أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 25th October,2001 العدد:10619الطبعةالاولـي الخميس 9 ,شعبان 1422

الثقافية

«قلب ونفق وقمامة»مروية حياتية واقعية!
يوسف بن عبدالرحمن الذكير
تصفَّح الأخصائي الجنوب آسيوي ملفه المتخم بعشرات الصفحات، من مختلف البيانات، أشعة سينية، تحاليل مخبرية، ورق مربعات يحدد مسارات نبض مضخة الحياة وتقارير طبية تروي ما قبل وما تلى عملية قلب جراحية من فحوصات موجات صوتية، واختبارات جهد، وقسطرة، وما عانى من مضاعفات ولكن كيف يتسنى لأخصائي مناوب يتزاحم على بابه بضع عشرة أيضاً في مستشفى حكومي، ان يتفحص كل تلك التقارير والبيانات لكل من أولئك المرضى ضمن مدة لا تزيد عما بين انتهاء فترة الغداء وأذان صلاة العصر؟!.. فلا غرابة ان تصفح دون أن يتفحص ملفاً لا يقل بدانة عن ملفات بقية المرضى.. ملف عانى ولازال من انتفاخ جوف مزمن ناجم عن تلبك تكدس متراكم، جوف لو كان لإنسان لاشتكى من إمساك واحتقان.. ولكن ما لملفٍ لسان!!أطلق الأخصائي سهام نظراته من فوق إطار نظاراته المسترخية على حدبة أنفه، سائلا مريضه ان كان يتعاطى علاجاً لارتفاع نسبة الكولسترول؟.. فتنافست علامات الاستفهام وملامح الاستغراب لاتخاذ موقع على صفحات وجهه، إذ إن آخر اختبار للدم، مضى عليه سنوات، دون أن يسأله من تعاقب على متابعة حالته، من أخصائيين ذلك السؤال؟.. اخصائيون لا يحفظ سوى اسم أولهم .. أخصائي سعودي ، فحص وقسطر ثم قرر إجراء عملية القلب تابع حالته ردحاً، ثم حجبه ارتقاء سلالم المراتب، وما يصاحبها من تعاظم وتبدل المسؤوليات!.. أما البقية فليس لهم هوية، في أرشيف ذهنه، سوى الجنسية.. سعودي آخر، لم يتكرر.. فسوداني، ثم أردني، وها هو أمام أخصائي من شبه القارة الهندية صحيح أن أحدهم لم يسبق وأن سأله عن تناول دواء لتخفيض نسبة الكولسترول، رغم ان التقرير ذاته عن تحليل الدم كان أمامه!.. فاجأه السؤال فتلعثم رغم انه متعلم، فهو مهندس مدني، تلقى علومه في الغرب.. وربما لعب نمط التعليم في الغرب دوراً في تهيبه من مسألة اختصاصي في علم ليس له به علم!.. إجابته بالنفي لم تحفز الطبيب لإضافة دواء جديد لقائمة الأدوية المعتادة فحسب، بل وملأ استمارة، لإجراء تحليل للدم، يسبق موعده القادم، بأسبوع.. لكن الاستغراب، وان بارح قسمات وجهه ما برح يتسكع بين تلافيف ذهنه!..
أسرع يسابق الدقائق، لعله يسبق أذان العصر.. ولكن ما ان عبرت وصفة الادوية شباك استقبال صيدلية المستشفى حتى أسدل شباك الدواء بابه، استجابة للأذان.. عاودته ذات الأفكار، التي تعودها كلما عاود اتخاذ مقعده بين المرضى المنتظرين.. ألا يسمح الدين، أن يتعاقب الصيادلة على أداء الصلاة، رأفة بالمرضى المنتظرين، بل انه لمح قسمات وجه أكبر الظن أنه لا ينتمي للعقيدة السمحة فلم لا يخفف من عبء انتظار المرضى وحتى لو لم يكن ذلك الشخص كذلك، لماذا لا تعمد المستشفيات، لاحضار صيادلة لا توجب عليهم الصلاة؟.. ألا يمثل ذلك حلاً لفك الاختناقات حول الصيدليات، ويخفف عن المرضى بعض المعاناة.. وخاصة وان المستشفيات وخاصة المتخصصة منها تعج بأطباء وممرضات ممن لا يدينون بالإسلام دينا؟ أليس الدين يسراً لا عسراً؟ أسئلة طالما تكررت كلما، تململ ضجراً، من انتظار ساعة كاملة مشاركا بقية المرضى تبرمهم المكتوم! إلا أن سؤالا آخر أضيف هذه المرة، سؤال يدور حول محور مدى الحاجة للدواء الجديد؟!.. إذ كيف لم يلاحظ جميع من سبق الأخصائي الجنوب أسيوي الجديد، من الأخصائيين ارتفاع نسبة الكوليسترول في دمه؟.. أم ان الاخصائيين كغيرهم من المختصين.. كل له رأي .. وكل له فتوى؟! .. ارتاب في جدوى تناول الدواء الجديد، فقرر اجتناب ما يريبه الى ما لا يريبه، امتثالاً لنصيحة دعاية تلفازية لاحد المصارف الاسلامية..!
انقضت الساعة ورفعت حواجز نوافذ صرف الدواء نودي على رقمه بعد فترة انتظار اضافية ولكن كان في انتظاره مفاجأة أخرى. كان يتوقع الا تصرف الكمية الكاملة من الادوية ، فلقد اعتاد ذلك منذ ان هبطت أسعار النفط الى مقرها الادني رغم ارتفاع الاسعار مرة أخرى إلا ان ارتفاعها لم يرفع حجب الكمية الكاملة عن المرضى لكن المفاجأة كانت عدم وجود بعض أنواع الأدوية!.. أخبره صارف الأدوية بلهجته (العادل أمامية)، بأن يعود بعد «أزبوع.. واللا أزبعوين» للحصول على بقية الأنواع !.. رغم تذمره إلا أنه حمد الله في سره من أنه من سكان العاصمة وليس من سكان بلدة بعيدة أو قرية نائية، وإلا لتجاوزات ، معاناته، أضعاف مجرد تسلق نفق! نفق طالما شكل الانحدار اليه والصعود منه إشكالية لمن يعاني أمراض قلب من أمثاله.. ولكنه ابتسم!.. ابتسامة لم يدعها ترتسم، على شفتيه خشية ان تفضح ما جال في خاطره!.. النفط يغير نمط حياتنا حين شاد أبراجاً للمنتفعين ومد جسور للقادرين وحفر أنفاقا للمشاة العابرين، بل وتحكم حتى في وفرة وندرة دواء ضعفاء معلولين..!
<<<
النفق الفاصل والواصل ما بين مواقف السيارات ومدخل المستشفى ربما كان الحل الأمثل كمعبر آمن للمشاة فهو لايمر من تحت طريق تتسارع وتتصارع فيه سيارة الاجرة مع سيارات المتهورين ويعتليه جسر «الخليج» الذي ربما لا يفوقه طولا وتزاحما سوى الجسر العابر للجزيرة المتوسطة ما بين محافظتي الجيزة والقاهرة في عاصمة الكنانة فهو نفق فريد جدير بالتقدير ولكن..
إن نجح ذلك النفق في توفير الأمان، فإنه أخفق في توفير الراحة لأغلب عابريه المرضى.. ابتسامة تساؤل أخرى، داعبت خاطر المهندس المريض وهو يجتاز ذلك النفق مرة أخرى!.. كيف نفسر توفير المجمعات التجارية الكبرى، السلالم الكهربائية المريحة لزبائنها الأصحاء فيما تعجز البلديات والمستشفيات عن توفير ذات السلالم للمرضى؟.. اتسعت ابتسامته حين تذكر بدايات إنشاء الانفاق في عهد الطفرة الكبرى فحينذاك قامت البلديات بوضع سلالم متحركة عند مداخل ومخارج تلك الانفاق تشجيعا منها للمشاه على استعمال تلك الأنفاق، ولكن الاجتهادات وربما كان للنفط أيضا دور خفي على إزالة تلك السلالم..!
الا أن ابتسامته سرعان ما بهتت حين تذكر ان تلك السلالم كانت هي الأخرى للأصحاء وليس للمرضى!.. ثلاثة وثلاثون درجة كان على مهندسنا الكهل ان يرتقيها عند مخرج النفق اما مدخله من الجانب الآخر الاقرب لمواقف السيارات فكان منحدرا يعاني من إهمال صيانة كالمخرج.. بلاطات نافرة واخرى هاربة من طول ما عانت من وطء الأقدام .. مسكات محطمة، تاركة خلفها حواملها البارزة فخاخا للجروح، أو شق الجيوب لم يجد المهندس عناء في حساب ما على كل مريض أن يتكبده من عناء، فعدد تلك الدرجات إن أضيف لها درجات المدخل الثلاث عشرة تعني أن على مريض القلب نزول وارتقاء عمارة يزيد ارتفاعها عن أربعة أدوار في كل ذهاب وعودة، لكل رحلة مراجعة!!..
شق طريقه كالمعتاد بصعوبة بالغة في الممرات المكتظة بجموع المراجعين شيوخ تتمايل وشيوخ تتعكز وشباب يتعجل وأطفال تتقافز.. صالات الانتظار هي الاخرى كانت مكتظة بالمراجعين.. فسر له بعض العارفين، سبب ذلك الزحام الرهيب بأن عدد المرضى المراجعين لذلك المستشفى سنوياً قد ناهز المليون ونصف!.. أبى تعليمه الهندسي المتشح بمنطق الأحصاء والمتزنر بنطاق الأرقام، تقبل ذلك التفسير!!..
إذ يعني ذلك ببساطة أن إضافة عشرات المستشفيات والمستوصفات الآخرى المنتشرة لا في العاصمة وحدها بل وفي كل المدن وبلدات المملكة الأخرى سيزيد مجموع مراجعيها عن سكان المملكة بمن تستضيفهم من أجانب .. فهل أن جميع السكان مرضى؟
.. قد يكون التفسير الأقرب للمنطق هو شحّة المستشفيات المتخصصة من جهة.. وصعوبة الوصول الى البعض منها من جهة أخرى الا على من رحم ربي بعلاقة أو واسطة!..
انتشله من دوامة التفكير وصوله لشباك تسجيل مراجعي تحاليل الدم تفحص الشاب المسؤول أوراقه المكونة منذ أن عبأها الاخصائي، قبل ما يقرب من سنة ثم سأله إن كان صائما؟..
باغته السؤال اذا لم يطلب منه أحد أن يصوم قبل أخذ التحاليل!.. طلب منه الشاب أن يعود غداً بعد صيام 14 ساعة من موعده .. تنهد بحسرة حين تذكر أن عليه ان ينزل ويصعد أربعة أدوار أخرى يوم غد..!
لم يكد مهندسنا الكهل يهبط الى النفق عائداً حتى تلفت مقارنا فالنفق لا يقل عنه كمداً وحسرة.. كمدا على ما ضاع من نضرة الشباب وحسرة على ما يعاني من إهمال!.. فالزمان لم يكتف بتكسر أسنان بلاطاته، وارتجاف مفصل مسكاته، بل وغير لون وملمس جدرانه فبهتت بعد نضارة واكتهل بعد شباب فلم يعد أحد يهتم بحاله!.. سواقيه المغطاة بشرائح الفولاذ كمصائد لمياه الأمطار صدأ اعلاها أمتلأ جوفها بمخلفات السجائر.. ممشاه تبرز من ثناياه، نتوءات وتعرجات متحدبة ومتقعرة فحسب بل ملأه الاهمال بمختلف المخلفات.. أكياس بلاستيكية عمرت ذات يوم بالمقتنيات.. فرميت بعد ان فرغت .. قناني وعلب كانت تزين الأرفف المبردة وتتناقلها الأنامل برقة وتؤده تبدو اليوم منفرة بازدراء.. مناديل ورقية خدمت بإخلاص ورقَّة، هي الأخرى منكرة، تزيد منظر النفق الحزين كآبة وحسرة..
خواطر مرت بذهن مهندسنا المكتهل بالمرض وتقلب الأحول، ختمها بتساؤل مضن.. أتلك قمامة، أم ذكريات، ما عادت جديرة بالالتفات؟..
لكنه سرعان ما هبط من سماء الخواطر الى فناء الواقع ليسمي الأشياء بأسمائها فتلك مجرد قمامة ومهملات لا تعكس فحسب عجز حضارة العصر عن اقتلاع سيء العادات بل وحتى قصور الإيمان الداعي للنظافة وإزاحة الأذى عن الطريق!..
إلا أن مهندسنا الكهل ما أن وصل بعد عناء، ليقود سيارته في الطريق السريع وتصبب وجهه عرقا وحنقاً من تجاوزات المتهورين ومضايقات الطائشين، حتى انتزع منديلا من علبته العصرية الزاهية، ما سحاً به جبهته ملقيا به من النافذة، مع مثلياته، فالمجتمع وخدماته، لن يشفيه من علله سوى إشراكه في تحمل المسؤولية والقرار.

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved