أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 26th October,2001 العدد:10620الطبعةالاولـي الجمعة 10 ,شعبان 1422

الثقافية

قصة قصيرة
مذكرات مجرم تائب
كان رجلاً في خريف عمره.. اكلت الدنيا ما في قلبه من العزم وما في جسمه من القوة ولم يبق له سوى نظرة ذاهلة وجسم ناحل لا يبرز منه سوى العظم.. يسير في الشوارع بين الازقة.. يحمل على كاهله أربعين عاماً من الشقاء والبؤس.. حياته تسير على وتيرة واحدة.. اليوم كالأمس والأمس كالغد والغد كأي يوم سيأتي بعد عشر سنوات.. كل ما يفعله هو البصق امامه بقرف وكأنه يبصق على كل ما تسبب في أذاه.. أولاً . صديقه. أو من كان يعتقد أنه صديقه.. ثانياً ابنة عمته منال.. اخيراً انهكه السير على غير هدى.. جلس على حجر، مقعد هو لا يعرف فقد فقد كل شيء حتى مقدرته على تمييز الاشياء حوله.. احس انه يشبه الى حد كبير ذلك الشيء الذي يجلس عليه.. ايقظه من افكاره صوت منبه سيارة قادمة من بعيد.. ارتسمت على شفتيه ابتسامة سخرية على نفسه التي تسير بخطى حثيثة نحو الهاوية.. اخرج من جيبه كل ما يملك.. دفتر جلدي اسود يملكه منذ الصغر.. قلم شارف حبره على الانتهاء.. وبضع وريقات نقدية تصدق بها عليه احد المارة.. فتح الدفتر وكل حزن الدنيا يجتمع في عينيه.. اراد ان يسترجع احداث سنوات الشقاء.. عسى ان تذهب بشاعة الذكرى إما بروحه فترديه صريعاً او بعقله فلا يحس بما حوله ثم لا يطاله عتب البشر.. فتحه وبدأ يقرأ ما كتبت يداه منذ خمس وعشرين سنة .. «اليوم بلغت الخامسة عشرة من عمري قدمت لي امي هدية رائعة كروعتها.. أما أبي فاكتفى بأن قال لي كل عام وانت بخير ولكن هذا لا يهم فأنا احبهما كليهما.. حضر الحفلة وايضاً حضر ناصر وقد دعوت معلم الانشاء لحفلتي وقد قال لي كلمات رائعة.. قال انك طالب نجيب.. ولو واصلت بهذا المستوى سأفتخر يوماً امام اقراني بأنني كنت معلماً لأكبر كاتب وروائي في عصرنا.. احسست بالسعادة الغامرة في تلك اللحظة.. وها أنا سأنام وانا احلم بأن اصبح كاتباً كبيراً في المستقبل ان شاء الله» قلب الصفحات بقرف.. اي كاتب هذا الذي سأصبح..؟! أحس بالسؤال يخترق قلبه كسكين ذات نصل حاد.. فتح صفحة اخرى وبدأ يقرأ ..«بعد ثلاث سنوات من وفاة والدتي قرر أبي أن يتزوج.. هو لم يطلب رأيي ولكنه لو فعل ما كنت لأمانع.. فمن حقه أن يعيش سعيداً.. قررت أن اجتهد منذ البداية كي احقق ما أريد وما يريد أبي.. وما تريد منال..» بصق أمامه من جديد وقال من بين اسنانه.. اللعنة علي.. وعلى منال.. وفتح صفحة اخرى ..«كالعادة.. وكما هو الحال دائماً.. لم تتحمل زوجة أبي وجودي في المنزل.. ففي نظرها أن أبي وكل ما يملك ملك لها ولابنتيها فقط.. وأنا على اعتاب الثالثة والعشرين هاهي تطردني من البيت.. اشترى لي أبي شقة صغيرة بعيدة عن بيتنا لانه .. وكما يقول.. لا يريد أن تراني زوجته.. سكنت الشقة وكنت أحس بالوحدة فطلبت من صديقي ناصر أن يأتي للسكن معي ولكنه رفض وقال: لا تهتم فلن تحس بالملل ابداً.. سآتي اليك يومياً أنا والرفاق ونسهر حتى الصباح..» تذكر صديقه ناصر.. ذلك الصديق بل شجرة الشوك التي زرعت نفسها في محيط حياته.. تذكر بأنه لم يخلف وعده وكان يأتي يومياً مع اصحابه ويصلون الليل بالنهار.. وتذكر الاستاذ في الجامعة الذي لاحظ اهماله وتراجع حاله وذلك الوابل من التوجيهات التي امطره بها.. تذكر تلك الحبوب البيضاء.. حبوب الكيف على حد قول ناصر التي اودت بحياته ومستقبله وربما آخرته.. فتح صفحة اخرى واخذ يقرأ: انقطعت عن الكتابة مدة قد تكون اسبوعين أو شهرين لا أعرف بالتحديد.. ولكن الذي أذكره بوضوح أنه في يوم ما وبينما أنا والاصدقاء في جلسة السوء داهمتنا الشرطة وضبطتنا متلبسين بالجرم المشهود.. وثار الاعصار في بيت أبي عندما علم بأن الشرطة تحتجزنا ولم يحتمل الصدمة فمات بالسكتة القلبية.. كنت اود أن أقول له قبل أن يموت إنه السبب في كل ما حدث.. فهو الذي قد أبعدني عنه عنوة اكراماً لعيني زوجته وهو الذي كان يعطيني المال ويغدقه علي بدون حساب أو رقيب وأنا شاب أهوى التجربة والتقليد وادعاء الرجولة كنت أود أن أجعله يتمزق كما أنا الآن ولكن القضاء كان أسبق اليه مني.. لا أتوقع من زوجته أن تزورني فهي لم تهتم بي حين كانت صفحتي بيضاء لا يشوبها دنس فأغلب الظن أني لن القى منها الآن سوى التجاهل والتهميش.. أما منال.. فأنا لا أعرف عنها شيئاً حتى الآن.. واعتقد بل أجزم أنها عرفت بما أصابني وهي الآن تبكي وتندب حظها.. لكني سأرجع.. سأكون أقوى مما كنت سابقاً.. سأترك ذلك السم الزعاف سأرجع يا منال.. وسأصبح الكاتب الذي تريدين فلم يبق لي في الدنيا غيرك.. إني آت فانتظريني .. طفرت الدموع من عينيه واخذ يبكي كطفل صغير .. لأول مرة ومنذ عشر سنوات يبكي..!! حاول اغلاق ذلك الدفتر المشؤوم ولكنه تذكر تلك الصفحة التي كتبها بكل ألم الدنيا بعد سنتين من بعد خروجه من السجن.. فتحها وبدأ يقرأ والحزن يعصر كل ذرة في جسمه.. «يالي من بائس مسكين.. فكل ما أملك في هذه الحياة اختفى كما سراب يتراءى للعطشان.. عندما خرجت من السجن رأيت الدنيا وهي تفتح لي يديها ولم أكن أدري أنها تريد أن تقبض علي بهما كي تفترسني دون رحمة.. احسست بالسعادة وانا أتجه إلى بيت عمتي لارى حلمي الذي أعيش من أجله ولكنه ولى كسعادتي.. اخبروني أنها لا تريدني لأني مجرم تائب!! رجعت من بيتها وكل ما أملك دفتراً وقلماً.. أحاول أن أجد عملاً اقتات منه ولكن كل الابواب تقفل في وجهي لأني مجرم تائب!! أود أن اقف واقول للناس بأعلى صوتي.. انتم أيها البشر.. يا حفنة من طين.. لم تحرموا شيئاً رغب به ربكم ومولاكم؟! لماذا لم تقبلوا توبتي التي يقبلها خالقكم؟! ثم لا تحاسبوني على جرم لم ارتكبه.. لست أنا المجرم.. لست أنا المجرم.. بل ناصر الذي قطع عرى الصداقة بحبيبات بيضاء كي يمتلئ جيبه بالمال.. لست أنا المجرم.. بل منال التي كسرت قلبي وسلبت عزيمتي وقوتي حينما لم تصفح عني وتقف معي في كربتي.. ألأني اقترفت خطأ في السابق لا استحق ان اعيش؟! أمحكوم علي أن أعيش بؤساً في الماضي والحاضر والمستقبل؟!»
عندما انتهى من قراءته.. وقف وفي عينيه بريق غريب جداً.. سقط القلم والدفتر.. سقطت أيضاً الاوراق النقدية على الأرض.. ثم أخذ يعدو بسرعة أكبر من سنه ويصرخ بأعلى صوته.. « ألأني اقترفت خطأ في السابق لا أستحق أن أعيش؟!»
وقتها تعالت همسات بعض المارة.. لقد جن الرجل!
البندري يوسف الوتيد

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved