أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 26th October,2001 العدد:10620الطبعةالاولـي الجمعة 10 ,شعبان 1422

عزيزتـي الجزيرة

الرحيل الصامت
ورحلت أمل.. رحلت بعيدا في سكون الليل وظلامه، رحلت بصمت رهيب ودموع الحزن متحجرة في عينيها، والالم يعتصر قلبها، رحلت وآثار الدماء التي تنزف من يديها المتجعدتين ملطخة على جدران غرفتها.
أمل فتاة في العشرين من عمرها، هادئة ولطيفة، عاشت مع أبيها وزوجته في بيت طيني صغير في قرية هادئة، بعد وفاة أمها في سنوات طفولتها الأولى، ومنذ ذلك الحين فقدت حنان الأم وحضنها الدافىء.
عاشت حياتها وحيدة، وذاقت مرارة الحرمان، والفقر معا، مع ما كانت تلاقيه من معاملة سيئة من قبل زوجة أبيها القاسية، التي حرمت نعمة الانجاب، أخذت تكيد لأمل وتناصبها العداء، وحرمتها من مواصلة تعليمها، حاولت أمل بشتى الطرق والوسائل ان تثني زوجة أبيها عن قرارها ولكن:


لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي

اكتفت أمل بتعليمها الثانوي، واستسلمت لإرادة زوجة أبيها المتسلطة، حاولت ان تلجأ لأبيها ولكنها كانت تعلم في قرارة نفسها ان كل شيء كان بيد زوجته فهي المرأة الحديدية كما يقال.
وبعد ان ضاع أملها في اكمال تعليمها لازمت الوحدة فلم يكن لها رأي في المنزل بيد انها كانت كالخادمة تعمل ليل نهار دون مقابل يرفع من معنوياتها ويشعرها بعظم ما تقوم به من أعمال ومسؤوليات، حتى في مستقبلها وحياتها لم يكن لها رأي في ذلك، فقد تزوجت رغما عنها، ولم يكن لها حيلة سوى ان رضت بالأمر الواقع، وسلّمت أمرها الى الله، وعاهدت نفسها ان تكون زوجة صالحة تعين زوجها على نوائب الدهر، وبعد ان تزوجت سافرت مع زوجها الى أحد البلدان الذي كان يعمل به، وبعد سنوات انقطعت صلتها بوطنها بعد ان فجعت بوفاة والدها، فلم يبق لها سوى زوجها الذي قاست معه الغربة والفقر ووجدت نفسها مضطرة للعمل معه لتساعده على تحمل أعباء الحياة، فتعلمت الضرب على الآلة الكاتبة في أحد المعاهد هناك، وأخذت تعمل بكل جدٍ واجتهاد وشاطرت زوجها الفرح والحزن وساندته في الأيام العصيبة.
وبعد سنوات من العمل والسهر دخل السرور أخيرا الى قلب أمل بعد ان أنجبت ابنها الأول «عامرا» فأخذت تنسج لها خيوطاً وردية، تحمل بين جنباتها أجمل الأحلام التي تمنت أن تكون حقيقة تعايشها، حلمت ان تعود هي وزوجها الى وطنها ويعيشون جميعا حياة هانئة رغيدة، ولكن يبدو ان الأمل بخل عليها هو أيضا ان تعيش بسعادة، فقد توفي زوجها في حادث مروري مروع، لقد مات زوجها، مات جوادها الذي كان يحميها، مات لتعود من جديد وحيدة.. وفي تلك الليلة البائسة الحزينة جلست وحدها تعانق استار ذلك الليل الاليل، ضمت ابنها الى صدرها وبكت.. آه.. ليل حزين فقدت معه احب الأحباب.. وهكذا مرت الأيام، وبمعاناة استطاعت الوصول الى وطنها، الى قريتها الصغيرة التي عاشت فيها طفولتها «البريئة والمعذبة» في الوقت نفسه.
عادت الى بيتها الذي أصبح خاليا لا حياة فيه، بعد ان رحل أصحابه عنه.
وجدت الباب مفتوحا، دفعته قليلا، واخذت ترقب من بعيد: ظلام حالك، هدوء مرعب، دخلت وسارت بصمت وصرامة، وملامح الرعب تملأ وجهها، كل شيء على حاله لم يتغير سوى بعض الاماكن التي طمست الأتربة بعض ملامحها، اتهجت نحو مصباح صغير في وسط ساحة المنزل، حاولت اشعاله ولم تستطع واكتفت بضوء القمر انيسا لها، وأخذت تتجول في أنحاء المنزل وتجيل النظر فيه، فعاد شريط ذكرياتها الى الوراء لينسج لها صورة لذكرى خالدة على مر السنين، انها ذكرى مآسٍ وآلام في كل ركن من أركان هذا البيت والذي ان نطق لا ينطق إلا بالحزن والحسرة آه.. أي مساء هذا الذي جرّد المنزل من كل أسلحة الضوء سوى ضوء القمر.
جلست في ناحية المنزل مرتدية ذلك الرداء البالي القديم، وشعرها الناعم منسدل على كتفيها وابنها بين ذراعيها.. نظرت الى السماء صامتة، والقلب ينطق بالالم، جلست تنتظر الصباح الذي سوف يُجلي عنها همومها وآلامها.. تنتظر نهاية مأساتها.. «أين الصباح؟ أين النور الحقيقي؟ لقد سئمت الظلام، سئمت الليل الحزين حتى سمُجَ وجهه في عيني وثقل حديثه في اذني».. لقد خرجت كلماتها من قلب مجروح ومكلوم، حنت رأسها الى الأسفل، ونظرت الى ابنها النائم نظرة حزن واشفاق فاغرورقت عيناها بالدموع، وانساب الدمع ساخنا على وجنتي عامر، مسحته امل بسرعة حتى لا تعكر عليه حلمه الهادىء، واخذت عهدا على نفسها ان ترعاه وتحميه بكل ما أوتيت من قوة، نهضت من مكانها متوجهة الى حجرتها التي لا تزال في انتظارها بعد ان أصبحت خير ملجأ لبيوت العنكبوت الواهنة، والغبار الذي انتشر في كل مكان، ألقت بنظرة سريعة على سريرها، ملاءتها البيضاء تحول لونها الى الأصفر بعد ان أكل الدهر عليها وشرب، مكتبتها التي في زاوية الحجرة، حقيبة صغيرة تعلوها، مكتظة بالكتب والدفاتر القديمة البالية، حتى المرآة لم يعد لها وجود من كثرة الاتربة والغبار.. تأوهت من أعماقها قامت بتنظيف سريرها واعداده للنوم. وفي الصباح عندما نسجت الشمس خيوطها الذهبية استعدت أمل للخروج بحثا عن عمل يقوّم حياتها وابنها معاً.
واخيراً عملت كاتبة في أحد المراكز الموجودة في قرية مجاورة عملت بصبر وكفاح ومرت الأيام والسنون سراعاً، كبر عامر والتحق بالجامعة ودخل مرحلة جديدة في حياته لم تعهدها منه من قبل، اختلط برفاق السوء، وتغيرت معاملته لها، أصبح يغيب عن المنزل كثيرا، وتعجبت لحاله، وتألمت، فقد كانت تدلله وتنفذ له كل رغباته دون تردد رغم ما تعانيه احيانا من قلة الحيلة لقد كانت تخاف عليه حتى من نسمة هواء باردة، وقد ظهر هذا الموقف جليا عندما تأخر عامر في العودة من الجامعة، انتظرته فلم يعد، انتظرته حتى جنّ الليل عليها بظلامه ولكنه لم يعد، انتابتها حالة من القلق والفزع، أخذت الوساوس والأفكار تدور في رأسها حتى استقر الخوف في قاع روحها وفجأة سمعت صوت الباب، فاذا بعامر قد عاد وبكل لهفة اتجهت له واقتربت منه، سألته: عامر عزيزي هل أصابك مكروه؟ لِمَ تأخرت يا ولدي؟ اخذت تمطره بوابل من الأسئلة التي تكشف عن مدى حبها له وخوفها عليه. نظر اليها عامر بكل دهشة وقال لها بكل تضجر وملل: وما الذي سيحصل لي وكل ما في الأمر اني أحببت الجلوس مع رفاقي بعد عناء الجامعة، ام تريدين ان تحبسيني معك في هذا القبر المظلم؟! أنا لم أعد أطيق تصرفاتك، لم أعد طفلا صغيرا حتى تعامليني بهذه الطريقة. حاولت ان تحدثه، فقاطعها : آه.. يبدو ان طريقة تعاملك معي لن تتغير ابدا، ويبدو لي اكثر ان النوم خير وسيلة للخلاص من هذا الجو، اتجه الى غرفته وتركها اسيرة للحزن والدموع، تركها تتجرع مرارة الانتظار بعد ان استقرت سهام كلماته في أحشائها، وتأججت نيران العذاب في قلبها سارت بخطى ثقيلة حتى وصلت الى حجرتها وبكت، بكت حتى احمرت الأحداق، بكت حتى بكى الحزن لبكائها ثم اتجهت الى النافذة وفتحتها علّها تدخل قليلا من النسيم يزيل عنها شيئا من الهموم والاكدار التي ملأت جنبات قلبها، رفعت رأسها الى السماء، وأمعنت في النظر الى القمر بتلك العيون المثقلة بالسهر والألم والتي أخذت تسبح في ظلام الليل، تبحث عن بقايا سعادة توارت خلف أستار الزمن وقد خرجت زفرات الحسرة من صدرها.. آه.. يا قمري العزيز انت نديم وجدي وسمير ليلي، وسلوى فؤادي.. أيها القمر هلا سمعت شيئا من حديث القلب المكلوم الذي يئن تحت وطأة الحزن والألم، أم انك ستكون معهم، مع الذين كانوا سببا في معاناتي وعذابي.
نظرت الى وجهها في المرآة وأخذت تتأمل عينيها الآتيتين من زمن الجراح، وتتأمل شعرها الذي تربع على عرشه شبح أبيض كاد يقضي عليه.. ابتعدت عن المرآة وكأنها تريد الهروب، الهروب من الماضي ومن الحاضر ومن كل شيء.. ولكن قد يبقى شيء من الأمل.. ومرت الأيام فتفاجأت الأم برغبة ابنها في السفر الى الخارج وأوهمها انه ذاهب مع البعثات التعليمية هناك!! ودعته ودموعها تكاد تحفر خدودها من شدة حرارتها يبدو ان الوحدة لا تطيق لها فراقاً.
وبعد ثلاث سنوات عاد غائبها الذي طال انتظاره، ولكنه لم يعد وحده، بل عاد محملا بالفشل وخيبة الأمل، وليس هذا فحسب، بل عاد مع زوجته الأجنبية، التي كان التفاهم معها مستحيلا بالنسبة لأمل.
ياللخسارة، كل شيء انتهى .. لقد خسرت ابنها الذي تحملت من أجله المصاعب، ابنها الذي هو جزء من روحها، آمنت بقضاء الله وقدره، أرادت ان تستقر هي وابنها في بيتها الذي ضمها وهي صغيرة ولن يكون عاجزا ان يضمها الآن هي وابنها وزوجته.. آه.. زوجته، التي تمردت على الجميع منذ ان وطأت قدماها هذا البيت، رفضت، صرخت بأعلى صوتها: لن أعيش هنا، لن أبقى في هذا البيت، اريد ان أخرج وأعيش وحدي.
خرج عامر وزوجته التي سلمها كل شيء، قلبه وعقله دون تفكير، والآن لم يعد شيء في حياتها يستحق التضحية والاخلاص سوى عملها، عملت باخلاص رغم كبر سنها، فكان الثمن صحتها، فقد خارت قواها وشعرت بآلام في ذراعيها وعانت من ضعف شديد في البصر.. وفي صبيحة يوم من الأيام ذهبت أمل الى أحد المراكز الصحية في المدينة وفي الطريق حدث ما لم يكن في الحسبان.. حادث رهيب، صرخة مدوية انطلقت من امل، نقلت على الفور الى المستشفى، والنتيجة: شلل سفلي مع فقدان البصر، غيبوبة تامة، سارع الأطباء في البحث عن أي قريب لها لابلاغه بحالتها الخطيرة، لا جدوى اضطر الأطباء للانتظار حتى تفيق من غيبوبتها.. وبعد اسبوع، أفاقت أمل من الغيبوبة، واستطاع الاطباء معرفة عنوان ابنها.. فُجِعَ عامر بهذا الخبر، جاء مسرعا الى امه، وفجع اكثر عندما رأى والدته بهذه الحالة المزرية، فحنّ قلبه لها، أحست أمل بشخص ما في الغرفة قالت: من هنا؟ عامر: أنا يا أمي. فرحت أمل وقالت: عامر اقترب يا عزيزي فقد اشتقت لك كثيرا. اقترب منها وقبل جبينها واحس بشيء من الندم، وفي اليوم التالي اصطحبها معه الى منزله، فشعرت زوجته بضيق واشمئزاز، وخصصت لها حجرة لا تخرج منها، بل أصبحت تخجل من رؤية الناس لها منعزلة عنهم وكأنها ارتكبت ذنبا عظيما لا يغفر، لا يفتح لها الباب الا أوقات الطعام، تدخل الخادمة بكل تضجر تطعمها ساءت صحتها عن ذي قبل، فكان القرار الأخير الذي اصدرته الزوجة دون مناقشة يجب ان تعود امل الى بيتها القديم، حاول عامر ان يشرح لها سوء حالتها وانها بحاجة اليه، ولكنه كان مسلوب الارادة، ضعيف الشخصية، ولم يجد مفراً من تنفيذ أوامرها لمدة مؤقتة حتى يستطيع اقناعها.
ذهب الى والدته وأخبرها انه سيسافر مع زوجته الى بلدها ويعود بعد اسبوع وانه مضطر لتركها في منزلها القديم، بسبب بعض الظروف، شعرت أمل بشيء من الخوف، أرادت ان تصدقه فلم تستطع وفي الغد جاء اليها وأسندها بذراعه حتى جلست على مقعدها المتحرك، وركبت داخل السيارة، وانطلق بها مسرعا الى قرية هادئة، وبيوت قديمة خالية من السكان الا قليلا منها على أطراف القرية توقفت المركبة عند احد البيوت.. فتح عامر باب المنزل، بينما تولت الخادمة وضع أمه على المقعد، ودخلوا جميعا الى المنزل، وتوجه بها الى حجرتها.. عندها.. بكت أمل وقالت بحرقة اذاً ستغادر يا بني وتتركني؟ وهو صامت لم يهمس ببنت شفة، واستدار الى الخلف تاركا وراءه سيدة عجوزا، تجلس على كرسي متحرك، وقد انحنى ظهرها، وشاب رأسها وتجعدت يداها.. تركها ورحل، وهي تسمع صوت مشيه يبتعد عنها شيئا فشيئا حتى اختفى، تركها مع الخادمة التي لا تغني ولا تسمن من جوع تركها تحدث نفسها.
لا.. لا يا بني، افعل كل شيء الا هذا، لا تخرج وتتركني وحيدة، فقد سئمت الوحدة، لا ترحل بعيدا ارجوك، فأنت قطعة من فؤادي، بل ان كل نبضة من نبضات قلبي تنطق باسمك فلا تحطم هذا القلب أرجوك، كان هينا عند هذا القلب ان يطمسك من عالم الوجود ولا تجعلني اراك تفعل بي هذا. كان هينا عندي ان ادفنك بيدي ولا اراك تميتني وأنا حية، لذا ارجوك ان تعود، لا تجعل عواصف الحزن والأسى تعصف بي وتهزني دون ان تكون بجانبي فتساعدني.
حطم قيود الوهم التي صفدت بها يديك وعقلك وفؤادك، وعد الى وكرك القديم، عد الى قلبي، الى حياتك الطفولية البريئة، واترك ما أنت فيه من زيف وهم.
ولكن انتهى الأمر الآن، ولم يعد هناك وقت للعتاب، فقد رحل، رحل بعيدا ولن يعود.
وبعد أيام هربت الخادمة، وشعرت أمل بآلام حادة تسري في جسدها، وأخذت يداها ترتعشان بقوة حاولت النهوض من كرسيها فسقطت على الأرض وارتطم رأسها على كوب من الزجاج فشج رأسها، وسالت منه الدماء فتخللت شعرها بيديها فتلطختا بالدماء، تألمت كثيرا وصرخت حتى اصطدم صراخها بقاع نفسها تنتظر الصدى عله يهدىء من عنف صراخها، ولكن صوتها يرتد عليها.. لا مجيب، أخذت تزحف على يديها ورجليها وتتكىء على الجدران بحثا عن مخرج، والدماء منتشرة في كل مكان.. وبعد عناء وصلت الى الباب.. آه.. انه مغلق.. أخذت تطرقه ولكن.. لا احد.. أخذت طرقاتها تضعف تدريجيا، وبدأت تخدشه حتى تورمت كفاها، وتكسرت أظافرها.. وفجأة.. علقت يدها على الباب، وشخص بصرها الى الأعلى وتوقفت أنفاسها بعد صراع عنيف.. وساد صمت أشبه بصمت القبور.
وهكذا رحلت أمل.. رحلت بعد ان انتحر الأمل تحت حصار موجات الأسى، رحلت ليصبح رحيلها رمزا للرحيل الصامت.
تغريد بنت سليمان الحمود

أعلـىالصفحةرجوع



















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved