أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Thursday 1st November,2001 العدد:10626الطبعةالاولـي الخميس 16 ,شعبان 1422

الثقافية

اللعبة السردية في «السُّكَّرالمر» بين تقليدية التشكيل ودينامية الرؤية
الحلقة الاولى
د. محمد صالح الشنطي
لم تعد ثمة قواعد صارمة تحكم الابداع الأدبي، فنحن في عصر تداخلت فيه الأجناس الأدبية، واكثر ما يتجلى هذا التداخل في الرواية ومع هذا ظل السرد بمفهومه الخاص السمة الجوهرية في هذا النفق وإن التبس مفهوم «السردية» مع «الشعرية» بوصفها مناط أدبية الادب. واذا كانت جماليات النوع بقوانينها التقليدية وأصولها المتعارف عليها قد انتهت فإنها غالباً ما تسترد اعتبارها في اطار الدورات المتعاقبة عبر الزمن، وخصوصاً عندما تستنفد الوسائل والادوات الفنية المستحدثة وتتحول بدورها الى تقليد مستهلك.
والفن مهما كانت وسائل التطوير والتجديد في جمالياته وأدواته يبقى قائماً على مرتكزات تشكيلية جوهرية تنطوي على أسرار هي من صميم عملية الابداع ولا تتكشف الا لمن يمتلك القدرة على فض غوامضه واستكناه اغواره، ولعل من قبيل المفارقة ان توظف بعض الملامح التي يجمع النقاد على انها سمات سلبية توظيفاً له مدلوله ومغزاه كالتقرير والمباشرة والحلقات السّردية المقفلة وتنفلت من عقال الاطلاق الى فضاء النسبية.
واذا كانت المعالجة المباشرة للموضوعات والافكار والمشكلات في ثيمات روائية مكرورة قد افرغها التناول والتداول من كل ما يدهش ويبهر خصوصاً بعد ما انكب عليها كتاب السيناريوهات التي يعدونها للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية وصنفوا منابع الجمال الفني منها فتسطحت وابتذلت، وبهت بريقها حتى لدى روّاد دور السينما وعشاق فن المغامرة بأطرها الميلودرامية فإن ثمة من يمتلك القدرة على تجديدها وبث الحياة في أوصالها عبر الزمن المكاني المحتشد فيها حيث الوقائع المتلاحقة المترابطة التي تضمن انجذاب القارىء الى متابعة القراءة، وتشبع في ذات الوقت نهمه الى التأويل والاستنتاج في منظومة فكرية تقنعه بفائدة ما يقرأ عبر المدخل النفسي او الاجتماعي او الفلسفي الذي يحسن كاتب الرواية اصطناعه، ومهما كان تقييمنا للعمل ككل في نسيجه الجمالي ورؤيته الفكرية فإن هذا اللون من ألوان الرواية يفرض نفسه في عالم بدأ يستوعب ألواناً من السرد ويمنحها مسميات تؤكد شرعيتها كالرواية الاعلامية او الصحفية التي ظهرت كشكل معترف به في مرحلة ما بعد الحداثة.
ورواية الدكتور عصام خوقير «السُّكَّر المر» تندرج في اطار ذلك النوع من أنواع الرواية التي تمتلك الزخم الحكائي الذي يحتفل بمتن وقائعي وتيمة تقليدية ورؤية اجتماعية نفسية قريبة مكشوفة، ولكنها لا تفتقد منطق التحليل ولا تغيب عنها مبررات البناء القائم على تصور يبرر تشكيلها على هذا النحو المألوف في الرواية الرومانسية، اذ تقف على الحافة الحرجة بين السرد الفني الذي يمتلك المبنى القائم على التشكيل، والسرد الميلودرامي الذي يصطنع منهج الاثارة والتشويق والطرافة، ذلك ان الكاتب في أعماله الروائية السابقة له موقفه وتوجهه ورؤيته، وان بدا ذلك كله مفارقاً لطموحات الرواية الحديثة التي تسعى الي تحقيق ابداع روائي يوازي ما هو مطروح من أعمال لها تميُّزها وخصوصيتها جمالياً ورؤيوياً، ولكن مثل هذا الدأب والتواصل لا ينبغي ان يبقى على هامش النقد الروائي لأنه يشكل تياراً حريا بالدرس والفهم.
واذا كان «للسكر المر» منطقها الخاص، فان المعالجة النقدية لابد ان تصطنع المداخل التي تنسجم مع هذا المنطق أيضاً، اذ ينبغي ان تتلمس الملامح الجمالية التي تبرر تناولها وقراءتها، وقبل ذلك كله فإننا معنيون بالبحث عن اطارها النوعي فهي تنتمي الى تيار روائي عميق الجذور في تاريخ الرواية العربية هو ذلك الذي يعبر عن هموم الشرائح العليا من المجتمع، يمثله في الرواية احسان عبد القدوس بنزعته التحليلية، ومداخله النفسية، وابطاله من المثقفين، حيث الاهتمام بالسلوك الانساني بوصفه محصلة لجملة من العوامل والوقائع والتجارب الموروثة، فهو يعنى بالاحساسات المتضاربة في نفوس ابطاله باعتبارهم حالات نفسية قابلة للتحليل وللدرس، فهم مضطربون نفسياً ومتوترون، ولكن مؤلفنا الدكتور «عصام خوقير» لا يذهب مذهبهم في تشخيص الحالات ومدنا بتقارير وافية متكاثرة تتعمقهم وتكشف عن أدق التفاصيل او متابعة نمو تلك الحالات كما فعل احسان في روايته «انا حرة» على سبيل المثال، او يتابع التكوين السيكولوجي والفسيولوجي للبطل منذ بداية حياته كما فعل الكاتب ذاته في روايته «شباب امرأة» و«الساعة تدق العاشرة»، وهنا نلاحظ ان ثمة شبهاً بينهما في تقمص شخصية المرأة عبر الراوي المرأة «البطلة» ويبدو تركيز احسان عبد القدوس الواضح على العوامل الاجتماعية المؤثرة على البطلة في محيطها الواسع بينما يحصر «خوقير» بطلته في محيط اجتماعي ضيق من خلال قواقع أسرية محدودة، تفرضها طبيعة الحياة الاجتماعية المحافظة، ويختلف الكاتب في منهجه السردي عن احسان من خلال تكوينه للشخصية الروائية في تشكيل يعنى باستكناه الداخل النفسي عبر رصد السلوك ونسيج العلاقات وليس عبر تراكم التقارير، وان فعل ما يشبه ذلك في مقدمة الرواية حين قدّم وصفاً تفصيلياً في أسلوب أدبي يذكرنا بطرائق النثر الفني القديم مستثمراً الظواهر الأسلوبية البلاغية في قوالب المديح التراثي المألوف، فثمة استقصاء ومبالغة وترادف وتحليل ومزاوجة في اسلوب مقالي ولكنه ما يلبث ان يتجاوز ذلك الى السرد القائم على مستويات مختلفة كما سنرى فيما بعد، وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً أورد هذا المقطع الاستهلالي من الرواية:
فارس عزت، هل تعرفون هذا الاسم هذا النجم اللامع في كل الأوساط معذرة، ربما كان أولى ان أصوغ السؤال هل هناك من لا يعرف هذا الاسم (فارس عزت) انه اسم على مسمى فعلا، فهو فارس مجتمعه، وهو فارس حيث يكون.. الخ»(1).
ولعل من الواضح ان الكاتب يعنى بإبراز شخصية المثقف، فبطلة الرواية مثقفة، وكذلك بطلها فرجوة (البطلة) حصلت على درجة الدكتوراه في علم النفس، وفارس عزت استاذ جامعي يحمل الدكتوراه واذا كانت صورة المثقف هنا تختلف عنها في الرواية العربية في مصر على سبيل المثال حيث نشأ اغلب المثقفين في تلك الرواية في بيئات اجتماعية فقيرة وناضلوا من أجل الوصول فان فارس عزت بطل «السكر المر» قد نشأ على يتمه في بيئة ميسورة ولكنه مع هذا حمل العقدتين اللتين تكاملتا لدى المثقف في الرواية العربية، هما عقدة النقص تجاه الحضارة الأوروبية وعقدة الاستعلاء وان لم يمط سلوكه اللثام عنهما بشكل واضح، خصوصا العقدة الأولى اما العقدة الثانية فقد بدت في سلوكه تجاه زوجه (رجوة)، اذ برزت عقدة النوع (الذكورة) تجاه الأنثى.
ثمة تأمل للذات الى درجة العشق مما أدى الى فقدان الوعي بالذات على حد تعبير الدكتور عبد السلام الشاذلي في توصيفه لصورة المثقف في الرواية العربية في مصر(2).
وحديثنا عن شخصية المثقف في (السكر المر) يقودنا الى ما سبق ان تحدثنا عنه فيما يتعلق بالمدخل النفسي الذي اختاره المؤلف مخترقاً به السمات التقليدية للرواية الرومانسية المألوفة فالبطلة التي تروي احداث الرواية من وجهة نظرها درست علم النفس، ولهذا فهي تحاول ان تحلل المشاهد والوقائع من هذه الزاوية، ولكن على نحو مباشر يكاد يكون تعليمياً محضاً، ليس هذا فحسب، بل انها تحاول تحليل الموقف الاجتماعي تحليلا مدرسيا بأسلوب المحاضرة او المقالة، وسأتوقف عند هذين الملمحين.
فبينما يتصل بالخلفية الاجتماعية التي يفترض ان تتشكل ظلالها ويتساق مع حركة الشخصيات ونموها نجد الكاتب يقدمها في اسلوب مقالي مباشر على لسان البطلة التي تتحدث عن ظروف الطفرة الاقتصادية التي فرضت استقلال كل أسرة بالعيش في سكن خاص، وأدت الى خلخلة تماسك المجتمع وتغير ما أسمته بالهيكلية الاجتماعية بفعل التأثر بالعادات الوافدة التي جاءت من طريقين: الأول: العمالة الوافدة، والثاني: الشباب المبتعث الى الخارج(3)، لقد وظفت هذه الحقائق من أجل الحديث عن لقائها بفارس عزت في نمط من أنماط السرد الاستعادي أو الاسترجاعي.
أما النزعة النفسية في تفسير الوقائع واستبطان دخائل الشخصية، والتحليل المباشر الذي يستند الى قوانين الوراثة، ففي معرض حديثها «الراوية» عن شخصية فارس الذي يذوب رقة ولطفاً وانسانية مع كل نساء الأرض الا مع زوجته تشير الى ان تلك خلة في سلالته العائلية «اذ كذلك كان عماه وأبوه من قبل»، كذلك فإن البطلة متخصصة في التحليل النفسي فهي تستدعي من أجل ان تفسِّر بعض الحالات وتساعد في علاجها مع اخصائي الأعصاب، لذا يجعل الكاتب من وقوفها على حالة «فلاح الثقفي» المريض الذي يعاني من حالة توتر وهياج مدخلاً الى تنمية الحدث وتطويره، بل ايجاد نقلة مفصلية فيه تؤدي الى التحول الجذري في مسار الرواية وقد عمد الكاتب الى توظيف عملية الاستقصاء التي تنهض بها البطلة بوصفها اخصائية نفسية من أجل الكشف عن حقيقة الشخصية، وترسيخ الاعجاب به، وبالتالي التمهيد للزواج منه.
فهو كما يكشف عن ذلك تقرير المستشفى من كبار رجال المال والأعمال معروف بأنقى سمعة في الأوساط الاقتصادية والأدبية والثقافية الى آخر ما هنالك من أسباب الميل الذي أبدته البطلة اليه.
ليس هذا فحسب، بل ان الكاتب نفسه ومن خلال الخبر الذي نشر عن روايتي «رجوة» بطلة الرواية «الطاووس» و«السكر المر» يصف هذه الرواية بأنها رواية نفسية للدكتورة رجوة محسن التغلبي فهي تحاول ان تميط اللثام عن معضلة زوجها «فارس عزت» و خطيبها الجديد «فلاح الثقفي»، ولكنها لا تتعمق دراسة الحالة على نحو علمي معقد او تجعلها عقدة الرواية، فالحالة التي درستها بسيطة تتسق مع منطق الرواية ورؤيتها.
وأما بنية الرواية فتقوم على تقاطع دائرتين حدثيتين كبريين: الدائرة الأولى تفضي الى الثانية افضاء غير مباشر، اذ تبدو علاقة فارس عزت برجوة التغلبي التي ابتدأت بالاعجاب ثم الزواج ثم الفراق عبر الترتيب المألوف منسجمة مع النواميس الكبرى تبدأ قرب النهاية مع الدائرة الأخرى التي تنتظم في الاطار النمطي السابق: الاعجاب فالزواج أما النهاية فمفتوحة، واذا كان ثمة ما يميز الأولى عن الثانية فهي المقدمات المنطقية التي قادت هذه العلاقة الى النمو في اتجاهه السالف الذكر، ولكن الدائرة الحديثة الثانية قامت على المصادفة المحضة، لقد أغلقت الأولى على نهاية تراجيدية بينما ظلت الثانية مفتوحة على فضاء يبشر بالسعادة.
ولعل الرؤية الحدِّية الصارمة التي حكمت بناء هذا العمل وتطوره تبدو مخالفة لقانون الصراع الدرامي الذي يحكم الأعمال الفنية، ويظل أقرب الى منطق الحكاية الرومانسية في تجلياتها الشعبية والأدبية، فنحن أمام شخصية مثالية أقرب الى شخصيات المسرح اليوناني، هكذا تتبدّى البطلة من خلال حديثها عن نفسها فهي على حق دائماً، وثمة نقيض لها يتجلى في «فارس عزت» المزدوج الشخصية في سلوكه العام والخاص فهو متسلط غيور غيرة مرضية لا يحترم زوجته، أما فلاح الثقفي فهو الموجه الآخر له «النقيض» هذه الرؤية الحدية التي تقترب من التصنيف المألوف في الحكايات «الخيّر والشرير» تسطح البناء وبالتالي تفضي الى رؤية تفتقر الى الثراء.

أعلـىالصفحةرجوع


















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved