أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Friday 2nd November,2001 العدد:10627الطبعةالاولـي الجمعة 17 ,شعبان 1422

مقـالات

من أدب المربين
كتاب «بوح الذاكرة» للدكتور عبدالعزيز الثنيان.. 2/2
د. موسى بن عيسى العويس
ويأتي الجزء الثالث من هذا الكتاب، ليرصد للقارئ بقية المواقف التربوية والأحداث الاجتماعية التي أخذت ذاكرة المؤلف في استرجاعها.
وشعور المؤلف بتشابه الموضوعات وتكرار الأحداث التي أخذ بعضها برقاب بعض، جعل المؤلف يكتفي بتلك النماذج التي عرضنا لها في مقال سابق.
وإن كنت أرى أن المواقف مهما كان بينها من شبه جديرة بالتدوين، وبخاصة متى كان فيها استدراك من المؤلف على بعض مواقفه التربوية وقراراته الإدارية التي اتخذها، وكثير ما هي في حياة المسؤول.
ففي مثل هذا الأسلوب تصوير لمراحل تجربة الإنسان في مسيرةعمله، لا يستغني عنها القارئ، إذ قد يكون فيها ما يساعده على تصحيح حساباته مع نفسه، ومع الناس.
ويبدو أن المؤلف في هذا الجزء من كتابه وإن عرض لبعض المواقف إلا أنه رأى من الوفاء لمن زامنهم، وعمل إلى جانبهم أن يضع يد القارئ على صور من المبادئ والخطوط العريضة التي سارت عليها الوزارة إبان عهدهم وما تلاه. لا سيما وأن تلك الشخصيات القيادية في مجال التربية والتعليم كان لها كبير الأثر في حياته، بل ربما كانت عاملاً من عوامل النجاح الذي أصابه في عمله.
يقول في معرض حديثه عنهم «لقد كان في وزارة المعارف خبرات تعمل، وعقول تكدح،وحزم وضبط، ووقار وهيبة، وإن تاريخ تلك الفترة، مليء بالكفاءات المتلاحقة، وحافل بالإنجازات الصامتة» بوح الذاكرة 3/71.
ولا يزال غرس تلك الفئات الصامتة التي سبقت أعمالهم إعلامهم ينمو ويترعرع، وهم ماضون وإن شاء الله تعالى في اقتفاء الأثر وترسم الخطى، وتحقيق مطامح، وآمال لتلك الفئات حالت الظروف دون تحقيقها.
ولم يكن استدعاء المؤلف لتلك الفئات، وإبراز آثارهم ومآثرهم، إلا ليبين أن هؤلاء قد رسّخوا أسس ومبادئ عامة ظلت ماثلة في وجدانه، حين ترجل عن ذلك الجهاز.. ومن أظهر هذه الأسس:
1 مبدأ التقدير والاحترام الذي ينطلق منه المسؤول، وبخاصة إذا كان في منظمة تربوية يحمل المنتمون إليها مشكاة العلم، هذا المبدأ هو الذي أملى عليه«أن ينظر إلى رجال وزارة المعارف بأنهم من ذوي القربى في العلم، لأن العلم رحم بين أهله كما يقول وهم بناة المستقبل، وصناع الغد، وهم العاملون في حقول الفضيلة وأنهار الخير، ورجال هذه بضاعتهم وتلك صفاتهم، فإن التعامل معهم يجب أن يسوده الاحترام والتقدير، والعمل بينهم يلزمه القدوة والعدل» المصدر السابق 3/215.
2 العدل والإنصاف والبعد عن الذاتية، وإن كان في هذا المسلك اصطدام برغبات النفس، وتضحية المسؤول بصحبه وخاصته، فمعاناة المسؤول كما يقول «تكون أصعب، ومواقفه تكون أقسى، حين تتدخل عواطفه وتضغط مشاعره، ويقف النظام أمامه، ويكون محكوما بقانون يجب تنفيذه، وبقرار يلزم العمل به» المصدر السابق 3/11.
3 الاعتراف بوجود عامل النقص والقصور في الإنسان أيا كان، ومهما بلغ من الحرص والاجتهاد. ومتى وضع المسؤول هذا الاعتبار أمامه، فإن مظاهر العظمة والزهو والإعجاب تتلاشى أمامه.
ويستند المؤلف في إقراره على مقولة الجاحظ «لكل نصيب من النقص ومقدار من الذنوب، وإنما يتفاضل الناس بكثرة المحاسن، وقلة المساوئ. فأما الاشتمال على جميع المحاسن، والسلامة من جميع المساوئ دقيقها وجليلها وظاهرها وخفيها فهذا لا يعرف».
والمؤلف في هذه الذكريات، وإن ألمح في غير موضع أن ما دوّنه في هذا الكتاب يعد أبرز ما سجلته له أو عليه السنوات التي أمضاها في التعليم، إلا أنني أجزم أن في كهوف الذاكرة كثيرا من المطامح التي لم يستطع تحقيقها لأسباب علمها وترك للآخرين استظهارها، على أن مثل هذا الأمر لا يعد محمودا في مؤلَّفٍ سيتخذه الآخرون مصدرا من مصادر التجارب الإدارية الحيّة.
لاسيما وأن الكاتب قيد تلك الذكريات كما يقول للتاريخ، ومن حق التاريخ أن يحاكمه.
ولو أن الذاكرة عرجت بالمؤلف في الفصول الأولى من الكتاب إلى مراحل طفولته، ومدارج صباه، ونزق شبابه، ومراتع لهوه، ومواقفه مع معلميه إبان دراسته لربما زادت من فنية هذا الكتاب، ومنحته بعداً آخر، وبخاصة، وقد تجلت قدرته على التحليل والاستنتاج.
على هامش الذاكرة
المنحى الاجتماعي الصِّرف في مثل هذا اللون من الكتابة الأدبية، يعد نتيجة حتمية، لامتزاج الكاتب بمجتمعه، ومحاولته إثبات صدق المشاطرة، عن طريق تفاعله مع صور المآسي التي يقع عليها نظره أو يلامسها مسمعه.
ولذا ليس من المستغرب أن توشّى المواقف باقتباسات أدبية، شعرية، أو نثرية، ربما عمد إليها المؤلف ترويحاً عن القارئ، وحملاً له على المشاركة، وغمسه في خضم الأحداث بوصفه واحدا من أهدافه في الكتابة.
لنأخذ على سبيل التمثيل أبيات الرصافي التي لم تغب عن ذاكرة الراوي، حين أملت عليه ظروف العمل أن يجوس قرى نائية، فكان مما علق في ذهنه، ولم يغب عن خياله صورة تلك المرأة البائسة التي تحالف عليها وعلى وحيدها ا ليتيم، والفقر، والجوع، والجهل.
وعلى الفور تقفز الذاكرة إلى الشاعر الرصافي الذي قال عن مثلها:


لقد جثمت فوق التراب وحولها
صغير لها يرنو بعيني ميتّم
تراه وما إن جاوز الخمس عمره
يدير لحاظ اليافع المتفهّم
بكى حولها جوعاً فغذته بالبكا
وليس البكا إلا تعلّة معدم
وقفت لديها، والأسى في عيونها
يكلمني عنها ولم تتكلّم
وساءلتها عنها وعنه فأجشهت
بكاء وقالت: أيها الدمع ترجم
ولما تناهت في البكاء تضاحكت
من اليأس ضحك الهازئ المتهكم
ولكن دموع العين أثناء ضحكها
هو أطل مهما يسجم الضحك يسجم
فلم أر عيناً قبلها سال دمعها
بكاء وفيها نظرة المتبسّم
فقلت، وفي قلبي من الوجد رعشة
أمجنونة يارب فارحم وسلّم

ولا زلنا ننتظر من المؤلف في عمله الجديد مزيد بوح وكداً للذاكرة في شبابها، وقبل أن تشيخ. ومَنْ لم يُثر قبل السبعين لم يُثر بعدها.
إدارة تعليم منطقة الرياض

أعلـىالصفحةرجوع

















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved