أول صحيفة سعـودية تصــدرعلـى شبكـة الانتــرنت صحيفة يومية تصدرها مؤسسة الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر

الطبعة الثانيةالطبعةالثالثةاختر الطبعة

Sunday 4th November,2001 العدد:10629الطبعةالاولـي الأحد 19 ,شعبان 1422

مقـالات

عالم الحشرات من يكتشفه ويكشفه للناس؟!
إبراهيم بن عبدالله السماري
يقول هودج «Hodge» : «إن زوجاً واحدا من حشرة الذبابة المنزلية لو بدأ تناسلها في شهر أبريل وتركت جميع أفراده تعيش حتى أغسطس من السنة نفسها فإن عدد الأفراد الناتجة تكفي لتغطية سطح الكرة الأرضية إلى عمق سبعة وأربعين قدماً. لكن العوامل الطبيعية التي هيأها الله تقضي على كثير من هذا النسل فلا تسمح لأن يصل عدد أفراده إلى أكثر مما كانت عليه أعداد الجيل السابق».
لقد خلق الله سبحانه وتعالى الحشرات لحكمة بالغة،وللدلالة على قدرته التي لا تستطيع أن تحدها حدود التصور،وللتأكيد على تدبيره المحكم الذي يأخذ بالألباب.
وقد يبدو للإنسان لأول وهلة صعوبة التوصل إلى حكمة شيء «ما» إلا أن الوسائل العلمية والتطور المعرفي بتوفيق من الله يكون تطورهما إلى الأعلى فيكشفان عن شيء من تلك الحكمة وليس الإحاطة بها.
ومن المخلوقات التي خلقها الله لحكمة يعلمها وقد تخفى على كثير من الناس أن هناك حكمة من وجودها تلك الحشرات التي قد تؤذي الإنسان وقد تفسد محاصيله وقد تخرب موارده وقد تفتك ببيئته؛ ومع ذلك أثبتت الدراسات العلمية المتخصصة المؤيدة بالبراهين القوية أن لهذه الحشرات فوائد لا يمكن أن يستغني الإنسان عنها لمصلحة الإنسان نفسه ولهذه الأشياء التي تهمه من محاصيل وموارد وبيئة.
وفي العصور القديمة لم تكن هناك مشكلة ظاهرة نتيجة وجود الحشرات أو حتى بسبب تكاثرها نظراً لاتساع المكان الذي يعيش فيه الإنسان وتوافر الغذاء فيه.
وهذا الاتساع المكاني ووفرة الغذاء جعل التعايش بين الإنسان والحشرات سلمياً إلى حد «ما» وقد لا يشوبه سوى كدر الحالات التي تتسلط فيها تلك الحشرات على الإنسان ذاته تاركة سعة الأرض ووفرة الغذاء كما هي حال الذباب والبراغيث والقمل إلا أنه مع تقدم العمران البشري وكثرة النسل البشري بدأت الحرب بين الإنسان والحشرات تعلن عن نفسها تنافساً على المكان والغذاء.
وكانت أسلحة الإنسان في هذه الحرب في البداية بدائية لا تتعدى استعمال يديه والاستعانة بما حوله من أخشاب وأحجار ونحوها لطرد تلك الحشرات أو الفتك بها.
ثم توصل إلى وسائل جديدة للمكافحة تمثلت في المبيدات والسموم يمكن وصفها بالشمول والسرعة وشدة الفتك.
ولأن حكمة الله اقتضت بقاء النوع الإنساني وبقاء النوع الحشري كذلك فإن الانتصار المفضي إلى إبادة طرف للآخر لم تتحق؛ فلا الحشرات استطاعت إبادة الإنسان الذي لم يكن يملك إلا وسائل بدائية لمحاربتها ومنع تكاثرها المرعب أوالحماية من سمومها وشرورها مقارنة بما تملكه هي نظرياً من مقومات مخيفة وقدرات عجيبة.
كما أن إبادة الحشرات لم تتحقق للإنسان رغم ما توصل إليه في مرحلة لاحقة من حياته من وسائل فاعلة وقوية تأخذ طابع السرعة والشمول والنفاذ، وذلك لأن الله أودع في تكوين تلك الحشرات ما يساعدها على درء خطر الانقراض، ويمكن تلمس المعينات والأسباب التي هيأها الله سبحانه وتعالى لهذه الحشرات كي تحمي نفسها من الهلكة والانقراض في صور عديدة من أهمها:
أولا: صغر أحجامها إلى درجة أن عين الإنسان المجردة لا ترى كثيرا منها، كما أن هذا الصغر يساعدها كثيراً على البعد عن خطر المواد الفتاكة المقصودة بها بسبب قدرتها على تهيئة المخابئ المناسبة اللازمة لمواجهة الخطر المحدق بها مهما صغرت الأمكنة وصعبت طبيعتها نظرا لاستفادتها من ميزة صغر حجمها.
ثانيا: قدرة معظم الحشرات على الاكتفاء بقليل من الماء والغذاء لفترات طويلة، وقدرتها على تحمل الظروف المناخية الصعبة، وقدرتها على التلون بلون البيئة الخارجية مما تصعب معه عملية التعرف عليها، ويساعدها على الاختباء بعيدا عن الإنسان في المخابئ الآمنة مهما بلغ سوء الظروف فيها حتى زوال الخطر.
ثالثا: تغطي معظم أجسام الحشرات حراشيف وطبقات جلدية قوية المقاومة مما يحميها من الظروف الخارجية بما فيها تأثير السموم والمبيدات؛ فتقوم هذه الحماية الخَلْقِيَّة بمنع نفاذ السموم إلى جسم الحشرة وتعطي الحشرة قدرة على مقاومة فعل المبيدات، كما تعطيها قدرة على الهرب من تلك السموم في أقسى ظروف التضاريس والمناخ فتنجو بنفسها من الهلاك والانقراض الذي يهددها.
رابعا: ظاهرة التكاثر الحشري؛ فالتوالد بين الحشرات سريع جدا وكثيف جدا في الغالب؛ مما يجعل مهمة القضاء المبرم عليها أمرا مستحيلاً.
خامسا: تملك الحشرات قدرة عجيبة على المناورة؛ فغالبها يملك قدرة الطيران وسرعة الحركة، أو الزحف مما يجعل صيدها أو القضاء عليها أمرا عسيرا.
سادسا: ما يسره الله عز وجل للحشرات من طرق البحث عن الغذاء وقوة تحملها وصبرها وجلدها في هذا الطلب؛ حتى ضرب الإنسان المثل في الإصرار والجدية والصبر عند جلب الغذاء وبناء المسكن بالنملة التي لها في ذلك فعل هو محل الإعجاب. وكلنا لا يزال يحفظ ما درسناه في الصفوف الأولى عن قصة النملة المكافحة.
وفي عالم الحشرات فإن الله تعالى أظهر للمتبصر من عباده جزءا من حكمته في خلقها في القرآن الكريم، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الواقع المشاهد ولذلك عدة شواهد لعل من أهمها:
أولا: إظهار قدرته على الخلق والتكوين والتسخير وتناسق الصنع مع صغر حجم هذه الحشرات وضعف حيلتها. قال الله سبحانه وتعالى :« يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب» الحج 73.
ثانياً: تسليطه سبحانه وتعالى هذه الحشرات لتعذيب الظالمين والمعاندين؛ للدلالة على ضعفهم عنده واحتقاره لهم بأن سلط عليهم أضعف خلقه فعجزوا عن دفعه.
قال عز وجل: «فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات» الأعراف 133.
ثالثا: الانتفاع بها في مجال الدواء.وهذا الانتفاع قد يكون بأجزاء منها أوبما تفرزه في علاج بعض الأمراض أو الوقاية منها قال سبحانه وتعالى عن النحل:« يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس» النحل 69.
وقد يكون بالانتفاع بها نفسها لمحاربة مسببات الأمراض وفيروساته.
رابعاً: خلقها للاعتبار بها وحث الإنسان على كسب الموعظة منها من حيث صفة الخلق أو نوع التسخير أو السلوك. ويظهر ذلك في عدة صور من أهمها:
الصورة الأولى: وردت في سورة النمل عند الحديث عن قصة سليمان صلى الله عليه وسلم مع النملة فقال تعالى: « حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها» النمل 18.
الصورة الثانية: وردت في سورة النحل فقال سبحانه : «وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا» النحل 68.
الصورة الثالثة: وردت في سورة العنكبوت حيث قال سبحانه وتعالى :« مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون» العنكبوت 41. وتطبيقات هذه الصورة نستشفها من قصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حين طارد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر رضي الله عنه ومروا بهما وهما في الغار حتى إنهما ليريان أقدامهم ومع ذلك منع الله المشركين من رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه عن طريق أضعف خلقه وهو العنكبوت الذي بنى خيوطه في مدخل الغار فصرف الله بعمله هذا أبصار المشركين عنهما.
الصورة الرابعة: نجدها في قوله تعالى في وصف يوم القيامة: «يوم يكون الناس كالفراش المبثوث» القارعة 4. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلا للناس : الفراش الذي يتهافت على النار وبرغم ذلك فإن للحشرات أضراراً كثيرة ومن أوضح أضرارها:
1 إفساد محاصيل الإنسان وزراعته بقضم أوراقها وحفر سيقانها وفروعها وتخريب ثمارها والاستيلاء على غذاء نباتاته وزروعه من ماء ومقويات.
2 تتوالد الحشرات في الأماكن القذرة مما يتسبب في نقل الأمراض للإنسان كما أنها تبني أعشاشها في أماكن التخزين فتفسدها.
3 تزعج الإنسان بصوتها وأزيزها الذي يشبه أزيز الطائرات وكثرة حركتها.
4 تمتص دم الإنسان وتؤلمه بلسعاتها التي قد تسبب له الإصابة بالأمراض والأورام والتشوهات والقروح وتهييج الجلد.
5 تضايق الإنسان برائحتها الكريهة الناجمة عن إفرازاتها أو تحلل أجسامها.
ومن أهم صور الانتفاع بالحشرات عدا ماذكرته من الدلالة على عظمة الخالق وقدرته في الخلق والتسليط على المعاندين، وتهيئة الاعتبار والاتعاظ بأحوالها:
1 إفراز بعض المواد النافعة فمثلا تفرز دودة القز الحرير ويفرز النحل العسل للغذاء وللدواء. كما تساعد الحشرات في تلقيح الأشجار والأزهار.
2 كثير من الحشرات تشكل غذاء رئيساً لكثير من الحيوانات كالأسماك مثلا وللإنسان نفسه في بعض المناطق التي يشح فيها الغذاء كما هي حال البشر الذين يعتمدون على الجراد في غذائهم.
3 تساعد الحشرات في تحسين الخواص الطبيعية للتربة وفي زيادة خصوبة الأرض؛ وذلك لأن تلك الحشرات تقوم بخلخلة التربة وتقليبها وفتح متنفسات لها عن طريق الشقوق التي تصنعها في طريق تنقلاتها وكذلك بواسطة مخلفاتها وتحللها.
4 تؤدي بعض الحشرات خدمات صحية بتغذيها من جثث الحيوانات الميتة والنباتات المتعفنة فتتسبب في إعدامها من البيئة وإزالة آثارها السيئة عن البيئة والكائنات الحية. كما أن لسعة النحل لها تطبيقات علاجية، وكذلك تستخدم بعض يرقات الذباب في علاج بعض الجروح عندما تربى في بيئة معقمة.
5 يعتمد الإنسان في كثير من أبحاثه العلمية على دراسة أحوال الحشرات لتطبيق نظرياته ولمعرفة مدى الاستجابة للمؤثرات المصنوعة في المعامل للتأكد من صحة فروض دراسات سلوكية واجتماعية ونفسية أو اختراعات مادية كالأمصال والأدوية والأسلحة وتأثير الكيماويات في الكائنات الحية وغير ذلك.
إن عالم الحشرات دليل ساطع على عظمة المولى عز وجل وحكمته في الحرص على التوازن البيئي وتتجلى هذه الحكمة العظيمة في منع غلبة الجنس الحشري على الجنس البشري وذلك بتسليط الله سبحانه وتعالى بعض الحشرات على بعض فتقضي عليها إما بالتطفل أوبالافتراس. وكذا جعلها طعاما لبعض الحيوانات.
والإذن بقتل المؤذي منها ولذا فإن «النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقا» والوزغ هو الكبار من سام أبرص وهو من الحشرات المؤذية.
وفي الجانب الاخر النهي عن التسلط على جنس الحشرات ومنع إفنائه حرصاً على بقاء النوع الحشري أسوة بالنوع الحيواني ولذلك شواهد ومنها:
1 (روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه أفي أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح؟ وفي رواية : فهلا نملة واحدة؟!).
2 حملت ثلاث سور من سور القرآن الكريم أسماء ثلاث حشرات هي: النمل والنحل والعنكبوت؛ للتنويه بأهمية هذه الحشرات وضرورة الاعتبار بأحوالها والتأمل في ما يظهر من حكمة خلقها.
إن كثيرا من الناس ينظر إلى هذه الحشرات كل يوم نظرة احتقار دون تأمل في حكمة الله من خلقها وما فيها من العبر والفوائد. فالهندسة المعقدة في بناء البيوت نجدها جلية في بيت العنكبوت. والادخار المنظم والسعي الذي لا يعرف الكلل هوحال النمل والمدن المنظمة والنظام المنسق نجده في خلية النحل وهكذا.
إن عالم الحشرات وما فيه من عجائب مما يعيشه الإنسان في واقعه اليومي فهل يدفعنا الإدراك الواعي لحكمة خلقها إلى توظيف هذه الحكمة الإلهية من إيجاد الحشرات دعوياً والإفادة منها في هداية الناس؟
وبالله التوفيق..
alsmariibrahim@hotmail.com

أعلـىالصفحةرجوع















[للاتصال بنا][الإعلانات][الاشتراكات][البحث]
أي إستفسارات أو إقتراحات إتصل علىMIS@al-jazirah.comعناية م.عبداللطيف العتيق
Copyright, 1997 - 2000 Al-Jazirah Corporation. All rights reserved