطب هذا الجسد ومات كجسد، لكنه ترك قلبه وأحلامه مثل بذور رمى بها في الحقول.
* قلت لعبدالله بامحرز، في ذلك العام، إنني قرأت حقول الأسمنت وهي بصراحة من النصوص القليلة التي تحفزني دائما على كتابة نص قصصي جديد.
قال لي: والدليل قصتك «مثاليات ليلة البارحة» المنشورة في مجلة اليمامة.
قلت: ماذا بها؟
قال: اتصلت بمحمد الحربي في وقتها وقلت له هذه هي النصوص التي تستحق القراءة.
* في ذلك الوقت كان ملحق اليمامة الثقافي مزدهراً بالابداع الأدبي المدهش والمثير وكان هناك الملحقات الثقافية في صحف اليوم وعكاظ والرياض والجزيرة، كان الوقت مشتعلا بالفن وكنت تستطيع ان تقرأ نصا أدبيا عاليا ومميزا كل يوم. لكن الحال تبدل الآن وأصبحت هذه الصفحات الثقافية تستسهل نشر الكتابات النقدية أكثر من النصوص الأدبية الابداعية المثيرة للاسئلة وللجدل.
لكن السؤال لماذا كان الكاتب الراحل عبدالله بامحرز مقلا في كتابته، لماذا لم يكتب سوى نصوص معدودة على أصابع اليدين، ليس عبدالله فقط، هناك الكثير من أدبائنا الذين شارفت أعمارهم على الخمسين ولم يطبعوا سوى كتاب واحد أو أنهم لم يطبعوا على الاطلاق.
* إذا كان النقد الحقيقي يرفض أن يكون الكاتب غزير الانتاج وبمستوى متواضع، فإنه أيضا يطالب الكاتب بأن يواصل رحلته الأدبية بصبر وجلد ومثابرة واحتشاد حقيقي، وأن يواصل الكتابة في مشروعه الأدبي بكل اخلاص وبلا كسل، لأن قيمة الكاتب الأولى في استمرار مشروعه، فبدون هذا الاستمرار لا تستطيع ان ترصد مستوى تطوره، وطبع عشرة كتب «مثلا» في حياة الكاتب ليست انتاجا غزيرا على مدى ثلاثين عاما تقريبا، بمعنى كتاب كل ثلاثة أعوام، وإجابة على السؤال السابق: لماذا كثير من أدبائنا يكتفون بعشرة نصوص على مدى حياتهم الأدبية بدلا من عشرة كتب على سبيل المثال؟ نسأل أيضا: هل يعود هذا لأن المشروع الأدبي لدينا ليس جادا في الأساس؟ يعني مجرد تسلية؟! أم ظروف الواقع المحبطة؟! لكن هذه الظروف يفترض ان تكون دافعا مضاعفا للمزيد من العطاء والانتاج كما هو حاصل في كثير من الدول العربية، لأن الأديب في الغالب ينسى كل شيء ويتحدى ويراهن ويركز على مشروعه الأدبي، لهذا تلاحظ استمرارية المبدع هناك ومواصلته للكتابة والابداع والطبع داخلا في تحدٍ فني وموضوعي مع ذاته ومع زملائه ومع واقعه الذي يعيشه أولا وأخيراً.
* حقول الأسمنت ونصوص ابداعية ونقدية وتشكيلية أخرى لعبدالله بامحرز سوف تظل في الذاكرة الى الأبد ونأمل من أصدقائه المقربين طبع كتاب يحفظ نصوص هذا الفنان والمثقف الجاد والصادق والمبدع، على أمل ان يعود الحراك الثقافي والأدبي والابداعي لصفحاتنا الثقافية مرة أخرى، وهذا ما لاحظنا بدايته مطلع القرن الجديد بالمزيد من الاصدارات الأدبية لأسماء أدبية جديدة سوف يكون لنا مع كتبها الجديدة وقفة في «هكذا» قادمة.
fahdateq@hotmail.com
ص.ب: 7823 الرياض 11472

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved