أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 25th October,2001 العدد:10619الطبعةالاولـي الخميس 9 ,شعبان 1422

الثقافية

نهار جديد
المبدع ليس مقاولاً
عبدالله سعد اللحيدان
للحرية الدور الرئيس في تحقق الإبداع ونموه وتطوره وتجدده، نعم، ولكن هل الالتزام يقف حجر عثرة في الطريق؟
ربما لاقى الالتزام أكثر من تهمة، ليس أقلها أنه يقيد المبدع بتعليمات وأفكار مسبقة قد تسيطر على إبداعه وتحدد له ما يجب وما لا يجب.
ولكن هل هذه التهمة حقيقية؟ ربما، وربما كانت تنطلق من أفق ضيق لا يرى سوى بعض الأعمال التي ليست هي أكثر من نماذج تحاول ترجمة وترديد بعض الأفكار والمصالح وترديد وتجسيد بياناتها وشعاراتها وتعليماتها في خطابية سطحية مباشرة تحاول التلبس بالإبداع واستغلال مكانته وتأثيره في الناس.
ولعل الذي كرّس هذه النظرة الأحادية الضيقة وما نتج عنها من لبس، استغلال بعض القوى المعادية للإبداع لهذه النماذج الإبداعية السيئة واتخاذها نموذجا لالتزام المبدع وما ينتج عن التزامه من بعد عن ماهية الإبداع، وان التزامه هو ما جعله يتخلى عن حريته الضرورية وإرادته الحرة التي يقتضيها كونه مبدعاً.
بينما لا يتعارض الالتزام الحقيقي بالحرية وبالإنسانية مع الموهبة ولا يحد من قدراتها ونبوغها وتجلياتها، بل يمدها بطاقة مضاعفة لتتجاوز ذاتيتها وفرديتها المحدودة إلى آفاق إنسانية أرحب تمتزج من خلالها وبها مع الإنسان، كل إنسان في هذا الوجود، ومهما كان زمانه ومكانه.
هل هناك تناقض، وبماذا يلتزم المبدع لكي لا يتعارض التزامه مع ما يقتضيه الإبداع من حرية؟
يلتزم بحريته الإنسانية وبالإنسان وبما يفرضه عليه هذا الالتزام من قيم ومبادئ فاضلة.
ولا معنى لأي التزام تنقصه الحرية في الاختيار، أي لا معنى لأي التزام مفروض، سواء جاء هذا الفرض من قواعد وأعراف وسياقات وأنساق ومدارس فنية جمالية التبست بالنوع الإبداعي، أو جاء هذا الفرض من قواعد وأعراف وحدود وتعليمات تقرر ما هو مسموح وما هو ممنوع وترسم خطوطا حمراء وخضراء ونقاط تفتيش ملتبسة بأيدلوجيات أو مصالح أو أعراف اجتماعية.
أي إن على المبدع أن يختار ما يلتزم به وهو في كامل حريته المادية والمعنوية.
التزام المبدع بهذه الحرية الإنسانية والتبشير بها والدفاع عنها لا يمكن أن يتعارض مع المضمون الإنساني الذي لا يمكن أن يتعارض معه الشكل، كون الشكل عنصراً من عناصر المضمون والمضمون عنصر من عناصر الشكل، يتكاملان تلقائيا وعفويا ويتحدان عضوياً وهما يتخلصان، عندما يساند كل منهما الآخر، من قيود النوع وأعرافه، إذ يتخلص المضمون الجديد من تقاليده السابقة ليولد معه ومنه وفيه شكل جديد يعبر عن هذا المضمون، وليس من أجل أن يقدم نفسه كشكل أو مضمون جديد لمجرد الاختلاف فقط عن أشكال ومضامين قديمة أو مستهلكة أو فقدت مفعولها.
وهنا يأتي تكامل آخر يظهر في الأعمال الإبداعية الناجحة حين تمتزج القيمة بالجمال والتقدمية بالأخلاق والمنفعة الإنسانية بالإبداع، عندما لا ينفي كون بعض النماذج الإبداعية نافعة وبعض الأعمال النافعة جميلة وإبداعية وحين لا يتنافى الهدف الإنساني مع الإبداع الفني الذي ينجح في تجسيد هذا الهدف ولا ينتقص هذا الهدف من جمال الإبداع الذي يتبناه.
وينتج عن هذا التزام آخر، هو أن يقوم المبدع بمحاولة تقديم إبداع إنساني يضيف كل الممكنات الفنية والجمالية اللغوية والتصويرية، والتجديدية والابتكارية في اللغة والبناء والأشكال إلى المضمون الإنساني ليقدم إنتاجاً إبداعيا إنسانياً يسهم في تحرير الإنسان وتوعيته بأنه حر في التزامه وملتزم بحريته دون استلاب أو تعمية أو تمويه أو تخدير أو فصله عن حاضره أو مستقبله بمحاولة إبقائه رهناً لماضٍ ميت أو لمستقبل غامض، بل في مجادلته ومعايشته ضمن بيئته الاجتماعية ومرحلته التاريخية وظروفه المكانية مستندا إلى ثقافات وخبرات وفكر وفلسفة ووعي بقوانين تطور الواقع وفي إطار فني يتجاوز الذاتية إلى المشترك الإنساني الذي لا يلغي الأصالة والفردية، وفي سعي حثيث لرسم سمات الكمال لإنسان المستقبل، ودون الالتفات لمن يخون الرسالة السامية للإبداع وللكلمة تحت غطاء الاشمئزاز والملل من التنوير والإصلاح والمواجهة تحت عباءة التوفيقية أو الأدب الصافي الذي يفصل بين الإبداع والواقع ويفصل بين المبدع وإنسان هذا الزمن، ودون الالتفات إلى دعاة الماضي الذين يتحدثون بلغته الميتة أو دعاة المستقبل البعيد الغامض الذين يتحدثون بلغة مفترضة قد تجيء وقد لا تجيء ولا يفهمها إنسان الحاضر، ودون الوقوع في أسر دعاة الهروب من الواقع الإنساني عبر الغموض والجمالية المجانية والصور واللغة الاعتباطية أو الذين يقاربون الإبداع دون فهمٍ ووعي وتمثل لقوانين التطور الاجتماعي وعلاقات الإبداع الجدلية بمختلف المراحل الاجتماعية والاقتصادية وظروف المعيشة والعمل التي توجه التطور الإنساني.
المبدع الذي يلتزم بحريته الإنسانية وقضاياها المصيرية يعرف تماما أن إبداعه يجب أن يكون وثيق الصلة بالواقع وان غايته ليست المتعة فقط، وأن الإبداع ليس نشاطاً تأملياً غارقاً في عزلته المرضية أو برج عاجيته، بل هو ضرورة إنسانية لا غنى عنها، كما أنه ليس ترفيهاً ولهواً وزينة وتفاخراً، وليس لإشباع نزوات فقط، كون الإنسان ليس مجرد جسد يكتفي بإشباع حاجاته البيولوجية، بل روح سامية تحتاج إلى غذاء روحي خاص يسمو فوق الاختلافات العرقية والأيدلوجية وصراع المصالح والقناعات ليشبع الحاجات الروحية والوجدانية ويجسدها ويعبر عنها ويجادل قضاياها، ووسيلة لتحصيل الوعي والمعرفة ولشحذ حماس الإنسان وقدراته وإمكاناته ودفعه إلى الأمام وإلى أعلى، ودون أن ينفصل أو يفصله عن الواقع، حتى وإن سبح ضد هذا الواقع، وبخاصة إذا كانت مظاهر هذا الواقع تسبح في الاتجاه الخطأ.
وأرجو، في هذا المقال، أن أكون قد بينت وجهة نظري، أو توضيحاً لما نشرته بعض المجلات العربية في حواراتها معي قبل عدة سنوات، وبخاصة الحوادث والشراع والصدى، عندما تطرقت إلى الالتزام وإلى الأدب الإسلامي بخاصة وقولي: «إن المبدع ليس مقاولاً، مما جعلني، وحتى الآن، عرضة للمساءلات ومن أكثر من فئة يهمني أن يفهموا أولاً، وبعد أن يفهموا جيدا ما يقال يكون للحوار معهم جدوى وفائدة».

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved